بقلم د. وصفي عاشور أبوزيد
إذا قرأ المسلم القرآن، وأتقن القراءة، وحفِظه وأتقن الحفظ، فأحرى به أن يكون له وقفات عقلية مع آياته وقصصه، وقيمه وموازينه، وتصوراته وأفكاره، وأسسه ومبادئه، وأهدافه ومقاصده؛ لأن التدبر نوع من الاهتمام بالقرآن الكريم.
وقد قال الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]،وقال أيضًا: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
يقول الأستاذ سيد قطب: “ويتساءل في استنكار: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [محمد: 24]… وتدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير، ﴿ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24] فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور؟! فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!”.
ومن أدوات الفهم تعلم اللغة العربية بآدابها وعلومها؛ فهي الوسيلة لفهم مراد الله؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين، وكذلك فهم السنة النبوية ودراستها دراسة مستوعبة؛ لأنها مصدر لا بد منه في فهم القرآن، فهي الشارحة لمعانيه، والمبينة لمبهماته، والمفصلة لإجماله.
وفهم القرآن أو محاولة فهمه والتدبر فيه أمر ضروري للداعية؛ حتى يبلِّغ عن فهم وبصيرة وعلم وحكمة، وإلا أساء من حيث أراد الإحسان، وأصيبت الدعوة على يديه بهزائم شديدة؛ ذلك أن الفهم هو مقصود كبير من مقاصد القرآن الكريم، فإذا كان العمل هو لب التعامل مع القرآن الكريم، فالفهم مفتاح ذلك العمل، وقد قال الله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
وقد وضح الإمام ابن القيم قيمة الفهم وهو يشرح كتاب عمر في القضاء فقال تحت عنوان: “الفهم الصحيح نعمة”:
وقوله: “فافهم إذا أدلي إليك” صحةُ الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم، الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين، الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعَم عليهم، الذين حسُنت أفهامهم وقصودُهم، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهديَنا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب مَحمَدة الخَلْق، وترك التقوى[1].
ولفهم القرآن درجات:
1- فهم لمعاني مفرداته الكريمة، وفيه يتعرف المسلم على معاني المفردات التي لا يفهمها؛ حتى يتضح له المقصود، ويفهم المراد.
2- وفهم ما لا بد منه من سياق الكلام: وهو المعنى الكلي للقصة أو المشهد أو السورة، ويعتبر الفهم السابق جزءًا منه.
3- وهناك فهم دقيق وتأمل عميق؛ للوصول إلى معرفة مقاصد القرآن الكريم ومراميه، وهو أثر ونتيجة للنوعين السابقين، إضافة لطول التأمل والتدبر والإخلاص لله تعالى، وفيه يقف المسلم على أسرار وحِكَم وأبعاد ومرامي القرآن.
وهناك طريقة هامة جدًّا لمن أراد أن يفهم موضوعًا معينًا في القرآن الكريم، ألا وهي القراءة الموضوعية، بمعنى: إذا أراد أن يتعرف على التقوى في القرآن، أو اليوم الآخر في القرآن، أو الرسول في القرآن، أو السيرة النبوية في القرآن، أو عقائد الآخرين في القرآن، أو المرأة في القرآن[2]، أو الإنسان في القرآن، أو أي موضوع آخر – فما عليه إلا أن يقرأ القرآن من أوله إلى آخره، ويبحث عن هذا الموضوع، ويركز عقله وفكره في البحث عنه، سواء باللفظ أو المعنى، وليحذر أن يتبع طريقة البحث باللفظ أو بالكلمة عن موضوع معين، فلن يحصل إلا على نتيجة شائهة لطبيعة معالجة القرآن لموضوع من الموضوعات.
وقد جرَّبت هذه الطريقة بنفسي، فوجدت عجبًا؛ جربتها في البحث عن المقاصد الجزئية أو التقصيد الجزئي في القرآن الكريم، وهو أحد مباحث رسالتي للدكتوراه، فوجدت بركات وفيوضات وفتوحات لا مثيل لها، ولا غرو؛ فهي بركة القرآن وكرم القرآن، متى أقبل عليه قارئه بيقين وثقة واستسلام.
——————————————
[1] إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1/ 87، تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد، دار الجيل – بيروت، 1973م.
[2] لأستاذنا الدكتور صلاح الدين سلطان تجربة مع هذه الطريقة؛ حيث بحث عن المرأة في القرآن، فأتى فيها بكلام ونتائج غير مسبوقة.
المصدر: شبكة الألوكة.