فلسفة الطاقة وثنية قديمة في ثوب قشيب
قال المجوس: «إن (يزدان) [إله النور] فكر في نفسه أنه لو كان لي منازع كيف يكون؟ وهذه الفكرة كانت رديئة غير مناسبة لطبيعة النور، فحدَث الظلامُ من هذه الفكرة وسُمي (أهرِمَن) وكان مطبوعاً على الشر والفتنة والفساد والفسق والضرر والإضرار. و«النور والظلمة أصلان متضادان وكذلك (يزدان) و(أهرِمَن) وهما مبدأ موجودات العالم، وحصلت التراكيبُ من امتزاجهما، وحدثت الصور من التراكيب المختلفة»[1].
وقال وثنيو الصين: إن الكون وما فيه من أحداث إنما هو ناتج عن تفاعل «طاقتين قطبيتين»[2]، إحداهما تدعى «يِن» (yin) وتمثل «العنصر المؤنث والسلبي والضعيف والهدام»، والأخرى تدعى «يانج» (yang) وتمثل «المذكر والإيجابي والفاعل والبناء»[3].
ونَجَم قوم في زماننا يدّعون العلاج بالطاقة يقولون بمثل قولهم: إن الكون طاقة، يحوي ذبذبات موجبةً طبعُها الإيجابية والفاعلية والبناء، وأخرى سالبة طبعها السلبية والهدم. فالأولى: تجذب السعادة والحب والغنى والفرح والتوفيق والصحة؛ والأخرى: تجذب الخوف والمشاكل والكوارث والمعاناة والمصائب والمرض[4].
فهؤلاء يُحْيون ثنوية المجوس وعبادات كهنة الشرق بعبارات موهمة مشتبهة، ظاهرها علم حديث وباطنها زندقة عتيقة؛ وإلا فما الفرق بين الذبذبات السالبة والموجبة ومبدأ الـ «ين/يانج»؟ بل ما الفرق بين هذا وبين إلهَي النورِ والظلمةِ عند المجوس؟ لكن هؤلاء المُحدثين يعظمون ما جاء به أكابرهم غاية التعظيم وإن كانوا من أهل الزندقة، ويطلقون عليهم ألقاب التشريف الباطنية، ويهوِّلون ما عندهم من الضلال في نفوس العوام، وربما زوّقوه ببعض المصطلحات العلمية؛ فإن جادلتهم فيما يعتقدون، وبينت لهم أنهم ليسوا أحسن حالاً من مشعوذي المجتمعات البدائية وكهنة بوذا، نُسبت إلى السطحية والتخلف وقلة العلم، وربما أُقصيت من أوساطهم، إذ هم على طريقة لا يدرك عمق معانيها إلا واحد بالألف كما زعم أحد أعلامهم![5]
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إلى نهج أسلافهم لما قال في كتابه «درء التعارض»: «هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة، وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم، ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلاً بنوا بعضه على بعض وعظموا قولهم وهوّلوه في نفوس من لم يفهمه»[6].
ثم قال: «فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض عليهم، قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل».
وقد كنت نشرت مقالاً بعنوان «والكلمة صارت جسداً» بينت فيه ضلال القائلين بأن الكون طاقة أو وعي، وأثبتُّ من أقوال أحبارهم أن مذهبهم إنما هو اجترار لمذهب الفلاسفة الدهرية. لكنني رأيت أن أعيد ذكر بعض تلك الحقائق بأسلوب ميسر مجرد من اصطلاحات المتكلمين، فهولاء – كما قال شيخ الإسلام –: «إنما يُلبّسون على الناس بالتهويل والتطويل».
أولاً: أصل القول بأصلين متضادين في الكون (النور والظلمة أو الين واليانج أو الذبذبات الموجبة والسالبة) أن الإله الذي هو عند الدهرية «روحانيٌّ» لما أراد أن يخلق العالم «المادي» اتخذ وسيطاً صانعاً هو «العقل»؛ فصار الوجود الناتج عن صنعه عقلاً أو «وعياً». وهنا بدأت ثنائية «العقل» مقابل «المادة»، وهي أصل ضلال المروجين لقانون الجذب.
ثانياً: إذا كان الصانع عقلاً والمصنوع عقلاً فلا فرق إذن بين الخالق والمخلوق؛ وهذه وحدة الوجود. فهذا إمامهم ديباك شوبرا يستشهد لوحدة الوجود هذه بقول جلال الدين الرومي: «أنتَ لست قطرة في المحيط، بل أنت المحيطُ بأكمله في قطرة». ومن أشهر الأبالسة المروجين لهذه الفكرة في زماننا الباطني الماجن «عدنان أوكتار» المعروف بـ «هارون يحيى» الذي يُقلِّب عينيه في عيون الغواني ويتمايل معهن زاعماً أن جمالهن من جمال الخالق. ومثله قول سلفه «العفيف التلمساني» لما سئل عن الفرق بين الزوجة، والأجنبية، والأخت؟ فأجاب: «لا فرق بين ذلك عندنا، وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراماً، فقلنا: هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام».
ثالثاً: قد يعبرون عن هذا العقل بـ (الوعي) أو (الطاقة) أو (الكلي) أو نحوها؛ فلا يهولنّك كثرة ما يستعملون من ألفاظ فمرادهم واحد، وهو أن الكون مجرد ذرات لطيفة أو نحوها تشكل صوراً مختلفة؛ كالنقاط الصغيرة (بِكسِل) على شاشة التلفاز، أو كطفل يجلس على شاطئ البحر فيصنع قوالب لقلعة وإنسان وشجرة لكنها كلها في جوهرها حبات رمل. وكلُّ ما يرون أنه يُعينهم على التعبير عن هذه الفكرة فإنهم يستعينون به كحديث بعضهم عن فيزياء الكم أو الأثير أو نظرية النسبية.. إلخ.
رابعاً: إذا كان العقل الأول قد خلق الكون المادي؛ فإن عقول المخلوقين التي اكتسبت صفته قادرة على خلق ما حولها كذلك؛ فبمجرد توجيه العقل إلى أمر ما يحدث ذلك الأمر حقيقةً؛ فأنت – عند هؤلاء – خالق! تقول صاحبة كتاب «السر»: «إننا الخالقون لكوننا»[7]. ويقول شوبرا: «أنت تُظهر الأشياء … في عملية خلقٍ مشتركة مع السرّ الذي نسميه (الله)»[8]. وقد يغلفون هذه المفاهيم بالحديث عن قوة التركيز أو إرسال النية، وإنما هو اعتقاد لديهم أن العقل وحده قادر على خلق مستقبل العبد حقيقة عن طريق تفاعله مع الكون العاقل.
خامساً: إذا كان الأمر كذلك فالإنسان «سيدٌ لقدره» يتحكم فيما يحدث أو لا يحدث له، كما صرحت بذلك الباطنية «آني بيزنت» في كتابها «محاضرات شعبية في الثيوصوفية»[9]. والمؤسلمون لهذه الزندقة يتحدثون عن أن الإنسان الإيجابي يجذب الأشياء الإيجابية إلى حياته، والسلبي خلافُه.
سادساً: بما أن الخالق والمخلوق واحدٌ فلا مكلِّف ولا مكلَّف، إذ لا فرق! فلا حساب إذن ولا آخرة، وإنما هي عملية «تدوير» لمادة الكون يسمونها تناسخ الأرواح. فكما أن طبق الطعام قد «يُدوّر» فيصبح غطاء لمرحاض، فكذلك الروح تتحول من جسد أميرةٍ بعد موتها لتحل في جسد ضفدع، أو ربما حمار؛ كل بحسب ما قدّم!
سابعاً: ممارسات اليوجا التي يشيعها أدعياء العلاج بالطاقة هي في حقيقتها عبادات وثنية يحاول «اليوجي» أو العابد من خلالها الرقيّ بعقله ليتحد في أعلى مقاماته التي تدعى «سَمادْهي» بالعقل الصانع الذي أوجده، وهذا عندهم غاية اتحاد المخلوق بالخالق وهو الفناء عند الصوفية، فيُحصل العابد بذلك الخلاص من عمليات «التدوير» المتكررة؛ وهذا النعيم يدعونه «موكشا» أو «نرڤانا». وإذا رجعت إلى دورة «قوة الوجود» للدحيم وجدت صاحبها يحوم حول هذه العلاقة بين الوعي البشري والوعي الكوني في تفسيرات غريبة تغلفها عبارات موهمة.
ثامناً: من شرك القائلين بالطاقة الكونية أو الوعي الكوني ما يلبس من أسورة يزعمون أنها تركز الطاقة وتبثها في الجسم وهي في حقيقتها تَعلُّق بغير الخالق سبحانه، فقد لبسها الأقدمون لدفع الضر (الواهنة)، ويلبسها المتأخرون لجلب النفع (الطاقة)، وقد قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً».
أخيراً: هذه نقاط مختصرة قصدت منها بيان أن أدعياء الطاقة إنما يروجون لوثنية قديمة في ثوب قشيب، وإن ادعوا أنهم أهل العلم والتقدم، فإن ما يقولونه عند التحقيق هو عينُ ما يقوله المشعوذون العراة في أدغال إفريقيا.
:: ملف خاص بعنوان ” الوثنية الحديثة.. ومحاولات الأسلمة
:: مجلة البيان العدد 329 محرّم 1436هـ، أكتوبر – نوفمبر 2014م.
[1] أبو الفتح محمد الشهرستاني. الملل والنحل (بيروت: دار الكتب العلمية، 1992م)، ج 2، ص 260-266.
[2] Stephen Schuhmacher & Gert Woerner, edit. The Encyclopedia of Eastern Philosophy and Religion (Boston Mass: Shambhala Publications, 1989), p. 428.
[3] William Reese. Dictionary of Philosophy and Religion (New Jersey: Humanities Press, 1996), p. 846.
[4] صلاح الراشد. قانون الجذب (الكويت: شركة فرانشايز الراشد، 2009)، ص 86.
[5] صلاح الراشد. قانون الجذب، ص 165.
[6] ابن تيمية. درء تعارض العقل والنقل (مكتبة الرشد، 1427 هـ)، ج 1، ص 247.
[7] روندا بيرن، كتاب السر، ص 27، 28.
[8] انظر على يوتيوب: (ديباك شوبرا/ كيف تُظهر الأشياء في حياتك؟).
[9] Annie Besant. Popular Lectures on Theosophy, 2nd Edition (India: The Theosophist Office, 1912), p. 100.
(المصدر: مجلة البيان)