مقالاتمقالات مختارة

فلينظر الإنسان إلى طعامه.. رسالة إعجازية لكل غافل

فلينظر الإنسان إلى طعامه.. رسالة إعجازية لكل غافل

بقلم د. علي الصلابي

نستعرض في هذا البحث آيات قصار لا تشغل أكثر من سطرين، فيها تسلسل معجز لأهم النباتات التي تشكل الطعام الرئيسي لكلٍ من الإنسان وأنعامه، حيث تشهد هذه الآيات – بهذه البساطة‏ والدقة‏‏ والشمول‏ والإحاطة‏ – للإله الخالق سبحانه وتعالى بطلاقة القدرة، وبديع الصنعة، وإحكام الخلق، كما تشهد له سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه. يقول الله تعالى: “فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إلى طَعَامِهِ * أَنَّاصَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ” (عبس: 24 ـ 32).

تشير هذه الآيات الكريمة إلى أهمية الطعام في حياة الإنسان؛ لأن الطعام هو مصدر الطاقة اللازمة لمختلف الأنشطة في جسم الإنسان واللازمة لبناء خلاياه وأنسجته في مختلف مراحل نموه وللإحلال محل الذي يهلك منها بعد تمام النمو، للمحافظة على درجة حرارة جسمه، ويحتاج الإنسان في طعامه  إلى الكربوهيدرات والبروتينات والزيوت والدهون، وقد هيأ الله تعالى لنا النبات ليصنع لنا كل الكربوهيدرات التي يحتاجها الإنسان والحيوان الآكل للأعشاب في حياته، ويصنع عدداً من البروتينات كالزيوت والدهون ويتم ذلك بعمليات معجزة تشهد على قدرة الله عز وجل في خلقه.

كذلك هيأ الله ـ تبارك وتعالى ـ للحيوان القدرة على تحويل ما يأكله من النبات إلى سلسلة طويلة من البروتينات التي يحتاجها كلاً من الإنسان وبعض الحيوان في طعامه، وذلك عبر العديد من العمليات المعقدة التي تشهد للخالق سبحانه وتعالى بأنه هو الله. ففي الآيات الكريمة يتحدث الله عز وجل عن قصة طعام الإنسان مفصلة مرحلة مرحلة، هذه هي فلينظر إليها، فهل من يد فيها؟ هل له من تدبير لأمرها؟ إن اليد التي أخرجته للحياة وأبدعت قصته، هي ذاتها التي أخرجت طعامه وأبدعت قصته.

 “فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إلى طَعَامِهِ”.. ألصق شيء به، وأقرب شيء إليه، وألزم شيء له، لينظر إلى هذا الأمر الميسر الضروري الحاضر المكرر وهي معجزة كمعجزة خلقه ونشأته وكل خطوة من خطواتها بيد القدرة التي أبدعته. و(‏الطَّعَام‏)‏ و‏(‏الطُّعْمُ‏)‏ هو كل ما يؤكل‏، و‏(‏الطَّعْمُ‏)‏ تناول الغذاء‏،‏ و‏(‏الطعمة‏)‏ المأكلة‏،‏ ويقال‏:(‏ طَعِمَ‏) (طَعْمَاً‏)‏ إذا أكل أو ذاق فهو‏ (‏طَاعِم‏).‏ و‏(‏اسْتَطْعَمَهُ‏)‏ أي سأله أن يطعمه فأطعمه‏.‏

وقد يستعمل الفعل ‏(‏طَعِمَ‏)‏ في الشراب أيضاً لقول الحق‏ ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ‏ على لسان طالوت لجنوده‏: “…‏ آ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي” (البقرة: 249)، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وصفه لماء زمزم: (خَيرُ ماءٍ على وجْهِ الأرضِ ماءُ زَمْزَمَ، فِيه طعامٌ من الطُّعْمِ، وشِفاءٌ من السُّقْمِ).

