مقالات مختارة

فهم القرآن من المفسرين إلى المسلمين

بقلم مسعود صبري.

يتصور كثير من الناس عند قراءته للقرآن أنه يتوجب عليه حتى يفهم القرآن أن يقرأ في كتب التفسير في كل آية وكل كلمة، فهو لا يستطيع أن يفهم أي شيء في القرآن حتى يعرف تفسيرها من كتب التفاسير، فيقف عند المعنى اللغوي والمعاني الاشتقاقية والمعاني الورادة عن السلف والعلماء في كل كلمة من كلمات القرآن، وهذه التفيكر المسبق يجعل الإنسان مغلق الفهم حتى في المعاني التي لا تحتاج إلى تفسير أو بيان..

ويشهد لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر كل القرآن على الراجح من أقوال أهل العلم،  بل إن الأحاديث الواردة في تفسير الآيات قليلة جدا بالنسبة لآي القرآن الكريم، وكذلك الصحابة – رضوان الله عليهم- لم يفهم عنهم كثرة تفسير القرآن الكريم، إلا ماكان من ابن عباس – رضي الله عنه- لأنه كان يجلس للتفسير، والتفسير الكامل المنسوب إليه غير متفق على نسبته إليه.

ثم إن القرآن يفسره بعضه بعضا، وكان هذا أحد أوجه التفسير النبوي، ومن تفسير القرآن للقرآن  قوله تعالى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] ، فالكلمات التي تلقاها ورد بياناها في قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23].

ونلحظ أن كل عصر متقدم تقل فيه مرويات التفسير، فتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن قليل، ثم تفسير الصحابة له قليل أيضا، ثم تفسير التابعين أكثر من تفسير الصحابة، ثم تفسير تابعي التابعين أكثر من تفسير التابعين، ثم كثر التفسير في الخلف والمتأخرين.

إن الصحابة – رضوان الله عليهم – لم يكونوا يقفون عند كل آية من القرآن الكريم حتى يعرفوا معناها، بل كانوا يكتفون بالمعنى العام للآية إن لم يترتب على معرفة المفردات أحكام مهمة، فلم يقف أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما- عند معنى الأب في قوله تعالى، الوارد في قوله تعالى: {وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } [عبس: 30، 31]

فالحديث هنا عن تعدد النعم التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان، وأن على الإنسان أن يتفكر في هذه النعم، وأن مافيه من راحة ونعيم هي من الله تعالى، فكان واجبا عليه أن يشكره بتوحيده وأن يحسن في استعمال تلك النعم العظيمة، التي هي هبة من الله إليه.

إن القرآن الذي أنزله الله تعالى للإنسان يستحيل أن يكون كله مغلقا، أو أن يكون كهنوتا محصورا في عدد من الأشخاص في الأمة، وهذا هو الغالب في القرآن

إن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب للعالمين، ففيه خطابه سبحانه وتعالى لكل البشر، باختلاف أجناسهم وألوانهم، وقد وقف الناس في الكشف عن مراد الله تعالى إلى فريقين:

– فريق يرى أنه لابد أن لا يفهم أي شيء من كتاب الله إلا من خلال كتب التفسير.

– وفريق آخر يرى أن القرآن لا يحتاج إلى التفسير مطلقا، بل لكل مسلم الحق أن يفسر القرآن كيف يهوى حسبما يراه.

والحق أن الأمر لا هذا ولا ذاك، بل هو كما قسم ابن عباس – رضي الله عنه- القرآن إلى أربعة أقسام:

الأول: قسم يفهمه كل أحد، فهو لا يحتاج إلى تفسير، فكثير من آيات القرآن الكريم لا تحتاج إلى تفسير العلماء، فالله تعالى أنزلها سهلة ميسورة، يفهمها كل الناس، ولعل مما يشهد لهذا قوله تعالى: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، فهذا أحد أوجه تيسير الله تعالى كتابه لعباده.

الأمر الآخر أنه يعرف بالتجربة، فلو أن مسلما يجيد قراءة القرآن وفتح المصحف من أي موضع، فيقرأ عددا من الآيات بتركيز وتؤدة، سيجد نفسه أنه يفهم غالب الآيات، وأن بعض العبارات القرآنية، أو أجزاء من الآيات هي التي تحتاج إلى تفسير وبيان.

القسم الثاني: مايفهم وفق قواعد اللغة العربية، فمن درس علوم العربية من النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع وعرف دروب الأدب شعرا ونثرا وغيرهما؛ كان أقدر على فهم جزء كبير من القرآن الكريم.

وهذا النوع الذي يتحدث عنه ابن عباس – رضي الله عنه- يمكن أن نقسمه قسمين، الأول: هو مايحتاج إلى متخصصين في اللغة العربية، والثاني: أن كل من يدرك العربية حتى ولو كان من العوام باعتبار أننا جميعا ندرس اللغة العربية في المدارس والجامعات، فهناك حصيلة من اللغة العربية تؤهل عوام المسلمين أن يفهموا قسطا من القرآن الكريم؛ بناء على قواعد اللغة.

القسم الثالث: ما يعرفه العلماء الراسخون في العلم، وهذا الذي يحتاج إلى بيان وتفسير وتأويل، ولا يجوز للإنسان أن يفهمه وفق هواه، وإنما يجب عليه أن يرجع إلى العلماء المتخصصين، أو كان قادرا على قراءة كتب التفسير وفهمهما، فما ينبغي أن يفهمه وحده.

القسم الرابع: ما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، ويضرب بذلك مثلا الحروف المقطعة، فإن الله تعالى تحدى العرب باعتبارهم أرباب اللغة وفقهاؤها وعلماءها وأدرى الناس بها، وأعلم الناس بالمفردات العربية التي تتكون من حروف الهجاء، فيتحداهم الله تعالى في تخصصهم الذي يباهون الناس به، وهو وجه التحدي، فإن التحدي الحقيقي أن تتحدى الخبراء في صنعتهم، وصنعة العرب الكلام، فيجيء القرآن ويقول لهم ( ألم) ( حم) ( طس) ( طسم) (كهيعص)، ويسألهم تحديا عن معنى تلك الكلمات، فلا يستطيعون جوابا! وهو المقصود بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]

وعلى هذا النحو، فغالب القرآن إذا قرأه عوام الناس يستطيعون أن يفهموه في الجملة، ويبقى هناك آيات منه لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، وهناك ما لا يعلم تأويله على الحقيقية إلا الله، وهذا الأخير هو أقل المساحات في كتاب الله تعالى.

إن إدراك أن غالب القرآن مفهوم لا يحتاج إلى بيان ولا تفسير، يجعل المسلم العامي – أي المتخصص في غير علوم الشريعة- أنه قادر على فهم كتاب الله تعالى في جله، وأن هناك مساحة لابد فيها من الرجوع للعلماء أو الاطلاع على ما كتب في التفسير، ثم يفوض أمر النوع الأخير إلى الله تعالى، إن من يجرب تلك الطريقة سيجد آفاقا أرحب في فهم كتاب الله تعالى، وسيستكشف نفسا مدركا لكثير من مراد الله تعالى من كلامه.

وإن الأنواع الأربعة غالبها يكون في كل سورة، بل قد تكون في الآية الواحدة إن كانت طويلة.

إذا أخذنا مثلا أول آيات في سورة آل عمران، سنجد أن أولها يبدأ بالقسم الرابع، وهي الحروف المقطعة التي لا يعلم تأويلها إلا الله، ثم بعد الآية الأولى سنجد من الآيات ما هو مفهوم لا يحتاج الإنسان إلى تفسير، وإن كان بالمعنى العام، مثل: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، وقوله سبحانه: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).

ومنه ما يحتاج إلى تأويل أهل العلم، كما في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ).

وفيها ما يعرفه أهل العربية كما في معنى قوله (  القيوم) في قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

غالب القرآن إذا قرأه عوام الناس يستطيعون أن يفهموه في الجملة، ويبقى هناك آيات منه لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، وهناك ما لا يعلم تأويله على الحقيقية إلا الله

وقد يختلف الناس في فهم الجزء الخاص باللغة العربية حسب ما يعرفونه من اللغة وثقافتهم منها.

إن هذه الرؤية مبنية على عموم الآيات التي تدعو إلى التدبر والتفكر والفهم لكتاب الله تعالى، كقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

إن القرآن الذي أنزله الله تعالى للإنسان يستحيل أن يكون كله مغلقا، أو أن يكون كهنوتا محصورا في عدد من الأشخاص في الأمة، وهذا هو الغالب في القرآن فيما يتعلق بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب وخلق السموات والأرض والدعوة إلى الله تعالى وغير ذلك.

أما ما كان طريقه الأحكام، فلا يحل للإنسان أن يفهم مراد الله تعالى في آيات الأحكام وغيرها من تلقاء نفسه، بل يجب عليه أن يعود إلى أهل العلم ليسألهم عن مراد الله تعالى فيها.

ثم كلما قويت ملكة الإنسان في اللغة العربية بفنونها كان أقدر على فهم القرآن مما مجاله اللغة.

والقرآن بهذه الرؤية متسع لكل الأمة، فمنه ما هو عام للناس جميعا في الفهم، ومنه ما هو خاص بطائفة العلماء، ومنه ما لا يعلم تأويله إلى الله.

ثم هو بعد ذلك لا يخلق من كثرة الرد، فكلما نظر فيه المسلمون وجدوا فيه من المعاني مالم  ينكشف لمن قبلهم دون أن يكون فيه انحراف أو تضاد أو اختلاف، وصدق الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

المصدر: الاسلام أون لاين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى