في الذكرى الحادية والخمسيـن لحريـق المسجد الأقصى المبارك
بقلم د. يوسف جمعة سلامة
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ-، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى».
في مِثْلِ هذه الأيام قبل واحد وخمسين عامًا تمّ إحراق المسجد الأقصى المبارك، حيث امتدت الأيدي المجرمة إلى المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فقد تعرض المسجد الأقصى المبارك للحريق المشؤوم في 21/8/1969م وأصبح منبر البطل صلاح الدين أثراً بعد عين، وأتت النيران على مساحات شاسعة من المسجد القبلي، وما زالت الحرائق تشتعل في المسجد الأقصى المبارك وتأخذ أشكالاً متعددة، منها: التصريحات المتكررة لقادة الاحتلال والمتمثلة في محاولتهم فرض سيطرتهم على المسجد الأقصى المبارك وتقسيمه، والسماح للمستوطنين بالصلاة فيه، تمهيداً لإقامة ما يُسَمّى بالهيكل المزعوم على أنقاضه -لا سمح الله -، وكذلك الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، والحفريات الإسرائيلية المدمّرة والأنفاق العميقة التي تسببت في تقويض بنيانه وزعزعة أركانه، فالمسجد الأقصى المبارك ما زال في دائرة الاستهداف من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
رحاب القدس مثل رحاب مكة والمدينة
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد الأقصى بالقدس في الآية الأولى من سورة الإسراء كما جاء في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين، ولا يُفرّط في أحدهما، فإنه إذا فرّط في أحدهما أوشك أن يُفرّط في الآخر، فالمسجد الأقصى ثاني مسجدٍ وُضع لعبادة الله في الأرض كما رُوي عن أبي ذرٍ الغفاري –رضي الله عنه – قال: قلْتُ يَا رَسُولَ الله: أَيُّ مَسْجد وُضعَ في الأرْضِ أوَّل؟ قَالَ: «اَلْمسجِدُ الْحَرَامُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «اَلْمَسجِدُ الأقْصَى»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً».
الاعتداءات الإسرائيلية على الأقصى والقدس
إن ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك تتزامن مع الهجمة الشرسة التي تتعرض لها مدينة القدس بصفة عامة والمسجد الأقصى بصفة خاصة، حيث تتعرض المدينة المقدسة لمحنة من أشدّ المِحَنِ وأخطرها، فالمؤسسات فيها تُغلق، والمرجعيات الشرعية والشخصيات الوطنية تُلاحق، والبيوت تُهدم، والأرض تُنهب، والهويات تُسحب، والحفريات تلتهم الأرض، وكل معلم عربي يتعرض لخطر الإبادة والتهويد، والعالم وللأسف يُغلق عينيه، ويصمّ أُذنيه عما يجري في مدينة القدس.
إن الإعتداءات الإسرائيلية والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك تشكل حلقة من المخطط الاحتلالي المتطرف لتهويد المدينة المقدسة، وفرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك من خلال محاولة تقسيمه زمانيًا ومكانيًا تمهيدًا لإقامة ما يُسَمَّى بالهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى المبارك -لا سمح الله-.
إن سياسة التهويد التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي وصلت إلى قلب المسجد الأقصى المبارك، وهى ماضية في تهويد المسجد الأقصى، بحفر الأنفاق أسفله في ظل تعتيم إعلامي كبير، إلا أنها في الفترة الأخيرة أصبحت تُجاهر في تهويدها للمسجد الأقصى المبارك، غير آبهة بالمجتمع الدولي ولا بقراراته، ونحن هنا نؤكد على أن المسجد الأقصى المبارك بساحاته وأروقته وقبابه ومصاطبه وأسواره وكل جزء فيه هو حقٌ خالصٌ للمسلمين وحدهم، وليس لغير المسلمين حق فيه.
كما نؤكد على أن المحاولات الإسرائيلية لفرض أمرٍ واقع في المسجد الأقصى المبارك لن تنجح إن شاء الله، في تغيير الحقائق وطمس المعالم والمقدسات الإسلامية في المدينة المقدسة.
تحية لأهلنا في مدينة القدس
من الأمور المبشرة بالخير، والدالة على تعلق شعبنا الفلسطيني ببلادنا المباركة فلسطين، وقلبها النابض مدينة القدس، ولؤلؤتها المسجد الأقصى المبارك، ما رأيناه من موقف مشرف لأهلنا في المدينة المقدسة الذين ضربوا أروع الأمثلة في الصبر والثبات أمام المحتل المتغطرس، فقد أثبتوا أنهم مع أهلنا من فلسطينيي الداخل على قدر المسؤولية، وأنهم يستحقون هذا الشرف الذي تحدّث عنه النبي -صلي الله عليه وسلم- في العديد من الأحاديث الشريفة حول الطائفة المنصورة في القدس والأقصى.
إننا نُشيد بثبات المقدسيين ووحدتهم ورباطهم وتمسّكهم الدائم بالدفاع عن أقصاهم ومقدساتهم وتصديهم لمخططات الاحتلال الإسرائيلي، فشعبنا الفلسطيني–والحمد لله – لا يزال يُثبت في كل يوم بسالةً وقوة وتضحية في دفاع منقطع النظير عن أرض فلسطين المباركة، وما هَبّة صلاة عيد الأضحى المبارك صباح أول أيام العيد في العام الماضي ومنع الاقتحام الجماعي للمستوطنين إلا دليلٌ على ذلك، فهذه الهبّة المُشرّفة تُضاف إلى سجل الصفحات المشرقة لنضالات شعبنا عبر التاريخ، وما إجبارهم لسلطات الاحتلال الإسرائيلي على إزالة البوابات الإلكترونية والكاميرات الخفية وإعادة فتح أبواب المسجد الأقصى عام 2017م عنا ببعيد، كما لا ننسى هبة المقدسيين في شهر فبراير من العام الماضي بفتح مُصَلَّى باب الرحمة، فقد علّموا المحتل درساً بأن إجراءاته الظالمة لن تمرّ على شعبنا الفلسطيني ولن يوافق عليها إطلاقا، حيث إن المسجد الأقصى المبارك الذي تبلغ مساحته (144) دونمًا بساحاته وأروقته وكلّ جزء فيه سواء كان فوق الأرض أم تحتها هو حق خالص للمسلمين وحدهم، وليس لغير المسلمين حق فيه.
القدس قلب فلسطين النابض
إن مدينة القدس بحاجة إلي خُطوات فعلية تُسهم في المحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صمود أهلها، فمدينة القدس احتُلَّتْ عبر التاريخ مرات عديدة ولكنها لفظت المحتلين وستلفظ هذا المحتل إن شاء الله، هذه المدينة المقدسة في أَمَسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللّثام عما يجري من أعمال بشعة بحقها وتراثها وأهلها، والتي تُشكل إهانة للإنسانية ووصمة عارٍ في جبينها.
إن مسئولية الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك ليست مسؤولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة، فهو الشعب الذي منحه الله -عزَّ وجل – شرف المرابطة في هذه البلاد كما جاء في الحديث: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ، لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، إِلاَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأَوَاءَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ)، بل إنها مسئولية العرب والمسلمين جميعاً بضرورة المحافظة على الأقصى والقدس وفلسطين، والعمل على مساندة هذا الشعب والوقوف بجانبه ودعمه؛ للمحافظة على أرضه ومقدساته.
إننا نطالب أبناء الأمتين العربية والإسلامية ألاّ ينسوا مسرى نبيهم محمد –صلى الله عليه وسلم- ومدينة القدس، كما ندعوهم لضرورة العمل على المحافظة عليها وحماية مقدساتها لأنها جزء من عقيدتهم، هذه المدينة التي تتعرض يومياً لمذبحة إسرائيلية تستهدف الإنسان والتاريخ والحضارة، كما يجب عليهم مساعدة أبناء الشعب الفلسطيني ودعم المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس بكل الطُّرق وفي شَتَّى المجالات، الإسكانية والصحية والتعليمية والثقافية والتجارية والشبابية وغير ذلك؛ لدعم صمودهم وثباتهم في مدينتهم المقدسة.
فالقدس تنتظر بشَغَفٍ المواقف العربية والإسلامية التي تحميها من الضياع والاندثار، كما أن المسجد الأقصى المبارك يخاطب الأمة قائلاً: أدركوني قبل فوات الأوان، فهل من مجيب؟!.
فمدينة القدس لا يُمكن أن تُنسى أو تُترك لغير أهلها، مهما تآمر المتآمرون وخَطَّط المحتلون الذين يسعون لطمس طابعها العربي والإسلامي، ومحو معالمها التاريخية والحضارية، وتحويلها إلى مدينة يهودية.
فالقدس تُناديكم اليوم؛ للتأكيد على أنها عاصمة دولة فلسطين، ولتطبيق العدالة في أعدل قضايا الدنيا، قضية القدس وفلسطين وشعب فلسطين، وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.
إن القدس تقول لكم: سوف يتراجع الظلم، وينهزم الأعداء، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإن الفجر آتٍ بإذن الله رغم أعداء شعبنا وأمتنا، ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا.
نسأل الله أن يحفظ الأقصى والمقدسات والقدس من كل سوء، وصلّى الله على سيدنا محمد T وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)