– “أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا”، وصب الماء في صورة المطر حقيقة يعرفها كل إنسان في كل بيئة، في أية درجة كان من درجات المعرفة والتجربة، فهي حقيقة يخاطب بها كل إنسان. ذلك كان أول قصة الطعام: “أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا”، ولا يزعم أحد أنه أنشأ هذا الماء في أي صورة من صوره، وفي أي تاريخ لحدوثه ولا أنه صبه على الأرض صباً لتسير قصة الطعام في هذا الطريق.

 “ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا” وهذه هي المرحلة الثانية لصب الماء، وهي صالحة لأن يخاطب بها الإنسان البدائي الذي يرى الماء ينصب من الماء بقدرة غير قدرته، وتدبير غير تدبيره، ثم يراه يشق الأرض ويتخلل تربتها أو يرى النبت يشق تربة الأرض شقاً بقدرة الخالق وينمو على وجهها، ويمتد في الهواء فوقها، وهي معجزة يراها كل من يتأمل انبثاق النبتة في التربة، ويحس من ورائه انطلاق القوة الخفية الكامنة في النبتة الرخية.

 “فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا”: وهو يشمل جميع الحبوب، ما يأكله الإنسان، وما يتغذى به الحيوان.

 “وعِنَبًا وَقَضْبًا”: والعنب معروف والقضب هو كل ما يؤكل رطباً غضاً من الخضر مرة بعد أخرى.

 “وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا”، والزيتون والنخل معروفان والحدائق جمع حديقة وهي البساتين ذات الأشجار المثمرة المسورة بحوائط تحميها، و”غُلْبًا” جمع غلباء أي ضخمة عظيمة ملتفة الأشجار والفاكهة من ثمار الحدائق، مثل العائلات التوتية ـ‏ وتشمل التين‏، والجميز‏،‏ والتوت‏،‏ وغيرها‏ ـ‏ والوردية‏ ـ وتشمل المشمش‏،‏ والخوخ‏،‏ والبرقوق‏، والكرز‏، واللوز في تحت العائلة المشمشية‏،‏ والتفاح‏، والكمثري،‏ والبشملة‏، والإجاص والسفرجل في تحت العائلة التفاحية‏ ـ‏ والسذبية‏ ـ‏ عائلة الموالح‏ ـ‏ وغيرها‏، و”الأب” فهو الكلأ والمرعى‏‏ وما تأكله البهائم ـ كالأنعام ـ من العشب‏‏ وغيره من أنواع النبات، رطباً كان أو يابساً.

هذه قصة الطعام وليس فيها للإنسان يد يدعيها في أي مرحلة من مراحلها “مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ” إلى حين ينتهي فيه هذا المتاع، الذي قدره الله حيق قدر الحياة، ثم يكون بعد ذلك أمر آخر يعقب المتاع أمر يجدر بالإنسان أن يتدبره قبل أن يجيء: فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِوَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ” (عبس، آية: 33 ـ 42).

لقد عرضت سورة عبس في تسع آيات قصار لا تشغل أكثر من سطرين أهم النباتات التي تشكل الطعام الرئيسي للإنسان وأنعامه، وهذا الحصر الدقيق لما يحتاجه الإنسان وأنعامه من طعام في كلمات قليلة يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، فهو كلام الله الخالق‏، كما يشهد للعبد الصالح الذي تلقاه بالنبوة والرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
————————————————————————————————————–

مراجع البحث:

  1. د. علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت. لبنان، 2013م، ص (147: 149).
  2. الألباني، صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير)، المكتب الإسلامي، بيروت. لبنان، الطبعة الثالثة، 1408هـ – 1988م، رقم (3322).
  3. د. زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم (النبات)، مكتبه الشروق الدولية، القاهرة، 2004م، ص 311 – 312.
  4. سيّد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة. مصر، 2008م، (6 / 3832 – 3833).

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى