مقالاتمقالات مختارة

“فوبيا اللباس الإسلامي”.. لماذا تخاف أوروبا من حجاب المسلمات؟

“فوبيا اللباس الإسلامي”.. لماذا تخاف أوروبا من حجاب المسلمات؟

بقلم المهدي الزايداوي

في يوم 15 يوليو/تموز الماضي، أصدرت محكمة العدل الأوروبية، ومقرها لوكسمبورغ، قرارا يقضي بأن منع ارتداء الحجاب الإسلامي في مكان العمل لا يدخل ضمن خانة القرارات التمييزية ضد الأقلية المسلمة، بل على العكس من ذلك تماما، إذ إنه يساعد على منع “النزاعات المجتمعية”. (1) جاء قرار المحكمة ردا على الشكوى التي تقدَّمت بها مسلمتان تعيشان في ألمانيا، تعمل إحداهما مُمرضة بدار حضانة وتعمل الثانية موظفة في صيدلية، إثر إقدام أماكن عملهما على حظر الحجاب الإسلامي. وقد اعتبرت محكمة العدل الأوروبية أن صاحب العمل أثبت الحاجة الحقيقية إلى اتخاذ هذه الخطوة الهادفة إلى فرض الحياد الديني على جميع الموظفين.

يُعَدُّ هذا الحكم خطوة جديدة في مسار التضييق الأوروبي على المسلمات المحجبات، وهو يأتي بعد خطوات عديدة سابقة اتخذتها عدة دول مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا والدنمارك وبلغاريا بمنع النقاب تارة، وبمنع المحجبات من بعض الحقوق التي عُدَّت عادية حتى وقت قريبا، مثل الحق في الدراسة والعمل وممارسة الرياضة. بيد أن هذا الهوس الغربي بالحجاب (والنقاب)، لم يظهر بين عشية وضحاها، بل نتيجة تراكمات فكرية كوَّنها الأوروبيون طيلة قرون عن الشرق والإسلام، والحجاب الذي يُعَدُّ من مظاهر هذا الدين، قبل أن تنفجر هذه التراكمات في صورة حرب هوياتية على نساء الجاليات الإسلامية في أوروبا.

الاستشراق من وراء حجاب

“للنساء في الشرق عيون واسعة سوداء، يملؤها الحب والرغبة، لكنهن قابعات في أسر رجال أشرار”.

(الكاتب البريطاني توماس مور)

لا يمكننا التحديد على وجه الدقة تاريخ بداية انتشار تلك الصورة النمطية السلبية حول الحجاب في الدول الغربية، واعتباره رمزا للقهر والهيمنة الذكورية على المرأة العربية والمسلمة، لكن هذه الفكرة على كل حال انتشرت بين الأوروبيين أثناء القرن التاسع عشر، رغم وجود بعض الأصوات المعارضة لهذا التنميط داخل أوروبا. (2) نظرت أوروبا إلى الشرق بوصفه مكانا غريبا ووحشيا تسود فيه البربرية والقسوة، لكنه مُفعم بالمتع الحسية الشهوانية والمجون الجنسي اللا محدود. (3) (4)

ظهرت الرومانسية في تلك المرحلة بوصفها مذهبا فنيا يسير على الخط نفسه مع الاستشراق الذي عُدَّ عِلما قائما بذاته في أوروبا، وارتبط مصير الرومانسية بمصير الاستشراق طيلة النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد دفع هذا الأمر بالعديد من الرومانسيين الغربيين إلى البحث عن ذلك الشرق الغامض الذي يفيض رومانسية وإثارة وجمالا. ثمَّ انشغل الغرب بخلق شرق جديد، يتماشى مع الأحلام التوسعية، شرق تنتظر “حريمه” ذلك الفارس الأوروبي القادم لإنقاذ الجمال الغامض الغريب والبعيد. (5)

حضر الجسد “الأنثوي” الشرقي حضورا كبيرا في رسومات المستشرقين التي تناولته من زاوية “الجمال والغريزة”، وأظهرت كتابات الاستشراق الكلاسيكي كذلك اهتماما خاصا بالجسد العربي، إذ تفنَّن “موباسون” و”أندريه جيد” و”فيكتور هوغو” في وصف مفاتن المرأة الشرقية ومغامراتها الجنسية بطريقة ساهمت في تشكيل النظرة الأوروبية عن نساء الشرق. (6) ففي تراجيديا “أنطونيوس وكليوباترا”، واحدة من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي، نجد “ويليام شِكسبير” يُقدِّم شخصية كليوباترا الملكة الشرقية التي تُغوي “أنطونيوس” بالترف والملذات ليُضحِّي بالمال والسلطان مُكتفيا بها، أما “غوستاف فلوبير” فتناول شخصية ملكة سبأ التي حاولت إغواء ناسك بأساليب ماكرة حين قالت له: “أنا لست مجرد امرأة، أنا العالم بأسره، فمتى سقطت ثيابي عني، تتكشَّف الألغاز والأسرار، ومتى امتلكت جسدي، غمرك فرح عظيم لا يُدانيه فرح امتلاك أي قُطْر من أقطار الأرض”.

في السياق نفسه، لعبت رواية “ألف ليلة وليلة” دورا كبيرا في تشكيل هذه الصورة الماجنة عن الشرق في العالم الغربي، ورسم الكتاب صورة مُثيرة عن عالم النساء الشرقيات، وظهر هذا التأثير بوضوح على كتابات المستشرقين، فلم يزر رحالة ولا مستشرق بلاد الشرق إلا وتحدَّث أثناء تجربته عن النساء والمتع الخاصة التي تمنحها المرأة العربية والمسلمة، فموباسون مثلا رأى الجزائر بوصفها مرتعا للرغبات والحواس. (7)

غير أن اقتحام هذا العالم المُثير للنساء الشرقيات لم يكن سهلا، بل تطلَّب حضورا سياسيا وسيطرة عسكرية وتبشيرا كاملا بالغرب وفرسانه الذين قدموا لتحريره بعد أن عاش حبيسا لسنوات، مُتستِّرا من وراء حجاب طويل لا يكشف مفاتن الجسد، ولا حتى ملامح وجه صاحبته. ومن ثمَّ بدأ الاستشراق يُحضِّر للحركة الاستعمارية، ومنحها صورة المهمة الحضارية لإنقاذ الشرق العربي الإسلامي الغارق في الخرافات والتخلُّف والمجون.

اعتبرت الحركة الاستعمارية الحجاب أداة فعلية لقهر المرأة، التي لن تنهض وتتحرَّر إلا حين تتبع الأفكار الغربية، فالحجاب حسب تلك المنظومة الاستشراقية يعني انحطاط المرأة التي تختار ارتداءه. ورغم أن هذه الأفكار موغلة في الذكورية الغربية التي صاغتها برغبة جنسية واضحة، فإن العديد من الفنانات والكاتبات من النسويات روَّجن لهذه الفكرة حول نساء الشرق بوصفهن مخلوقات جنسية خاضعة لسلطة الرجل العربي. (8) (9)

في كتابها “نظرة الغرب إلى الحجاب”، ذكرت الكاتبة الكندية “كاثرين بولوك” قصة محامٍ أوروبي أقام بالجزائر، وسمحت له طبيعة عمله رؤية النساء بدون نقاب، فقال مُتحدِّثا إلى أحد زملائه: “يقع على الرجال الجزائريين ذنب إخفاء هذه النماذج الجميلة من الحُسن الغريب، إن شعبا لديه هذا الكنز من الدرر ونماذج الكمال الطبيعي ينبغي ألا يحتفظ بها لنفسه وأن يكشفها ويعرضها وإن لم يكن من سبيل لذلك إلا إرغامهم عليه”. ورغم أن الأمر لم يكن سوى أمنية من محامٍ أراد عرض جمال الشرق على العالم من دون حجاب، فإن السلطات الفرنسية في الجزائر شجَّعت بالفعل النساء على نزع حجابهن حين أقدم عدد من القادة العسكريين الفرنسيين بتنسيق مع زوجاتهم على تنظيم “مهرجان لخلع الحجاب” في 17 مايو/أيار 1958، إذ نزعت بعض الجزائريات حجابهن وحرقنه خلف بوابة الحكومة العامة بحماية جنود من الحركى (أ)، بعد أن عملت فرنسا كثيرا عبر النوادي النسائية ودور السنيما والمسرح على تكثيف المبادرات الموجَّهة للنساء من أجل تحريرهن من الحجاب والنقاب.

تجاوز الأمر محاولة إقناع النساء العربيات والمسلمات بنزع الحجاب. فقد عرض الكاتب الجزائري “مالك علولة” في كتابه “الحريم الكولونيالي” العديد من الصور الفوتوغرافية التي أخذها الفرنسيون لنساء مسلمات من المغرب والجزائر دون الإشارة إلى أسمائهن بعد تعرية أجسادهن، وتحويل صورهن إلى “بطاقات معايدة” أرسلها الفرنسيون المقيمون في الدول العربية المحتلة إلى ذويهم في فرنسا، وهي خطوة مَثَّلت استباحة كاملة للمرأة العربية مع تجريدها من حجابها الذي مَثَّل حاجزا صارما لا يمنح “فرسان الغرب” فرصة استكشاف جسدها الذي ألَّفوا وكتبوا عنه الكثير.

لم تكن الحضارة الغربية التي وصلت إلى قمة المجد، بعد أن أخضعت الدول العربية والإسلامية لسوط الاستعمار، لتقبل أن تخفى عنها خافية، فأعلنت حربا لا هوادة فيها على النقاب والحجاب. فكما قالت صحيفة التايمز سنة 1851 بمناسبة المعرض العالمي الكبير: “نحن شعب نحب أن نضع كل شيء في حوزتنا في صناديق زجاجية ثم ننظر إليه ما وسعنا النظر”، لذلك كان المطلوب، بل والمفروغ منه، أن يتمكَّن الرجل الغربي من النظر كيفما شاء وحيثما شاء إلى الرعايا الخاضعين له، طوعا أو كرها. (10)

صناعة العدو

“الحجاب الإسلامي غير مرحَّب به داخل مجتمعنا”.

(جان ميشيل بلانكير، وزير التعليم الفرنسي)

خرجت أوروبا مع حلول منتصف القرن العشرين من معظم مستعمراتها، وعادت إلى أراضيها مُثقلة بخسائر عسكرية واقتصادية ليست بالهيِّنة، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية التي دمَّرت القارة وقتلت الملايين من سكانها، لذلك كان لزاما عليها البحث عن يد عاملة تُعيد بناء هذه البلدان وتُعيد القارة العجوز سيرتها الأولى. ومن ثمَّ انتقل الآلاف من العرب والمسلمين إلى الجانب الآخر من المتوسط بحثا عن مستقبل أفضل، مُلبِّين في الوقت نفسه حاجة أوروبا إلى اليد العاملة. لكن هذه الجاليات العربية والإسلامية لم تنتقل وحيدة، بل حملت معها عاداتها ومعتقداتها الدينية، ومن أبرز ما حملته معها ذلك الحجاب الذي ارتدته النساء عادة أو عبادة.

انتقلت بذلك المواجهة بين الغرب والحجاب إلى الداخل الأوروبي، وبدأت أزقة أوروبا تعرف هي الأخرى حضور النساء المحجبات اللائي عشن في منازل مُغلقة في الشرق، ومع مرور السنوات بات حضورهن يُشكِّل تحديا ثقافيا قويا لأوروبا، ما أفضى إلى تبلور معركة ضد الحجاب، الذي ظلَّ يُمثِّل عند قطاع مُعتَبر من المجتمع الغربي دليلا على غرابة الشرق وتخلُّفه واستعباده للنساء.

تجمع قضية الحجاب بين مشكلتين أساسيتين تعاني منها أوروبا حاليا، المشكلة الأولى تخص الأقليات المهاجرة التي تجمَّعت في ضواحي المدن بالأحياء المُصمَّمة خصيصا للجيل الأول من المهاجرين. أغلقت هذه الأقليات الأبواب على نفسها بعد أن عانت من عدم القبول السياسي والمجتمعي لها، وكوَّنت “جيتوهات” مغلقة شكَّلت تحديا كبيرا للسياسات العامة الأوروبية خصوصا في فرنسا، التي تحتضن أكبر جالية إسلامية في أوروبا.

أما المشكلة الثانية فهي مكانة المرأة في المجتمعات الغربية، إذ لا يزال إشكال عدم المساواة بين الرجال والنساء حاضرا في سوق العمل وفي الأجور وفي حجم المسؤوليات العملية التي يتحمَّلها كل جنس. ولأن الترسانة القانونية والفكرية والسياسية في أوروبا لم تتمكَّن من حل هذه الإشكاليات المعقدة، كان لا بد من إيجاد مسألة سهلة الحل تساعد على مواجهة مشكلات إدماج المهاجرين والمساواة بين الرجال والنساء دون تكلفة عالية، ودون الدخول في نقاشات حقيقية تُظهِر عجز المنظومة عن إيجاد أي حلول فعَّالة، عدو لا تحتاج محاربته إلى أسلحة فكرية وقانونية خارج الصندوق، بل تكتفي بخطاب يعطي الجماهير انطباع تحقيق انتصار هوياتي.

كانت البداية في فرنسا، العدو الأول للحجاب في أوروبا. وتُعَدُّ قوانين الجمهورية الفرنسية فخرا للفرنسيين كونها الامتداد الطبيعي للثورة الفرنسية، التي فتحت الباب للمضطهدين والفارّين وأرادت أن تصنع من فرنسا أرضا تُقدَّس فيها الحرية والمساواة والإخاء. لكن القوانين التي يحرص الفرنسيون على تقديسها صارت من جهة أخرى أداة لتوسيع اللا مساواة والعنصرية واحتقار الآخر. (11) لم يكن تدشين الحرب على الحجاب سهلا، ففي عام 2003، وقبل سنة واحدة من إقرار منع الرموز الدينية في المدارس والفضاءات العمومية بفرنسا، لم تُسجِّل البلاد سوى 1200 خلاف بسبب الحجاب، 24 منها فقط احتاجت إلى تدخُّل قضائي. لذا، كان الهدف الرئيسي هو تضخيم القضية لتصبح قضية رأي عام، ولتحقيق ذلك اعتمدت الحكومة الفرنسية على سياستين أساسيتين.

أولاهما، التشكيك في الإحصائيات الرسمية، إذ اعتبرت الحكومة الفرنسية أن أخذ توصيات وآراء العاملين في المجالات التي عرفت مشكلات مع المحجبات، وأصحاب الخبرات من مساعدين اجتماعيين ورؤساء بلديات وناشطين، أهم من الإحصائيات الرقمية. وثانيهما، النظر إلى هذه الأرقام بوصفها جزءا صغيرا ظاهرا من جبل جليد، وأن خروجها للعلن يعني وجود مجهودات خفية من طرف ما يسعى لتغيير النظم الاجتماعية الغربية عبر فرض الآراء الدينية الإسلامية على فرنسا وأوروبا. ويُشير تقرير “برنارد ستاسي”، رئيس اللجنة التي أوكل إليها “جاك شيراك” النظر في مسألة الحجاب، إلى وجود “قوى ظلامية” و”نشطاء سياسيين دينيين” و”تيارات سياسية متطرفة” تهدف إلى تدمير الديمقراطية الغربية وأسلوب حياتها المبني على الحرية والمساواة. (13)

حاولت الحكومة الفرنسية إظهار خطواتها المُعادية للحجاب بوصفها محاولة لتحرير النساء العربيات والمسلمات، وتحدَّثت وسائل الإعلام كثيرا عن الحجاب والنقاب ورمزيتهما، وسلَّطت الضوء على الحركات النسوية التي حاربت “فرض الحجاب بالقوة” في بعض الدول العربية والإسلامية من أجل تأكيد الاضطهاد الذي تعانيه النساء في العالم العربي. لكن محاولة البحث عن المساواة الكاملة من وجهة النظر الفرنسية، أوقعت النساء المحجبات في فخ اللا مساواة، إذ حرمت سياسات فرنسا المسلمات اللاتي يلبسن الحجاب فعليا من حقوقهن في التعليم والعمل وممارسة الرياضة ومرافقة أبنائهن في الرحلات المدرسية، فزادت بذلك عُزلتهن عن المجتمع الذي يعشن فيه.

في هذا السياق، اعتبر الباحث الفرنسي “إمانويل تيراي” في دراسة حملت عنوان “مسألة الحجاب: الهستيريا السياسية”، أن هناك تحاملا كبيرا على المحجبات بوصفهن الوحيدات المقصودات من السياسات العلمانية الفرنسية التي لا تقترب من الراهبات الكاثوليكيات أو من الجالية اليهودية بالدرجة نفسها. ويُضيف أنه إذا مَثَّل الحجاب فعلا رمزا لهيمنة الرجل على المرأة واستعبادها، فإن منعه يجب ألا يقتصر على المدارس والإدارات العمومية، بل إن على الحكومة حظره في شتى مناحي الحياة، وإلا فإنها تصبح متواطئة هي الأخرى مع هذا الظلم المجتمعي الذي تتعرَّض له المرأة المسلمة، منتقِدا في الوقت نفسه غياب أي نقاش مجتمعي حول قضايا المتاجرة الحقيقية بالنساء كالدعارة واستعمال أجسادهن في الإعلانات والأفلام الإباحية. (14)

لم يكن “الخضوع للرجال” إذن السبب الوحيد الذي جعل الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، تُظهِر موقفا عدائيا تجاه الحجاب، بل ثمة سبب آخر أكثر واقعية وارتباطا بالأرضية الأيديولوجية الغربية التي تقف عليها هذه الدول في اللحظة الحالية، بالتوازي مع صعود اليمين، وهو مسألة الهوية.

الحجاب عدوا للهوية الغربية

“كانت ماريان عارية الثدي لأنها أطعمت الشعب، ولم تكن محجبة لأنها لم تخضع لأحد”.

(مانويل فالس، الوزير الأول الفرنسي السابق)

يحلم الكثير من المهاجرين إلى الدول الأوروبية بذلك اليوم الذي يتمكَّنون فيه من الحصول على جواز سفر بلد الإقامة، لما قد يوفره من حرية في التحرُّك والسفر، وتحصين من تقلُّبات السياسة الداخلية التي قد تنتهي بالطرد، لكن إجراءات التجنيس، تزداد صعوبة على صعوبتها في حالة كانت طالبة هذا الجواز سيدة محجبة.

في عام 1993، كشفت المفتشية العامة الفرنسية للشؤون الاجتماعية عن تقرير ينتقد بعض ممارسات إدارة التجنيس، على اعتبار عدم احترام هذه الأخيرة لمبدأ تكافؤ الفرص في منح الجنسية الفرنسية، إذ تعتمد في ذلك على معايير غاية في الضبابية مثل نسبة اندماج صاحب الطلب مع قِيَم الجنسية الفرنسية، وهو شيء لا يمكن قياسه بوضوح، عكس المعايير الأخرى مثل فحص القدرات المالية للمترشِّح، ومدى قانونية إقامته بالبلاد، ومدى التزامه بالقانون المحلي. تستفيد إدارة التجنيس في فرنسا من وجود بعض الثغرات في قانون التجنيس، الذي لا يتطرَّق بوضوح لجميع عناصر الرفض أو القبول، وهو ما يمنح كل ولاية الحق في تحديد المُواطِن الصالح انطلاقا من مجموعة نقاط تُحدِّدها بنفسها دون سند قانوني صريح. (15)

في دراسة له بعنوان “الحجاب ومشكل الاندماج: دراسة في إشكالية حيازة الجنسية الفرنسية”، كشف “عبد العالي حاجات”، الباحث في علم الاجتماع بجامعة بروكسِل الحرة، أن إدارة التجنيس الفرنسية تعتبر الحجاب عائقا ودليلا بارزا على عدم اندماج النساء المسلمات اللاتي يرتدينه مع قِيَم الجمهورية الفرنسية، إذ يزيد ارتداء المرشَّحة لهذا الزي الديني فرص رفض ملف التجنيس الذي تتقدَّم به. (16)

الدراسة التي شارك فيها عدد من الموظفين بإدارة التجنيس في مختلف الجهات الفرنسية كشفت تفاصيل مهمة متعلِّقة بطقس استجواب المرشحات المحجبات، إذ بمجرد دخولهن المكتب، يطلب الموظفون منهن التخفُّف من ملابسهن ونزع حجابهن، وفي حالة وافقت المرشَّحة تُعتَبر تلك نقطة إيجابية، أما إذا ما رفضت فيُدوَّن ذلك في الملف المُرسَل بعد ذلك إلى وزارة الداخلية للبت في الطلب. تطوَّر هذا الطقس غير القانوني بعد ذلك، إذ كشفت الدراسة تعمُّد بعض الموظفات استدعاء زملاء رجال حتى بعد قبول المرشَّحة المحجبة لخلع حجابها، لمراقبة ردة فعلها، وتُفسَّر أي علامة ضيق من جانبها بأنها درجة من درجات عدم اندماجها مع أسلوب الحياة الفرنسي.

لم يظهر هذا التمييز في مسألة الحجاب والنقاب مع إقرار منع الرموز الدينية في فرنسا عام 2004، بل إنه يعود في الحقيقة إلى نهاية الثمانينيات. وقد طرح عدد من الموظفين بإدارة التجنيس سؤالا على وزارة الداخلية لمعرفة ما إن كان ارتداء الحجاب يمنع من حيازة الهوية الفرنسية، لكنهم لم يحصلوا على جواب شافٍ نتيجة لغياب أي سند قانوني لمنع المحجبات من الجنسية، لا سيما بعد أن ألغى مجلس الدولة الفرنسي قرارا للوزارة بعدم منح الجنسية لسيدة منتقبة، إذ اعتبر المجلس أن اللباس ليس ذا صلة قانونية بالحق في التجنيس. (17)

رغم ذلك، طلب “جون بيير شوفانشون”، وزير الداخلية الفرنسي السابق، من موظفي إدارات التجنيس الإشارة في تقاريرهم إلى الحجاب مع حثهم على التمييز بين الحجاب السيئ والحجاب المقبول، والحجاب السيئ ببساطة هو الحجاب الإسلامي الذي تحرص فيه المحجبة على تغطية جسدها كاملا بما في ذلك منطقة العنق والأذنين والشعر كله، فيما الحجاب المقبول هو الحجاب التقليدي الذي ترتديه النساء في عدد من الدول الإسلامية ويُعَدُّ مظهرا ثقافيا أكثر ولا يغطي جسد المرأة بالدرجة نفسها. وقد قالت إحدى المشاركات في هذه الدراسة إنها تُفرِّق بين الحجاب الشعبي والحجاب الإسلامي بالألوان والزركشات، إذ تعتبر أن الحجاب الإسلامي دائما ما يكون أسود في حين يكون الحجاب الشعبي متألِّقا بالألوان، وهو ما يعكس نوعا من السطحية والتنميط لدى بعض موظفي إدارة التجنيس. (18)

لا تقف الأمور عند هذا الحد، فإذا ما تمكَّنت المُتقدِّمة من تجاوز هذه العقبات وحيازة الجنسية، فسيلزمها أن تُضحِّي من جديد خلال الحفل الذي تُقيمه البلديات احتفالا بـ “الفرنسيين الجدد”، إذ يُطلَب منها خلع حجابها قبل صعود المنصة للسلام على المحافظ، ورغم أن المناسبة شكلية أصلا وليس لدى المحافظ سلطة إلغاء قرار وزير الداخلية، فإن عددا من النساء يوافقن خوفا من سحب الجنسية منهن.

يفسِّر “عبد العالي حاجات” هذا الهوس بالحجاب برغبة الدولة بمفهومها القومي والقُطْري والسياسي في السيطرة التامة على مواطنيها قلبا وروحا وجسدا. ويقول الباحث الفرنسي من أصول عربية تعليقا على هذا الأمر إنه ليس مرتبطا فقط بالتوجُّه الفكري والعقائدي لهؤلاء المترشِّحات، بل يعكس أيضا رغبة الدول الغربية في التحكُّم بالصورة الجنسية للمقيمين بها. وقد أشار المفكر الفرنسي “ميشيل فوكو” إلى تلك الظاهرة قائلا إن “الدول الغربية مرَّت من مرحلة التحكُّم في الموت إلى التحكُّم في الحياة”، مُضيفا أن أوروبا تعتبر الجسد عاملا سياسيا كاملا ينبغى التحكُّم به بوصفه جزءا من التحكُّم بالحياة.

بيد أن هذه المعركة مع الحجاب بوصفه مظهرا إسلاميا لا تبدو بالسهولة التي تمنَّتها فرنسا وبعض الدول الأوروبية، وذلك لأن الحجاب ليس مجرد شعيرة دينية خاصة بالمسلمات، بل يتجاوز كل ذلك إلى كونه جزءا من الهوية التي يحارب المسلمون في الغرب من أجل المحافظة عليها، ولذا تكون ردة الفعل على قوانين منع الحجاب واسعة الانتشار في صفوف المهاجرين المسلمين، خصوصا أن الجالية الإسلامية ترى هامش الحرية الكبير الذي تنعم به الأقليات الأخرى من الهندوس واليهود دون مضايقات أو تجييش للقوانين والإعلام لاستئصالهم. (19)

أخيرا، تزداد تلك المعركة الهوياتية التي تخوضها الجاليات الإسلامية صعوبة بسبب انتشار أفكار محاربة الحجاب والنقاب واعتباره لباسا طائفيا في خضم موجة اليمين المتصاعدة ومحاولات استمالة اليمينيين من جانب أحزاب محافظة ووسطية في أوروبا. بيد أنها أفكار ذات جذور أقدم، تعود إلى بداية استعمار الدول العربية حينما ظهرت نخب مُتماهية مع رياح التغريب الثقافي حاربت اللباس الإسلامي واعتبرته دليلا على التخلُّف والظلامية، وظهرت معها بالتوازي تصوُّرات استشراقية في صفوف المسؤولين الأجانب في الشرق حيال تغطية المرأة المسلمة لجسدها.

——————————————————————————————————

المصادر

  1. محكمة العدل الأوروبية: منع ارتداء الحجاب في العمل “ليس تمييزيا ويجنب النزاعات الاجتماعية”
  2. نظرة الغرب إلى الحجاب، كاثرين بولوك، العبيكان.
  3. المصدر السابق.
  4. يقصدون النبي عليه الصلاة والسلام
  5. نظرة الغرب إلى الحجاب، كاثرين بولوك، العبيكان
  6. الاستشراق الجنسي، محمود الشيخ.
  7. المصدر السابق.
  8. نظرة الغرب إلى الحجاب، كاثرين بولوك، العبيكان.
  9. المصدر السابق.
  10. المصدر السابق.
  11. La question du voile : une hystérie politique
  12. المصدر السابق.
  13. COMMISSION DE REFLEXION SUR L’APPLICATION DU PRINCIPE DE LAÏCITE DANS LA REPUBLIQUE
  14. La question du voile : une hystérie politique
  15. Port du hijab et « défaut d’assimilation ». Étude d’un cas problématique pour l’acquisition de la nationalité française
  16. المصدر السابق.
  17. المصدر السابق.
  18. المصدر السابق.
  19. الأيديولوجية الاستئصالية لدى الغرب: حجاب المرأة المسلمة نموذجا، محمد الهزايمة، مجلة المنارة.

——————————————————————–

هوامش

(أ) الحركى: الجنود الجزائريون الذين تطوَّعوا للقتال بجانب فرنسا في حربها ضد الشعب الجزائري.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى