مقالاتمقالات مختارة

فلسفة الإسلام في تأمين المجتمعات والدول

بقلم إبراهيم الفرجاني

إذا كان عالم النفس الشهير “ماسلو” قد وضع حاجة الإنسان إلى الأمن في الدرجة الثانية من احتياجاته، وجعلها تالية لحاجاته الفسيولوجية فيما عرف بـ “هرم الحاجات الإنسانية لماسلو”، فإن الإسلام قد قدم هذه الحاجة الأمنية وجعلها في المرتبة الأولى من حاجات الإنسان مقارنة بحاجاته من الطعام والشراب وربما سابقة لها.

ففي القرآن الكريم آيات عديدة تؤكد على قضية الأمن باعتبارها من الأولويات للفرد والمجتمع، ففي إطار ذكر إنعام الله ـ تعالى ـ على قريش يقول الله (تعالى) : ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) ، ويقول: ( أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيئ ) وهذا تنبيه على ضرورة الأمن للانتعاش الاقتصادي للدول، وفي دعاء أبينا إبراهيم ـ عليه السلام ـ يؤكد على أولوية الأمن فيقول: ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) فقدم الدعاء بالأمن على الدعاء بالخير الكثير والمال الوفير.

 والواقع يؤكد هذه الأولوية، فإنك لو جلست مثلا تأكل وكنت في غاية الجوع ثم سمعت ضجة أو شعرت بخطر فسوف تترك طعامك وشرابك! ولا يهمك ساعتها إلا أن تنجو بنفسك من الخطر، بل إنك تحاول أن تقلل حاجتك إلى التنفس إلى أدنى مستوياتها حتى لا تحدث صوتا يجعلك على حافة الخطر، مما يدل على أن الأمن بالنسبة للإنسان أكثر أهمية من الطعام والشراب وغيرها من حاجاته الجسدية الملحة.

وفي تعاليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأكيدات كثيرة على أهمية الأمن للفرد وللمجتمع كذلك فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) كلما رأى هلال شهر من الشهور دعا الله قائلا: اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام. ويقول لأصحابه: ( من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا ). مقدما الدعاء بالأمن على الدعاء بالإيمان والعافية .

وكان يعلم النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن الإيمان لا يمكن أن ينتشر في مجتمع يسوده الخوف والكراهية، بل لابد أن تهتموا أولا بإيجاد ذلك المجتمع الذي يشيع فيه الحب والسلام ثم تهتموا بعد ذلك بالأمور الإيمانية والروحية

( لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيئ إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم ).

بعد تأكيد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه الحقيقة وتعميقها في نفوس أتباعه لم يتركها حبرا على ورق، أو نظرية تقبع في بطون الكتب، وإنما اتخذ خطوات عمليه عديدة جعلتها واقعا في حياة المسلمين جيلا بعد جيل ، وهذه الخطوات باختصار هي:

 1 ـ علم أتباعه احترام النفس الإنسانية، وأن الإنسان مخلوق مكرم ينبغي توقيره وصيانته، ولا يجوز الاستهانة به مهما كان دينه أو عرقه أو وضعه المالي أو الاجتماعي في حياته أو بعد موته، يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )، وشدد في حقوق الجيران حتى لو كانوا غير مسلمين، وأكد على حقوق غير المسلمين الذين يعيشون في بلاد المسلمين أو يعيش المسلمون في بلادهم، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا خصمه يوم القيامة ). وفي لفتة موحية تمر جنازة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالس بين أصحابه فيقوم لها، فيقولون له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! فيقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ:أليست نفسا؟! فالدين الذي يحترم الإنسان بعد موته لا ريب أنه كان أشد احتراما له في حياته.

2 ـ احترم الإسلام تعددية المجتمع بجميع أنواعها ـ التعددية الدينية والتعددية الثقافية والتعددية العرقية…الخ، وليس أدل على ذلك من ذلك المجتمع التعددي الذي كان يعيش أفراده جنبا إلى جنب في المدينة المنورة رغم اختلاف أديانهم وأعراقهم، يبيعون ويشترون ويتاجرون ويتزاورون، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهم يشجعهم على هذا ويؤكده بأقواله وأفعاله، حتى أنه نهى أتباعه عن تفضيله على كليم الله موسى خشية أن يخلق ذلك نوعا من العداوة والبغضاء في نفوس أتباعه من اليهود.
وكان (صلى الله عليه وسلم) يزور اليهود والوثنيين من أهل المدينة ويزورونه ويأتيهم بيوتهم ويأتون هم إلى بيته في ود وكرم وترحاب وسماحة. ومما يدل على احترام الإسلام للتعددية أيضا، ما أمر به النبي أصحابه من الهجرة إلى الحبشة، وكانت بلدا مسيحيا إلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شجع أصحابه إلى الهجرة إليه لسبب واحد، وهو أنه بلد العدل والقانون، فقال لهم: اذهبوا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد.

أقام الصحابة في الحبشة قرابة أربعة عشر عاما، اكتسبوا لغة أهل البلد وتعرفوا على عاداتهم وتقاليدهم، لم ينقل عنهم أنهم خرقوا قانون البلد الذي يقيمون فيه، أو اشتكى منهم أهل البلد الأصليون

حتى أنهم حين تركوها راجعين إلى المدينة حملوا معهم التحايا والهدايا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ملك الحبشة، مما يدل على عمق العلاقة واستمراريتها بين الدولتين.

(مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى