في أخلاقيات الصديق الرفيعة
قصص ونماذج
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
تربّى الصِّدِّيق على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ كتاب الله تعالى، وعمل به في حياته، وتأمَّل فيه كثيراً، كما أن التربية النبوية على مكارم الأخلاق وملازمة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم جعلت منه صاحب أخلاقا فذة نذكر منها:
أولا: جندية الصِّدِّيق الرَّفيعة وبكاؤه من الفرح:
يظهر أثر التَّربية النبويَّة في جندية أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فأبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل لعلَّ الله يجعل لك صاحباً». فقد بدأ في الإعداد، والتَّخطيط للهجرة (فابتاع راحلتين، واحتسبهما في داره، يعلفهما إعداداً لذلك) وفي رواية للبخاريِّ: «وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمر ـ وهو الخبط ـ أربعة أشهر». لقد كان يدرك بثاقب بصره ـ رضي الله عنه ـ وهو الذي تربَّى ليكون قائداً، أنَّ لحظة الهجرة صعبةٌ قد تأتي فجأةً، ولذلك هيَّأ وسيلة الهجرة، ورتَّب تموينها، وسخَّر أسرته لخدمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره أنَّ الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى من شدَّة الفرح، وتقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ في هذا الشأن: فوالله ما شعرتُ قطُّ قبل ذلك اليوم أنَّ أحداً يبكي من الفرح حتّى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ، إنَّها قمَّة الفرح البشريِّ، أن يتحوَّل الفرح إلى بكاءٍ، وممّا قال الشاعر عن هذا:
ورد الكتابُ من الحبيبِ بأنَّه سيزورني فاستَعْبَرتْ أجفاني
غلب السُّرور عليَّ حتّى إنَّني مِنْ فَرْطِ ما قد سرَّني أبكاني
عينُ صار الدَّمعُ عندكِ عادةً تبكين مِنْ فرحٍ ومِنْ أحزانِ
فالصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يعلم: أنَّ معنى هذا الصُّحبة أنَّه سيكون وحده برفقة رسول رَبِّ العالمين بضعة عشر يوماً على الأقلّ، وهو الذي سيقدِّم حياته لسيِّده وقائده، وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأيُّ فوزٍ في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرَّد الصدِّيق وحدَه من دون أهل الأرض، ومن دون الصَّحْب جميعاً برفقة سيد الخلق، وصحبته كلَّ هذه المدَّة.( الغضبان، 1998، ج2، ص191)
وتظهر معاني الحبِّ في الله في خوف أبي بكرٍ وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصِّدِّيق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جنديُّ الدعوة الصَّادق مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوفٍ، وإشفاقٍ على حياته، فما كان أبو بكرٍ ساعتئذٍ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم: أنَّ أقلَّ جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنَّه كان يخشى على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى مستقبل الإسلام، إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين.(السباعي، 1986، ص71)
ويظهر الحسُّ الأمنيُّ الرَّفيع للصدِّيق في هجرته مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرةٍ؛ منها حين أجاب السَّائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السَّبيل، فظنَّ السَّائل بأنَّ الصِّدِّيق يقصد الطَّريق، وإنَّما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدلُّ على حسن استخدام أبي بكرٍ للمعاريض فراراً من الحرج، أو الكذب. وفي إجابته للسَّائل توريةٌ، وتنفيذٌ للتربية الأمنيَّة التي تلقَّاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الهجرة كانت سرّاً، وقد أقرَّه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.(السباعي، 1986، ص68)
ثانيا: فنُّ التعامل مع النُّفوس:
يظهر الحبُّ العميق الذي سيطر على قلب أبي بكرٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصَّحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا الحبُّ الربَّانيُّ كان نابعاً من القلب، وبإخلاصٍ، لم يكن حبَّ نفاقٍ، أو نابعاً من مصلحةٍ دنيويَّةٍ، أو رغبةٍ في منفعةٍ أو رهبةٍ لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحبِّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته القياديَّة الرشيدة، فهو يسهر لينأموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته، في حياته الخاصَّة والعامَّة، وشارك الناس في أفراحهم، وأتراحهم، وكان عمله لوجه الله، أصابه هذا الحبُّ إن كان من الزُّعماء، أو القادة، أو المسؤولين في أمَّة الإسلام.(أبو فارس، 1997،ص54)
وصدق الشَّاعر اللِّيبيُّ أحمد رفيق المهدويُّ عندما قال:
فإذا أحبَّ الله باطن عبده ظهرت عليه مواهبُ الفتاح
وإذا صفتْ للهِ نيَّةُ مصلحٍ مال العبادُ عليه بالأرواحِ
إنَّ القيادةَ الصَّحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كلِّ شيءٍ، وتستطيع أن تتعامل مع النُّفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحبُّ من الجنود، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً، وشفوقاً بجنوده، وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون، والمفتونون، ومن كانت له مهمَّاتٌ خاصَّةٌ بالهجرة.(البر، 1997، ص205)
والجدير بالذِّكر، أنَّ حبَّ الصِّدِّيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان لله، وممّا يبيِّن الحبَّ لله، والحبَّ لغير الله: أنَّ أبا بكرٍ كان يحبُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مخلصاً لله، وأبو طالب عمُّه كان يحبُّه، وينصره لهواه، لا لله، فتقبَّل الله عمل أبي بكرٍ، وأنزل فيه قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى *} [الليل: 17ـ21]، وأمّا أبو طالب فلم يتقبَّل عمله، بل أدخله النَّار؛ لأنَّه كان مشركاً عاملاً لغير الله، وأبو بكرٍ لم يطلب أجره من الخلق، لا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا من غيره، بل امن به، وأحبَّه، وكلأه، وأعانه في الله، متقرِّباً بذلك إلى الله، وطالباً الأجر من الله، ويبلِّغ عن الله أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده.(ابن تيمية، 1997، ج11، ص286).
_________________________________________________
مراجع البحث
علي محمد الصلابي، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003م صص65-68
تقي الدِّين أحمد بن تيميَّة الحَرَّاني، مجموعة الفتاوى، دار الوفاء، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1997م.
منير الغضبان، التَّربية القياديَّة دار الوفاء – المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.
مصطفى السِّباعي، السِّيرة النَّبويَّة دروسٌ وعبرٌ، المكتب الإسلامي – بيروت، لبنان، الطبعة التَّاسعة 1406هـ 1986م.
عبد الرحمن البر، الهجرة النَّبويَّة المباركة، دار الكلمة، المنصورة – مصر، 1418 هـ 1997 م
محمَّد أبو فارس، السِّيرة النَّبويَّة دراسةٌ وتحليل دار الفرقان، عمان 1418هـ 1997م
تقي الدِّين أحمد بن تيميَّة الحَرَّاني، مجموعة الفتاوى، دار الوفاء، مكتبة العبيكان. 1418هـ 1997م.