مقالاتمقالات مختارة

فلسفة اليأس والانتحار بين المسلمين

فلسفة اليأس والانتحار بين المسلمين

بقلم هدى عبد الرحمن النمر

غالبًا ننظر للاكتئاب والإحباط واليأس وصولًا لرغبة الانتحار على أنه سلسال ضعف وانكسار متتال، والحق أنه سلسال من الانفصام عن الله، وقطع الأمل من جهة الرب كما العبد سواء بسواء، والإصرار على ضرب الحائط بوعود الله وأحكامه وإعلاء أحكامنا وخيالاتنا.

إن الإيمان الحقيقي والحيّ الذي يمكن أن يخوض به حَيٌّ مخاضة الحياة هو بِنيَة متكاملة ، تُبنى وتُتعهد على مدار العمر، وليس انفجارات لحظيّة أو محطّات مؤقتة، ولا مجرد ترانيم لسانية وحركات جارحية خاوية المعنى عند أصحابها وبالتالي جوفاء الأثر في حياتهم. بالمثل، فالانتحار ليس خاطرة تنقدح فجأة في نفس صاحبها، بل بنية متراكمة  كذلك من : التصورات الشائهة، والأفهام الخاطئة، والأوهام الحمقاء، وسوداوية الوجدان باجتماع وتراكم الحزن والسخط والألم والمرارة والغِلّ… إلخ. فإذا اجتمع على من يسمى المؤمن هُزال بِنية الإيمان في أصولها وضَعف تَعهّده لها، مع تَمكّن بنية السوداوية من سويدائه ونموّ أسبابها في نَفسِه، يمكن أن ينتهي لنفس مُنتهى غير المؤمن أصلًا، وهو اليأس. فغير المؤمن بالله ييأس حين ييأس من روح الحياة، أما المؤمن بالله فييأس بالضرورة من روح الله! (تأمل!!) واليأس هو قطع الرجاء، الذي يدفع لقطع أنفاس مَن يمكن أن يَقَع منه الرجاء.

إذا اجتمع على من يسمى المؤمن هُزال بِنية الإيمان في أصولها وضَعف تَعهّده لها، مع تَمكّن بنية السوداوية من سويدائه ونموّ أسبابها في نَفسِه، يمكن أن ينتهي لنفس مُنتهى غير المؤمن أصلًا، وهو اليأس

لذلك لا يكون مكمن التعجب في انتهاء المؤمن لنهاية غير المؤمن، بل في عدم افتراقه عنه من البداية. فإذا لم تختلف البداية لن تختلف النهاية من باب أولى. لأن الفرق الوحيد بين المؤمن وغير المؤمن في الحياة هو الإيمان. فإذا كان قَدر ما يحمله المؤمن من إيمان –مهما صَغُر– لا ينأى به عن نفس منتهيات غير المؤمن، فلا عذر ولا تبرير لذلك أبدًا إلا أن ذلك المؤمن لم يؤمن حقيقة من البداية، لا من حيث مخالطة الإيمان وجدان، ولا حتى من حيث عقله لمقتضياته.

إذ حتى لو جاز للمؤمن لسبب ما أن يطعن في استطاعته على التحمل، وأن ينجرف للشعور بالرثاء للذات واستثقال الحياة والسأم من الأوجاع، لو جاز كل ذلك بسبب ضعف بنية الإيمان من البداية، لا بد أن يبقى في أصل إيمانه ما يَحجُزه ويمنعه ولا يٌجوِّز له بحال الطعن في ربه، في قضائه وعدله ورحمته وجدوى استعانته وتصديق ولايته، والطعن في كل ذلك واقع ضمنًا لا محالة في خواطر الانتحار وعملية الإقدام عليه، يجأر به لسان الحال قبل لسان المقال. وقد سَمّى الله تعالى اليأس من روحه كفرًا، أي جحودًا وإنكارًا له تعالى. فأيّ شيء يبقى من الإيمان، بل أي إيمان كان أصلًا موجودًا عند من بلغ أن يجحد ربه وينكره انتهاء، بعد أن زعم معرفته والتصديق به ابتداء؟! وذلك أنكى وأشدّ ممن لم يعرفه أو جحده من البداية!

“وإذا لم يكن الإيمان بالله اطمئنانًا في النفس على زَلازلها وكوارثها – لم يكن إيمانًا، بل هو دعوى بالفكر أو باللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فَجَأه الروع أَحدَثَ في ثيابه من الخوف! ومن ثم كان قتل المؤمنِ نَفسَه لبلاءٍ أو مرض أو غيرهما كفرًا بالله وتكذيبًا لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي أحدث في ثيابه!”.[مصطفى صادق الرافعي – الانتحار]

وليس الكلام هنا على الحكم الشرعي للمنتحر، ولا خروجه الفقهي من المِلَّة أو بقائه فيها، وإنما الكلام هنا مَعنيّ بصدق الإيمان وحكم الإيمان، خاصة في عصر صار الانتحار فيه “ظاهرة” لا حالات معدودة، وينظر لها بمنظور المأساة التي تستدر التعاطف لا المنكر الذي يستوجب الاستفاقة والزّجر. وإنما القضية تكمن في أنّ إيمانًا لا يَحكُم صاحبه بأدنى لجام يَحجزه ويشكمه عن الارتكاس لكل ذلك، كأنه في حكم العَدَم! لأن بنية الإيمان إذا صحَّ أصلها ورسخ جذرها، مهما تعرضت للعواصف والأعاصير لا تنهَدّ على رأس صاحبها ناهيك أن تهدّها. واستشعار أحقية إنهاء الحياة التي لا تعني عند صاحبها شيئًا، أو نبذ حقيقة اختبار الوجود الذي لم يوافق صاحبه على خوضه بداية… كل هذه إشكالات عَقَدية ونفسية كبرى، فيها من سوء الجهل وسوء الأدب معًا ما فيها، إلا أن جذرها الذي نبتت منه في نفس المؤمن ليس ضعف إيمان فحسب، بل إيمانًا لم يصحّ من البداية أصلًا، أي لم يُبنَ على فهم صحيح وإدراك حقيقي لما “ظنّ” المؤمن أنه يؤمن به لكنه لم “يعتقده” أو “يعتنقه” فعلًا. فإذا كان الإيمان صحيحًا في أصله، يستمد من أصل صحته -مهما عَرَاه ضعف- مرتكزات تمنع المؤمن من الهاويات الكبرى المنافية للإيمان أو المخرجة منه بالكلية!

في عصر اليوم صار الانتحار “ظاهرة” لا حالات معدودة، وينظر لها بمنظور المأساة التي تستدر التعاطف لا المنكر الذي يستوجب الاستفاقة والزّجر

ولذلك لا بد أن ننتبه ونفيق من نشر نبرة التعاطف المتناهي مع ظاهرة الانتحار والتماس الأعذار لمدى الآلام والأوجاع الإنسانية متأثرين في ذلك بالفلسفة الأجنبية ، ونكفّ عن استيراد الهموم المفتعلة والمفاهيم المريضة من الثقافات الكافرة بالله، القائمة على الشك والنسبية والحيرة والإلغاز وسوء الظن، ببساطة لأن مصيبتنا غير مصائبهم. مصيبتنا أن فهمنا باطل رغم حملنا للحق، وأن قلوبنا مظلمة رغم انتسابها للإيمان، وأننا نخلق لأنفسنا أسباب النكد بإصرار مع سخطنا عليه باستمرار، وأننا نلوم رغم كل ذلك كل شيء وكل أحد إلا أنفسنا!

وتشكيل هذه البنية يعتمد على تأصيل مبادئ العقيدة ومفاهيم الديانة في الوعي المسلم وبنيته الفكرية والوجدانية، وهذا يتطلب دوام التكرار لها ودوريّته. بهذا تفهم حكمة نهج تكرار مبادئ العقيدة في القرآن المَكيّ خاصة على مدى ثلاثة عَشَر عامًا : مقاصد الخلق، طبيعة الحياة، مفهوم المجاهدة، صعوبات الرحلة، العواقب والجزاء، التشديد على غفران الله تعالى للذنوب وعدم القنوط من رحمته تعالى، وأن الله مع عباده المؤمنين… إلخ. هذا التكرار الدوري في كتاب يُتلى تكرارًا بشكل دوريّ مقصود لتأصيل الأصول في وعي المسلم وغرسها في بِنيته الإدراكية وإشرابه إياها نفسيًا من البداية، فلا ينتهي للنهايات السوداوية والأوهام الخرقاء التي سادت تصوّرات المسلمين اليوم.

وبلاء المؤمن في الحياة أشد من غير المؤمن حين يُنعَم عليه بنور يستضيء به، فيطمره ويطمسه ويمضي في ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض كمن ذهب الله بنورهم! فغير المؤمن بالله يبتر معضلة الحياة في تقديره ببتر حياته، وأما المؤمن بالله فحتى حين يتورع كفاية عن قبر بدنه فإنه لا يتردد في قبر روحه. فيعيش ضائق الصدر بسخطه المبطن على ربه، ونَكِدَ العشرة بسوداويته في نفسه وعلى من حوله، ونفسه في تقديره هي الضحية الوحيدة عنده، فلا يخطر له أبدًا أن يكون ثمة خطأ في فهمه لأي شيء، ناهيك عن كل شيء.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى