مقالاتمقالات مختارة

فلسفة الإجماع

بقلم شريف محمد جابر

تكمن أهمية قضية “الإجماع” في الإسلام في كونها مسلكًا وثيقًا لحفظ معالم الدين، فقد أصبح إنكار الإجماع والتخفّف منه من قبل أدعياء التجديد والتنوير المعاصرين رديفًا للتخفّف من السنّة وأحكامها؛ بُغية إبقاء النصّ القرآني مجرّدا عن أي ضوابط في فهمه، فيسهلُ حينئذ التحريف والتلاعب بأحكام الشريعة وحقائق الدين، حين تصبح مجرّدة عن أي سياق اجتماعي أو تطبيقي يرشدنا إلى معانيها، وهو السياق الكامن في السنّة والإجماع. إنّ النصّ القرآني مجرّدا ونصوص السنّة مجرّدة ليست وحدها التي عرّفتنا ما هو الدين، وكيف نمارسه، وما هو قطعي وما هو ظني؛ بل ثمة مسلك آخر في معرفة معالم الوحي وقطع الطريق على التمحّل وهو “الإجماع”.

هل الإجماع تقديس للأشخاص ورفعهم لمرتبة الوحي؟
 قد يعترض معترض هنا ويرى أنّ هذا شبيهٌ بما فعلته الكنيسة حين جعلت “الأشخاص” محكّمين على “النصوص”، ومن ثمّ جعلت الدين مرتبطا بالرجال. وقد يقول آخر: كيف تقول هذا الكلام وأنت تترنّم بعبارة الإمام أحمد: “لا تقلّد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا”؟

 أقول: إنما قصدت بالإجماع هنا ابتداءً ما أجمع عليه الصحابة، وما أجمع عليه مَن بعدهم من الأمة فاتفقوا على أنه من الدين. وليس هذا من اتباع الرجال لذواتهم في شيء، وإنما هو مسلكٌ متين راسخ من مسالك معرفة الوحي، أي معرفة المعاني والقيم والأحكام المتضمنة في نصوص كتاب الله وسنّة رسوله. وهو أقوى من وصول حديث آحادٍ إلينا مثلا، فإذا جاء حديث آحاد بمعنى معيّن؛ خبرا غيبيا أو تشريعا، ثم وجدنا الإجماع عليه والعمل به منذ عصر الصحابة ومن تلاهم من التابعين وتابعيهم وأئمة الهدى الكبار كالأئمة الأربعة ومن كان في مرتبتهم؛ تيقّنّا بأنّ هذا الخبر أو التشريع دينٌ نتعبّد الله بتصديقه والعمل به، وإنّما كان إجماعهم أقوى في رسوخه من ثبوت سند الحديث الواحد؛ ذلك أنّ مسلك إجماعهم أكثر تواترا لتأكيد ورود هذا المعنى أو الحكم عن الرسول صلى الله عليه وسلّم؛ فإنّ الصحابة رضوان الله عليهم لا يجتمعون على شيء يعتبرونه دينا إلا أن يكون قد فشا بينهم خبرُ الوحي بكونه دينا..

ولذلك روي عن سعيد بن جبير أنّه قال: “ما لم يعرفه البدريّون فليس من الدين”، وهم من خيرة الصحابة رضي الله عنهم. ولم يكن الصحابة متقاعسين عن حمل أمانة الدين في حياتهم، بل نقلوا أصول الدين وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من غيب وما أرشد إليه من تشريع لمن بعدهم، فثمّة “سياق اجتماعي” لانتقال معارف الوحي، ومن ظنّ أنّ معارف الوحي انتقلت إلينا من نصوص السنة المنقولة بالأسانيد ونصّ الكتاب فقط دون هذا المسلك الإجماعي؛ فقد أخطأ وما عرف دين الله.

أجمع العلماء منذ عهد الصحابة على وجود النسخ في الكتاب السنة، واختلفوا وراء ذلك في بعض التفاصيل. ولكنّ الثابت أنّ النسخ موجود في الشريعة.

إنّ إجماع الصحابة ومن تبعهم من أئمة التابعين ومَن أخذ عنهم وتابعهم هو مسلكٌ علمي راسخ لمعرفة ما كان عليه الوحي، وليس اتّباعا لذواتهم أو تقديسا لأشخاصهم، ولا هو تقديمٌ لآراء الرجال على الوحي، وإنما نقول إنّ كلّ طريقٍ للوحي يمرّ بالبشر لا محالة، بما في ذلك القرآن والأحاديث، والإجماع هو اتفاق الرجال الذين نقلوا لنا الدين عن النبي -صلى الله عليه وسلّم-، سواء كان في إيجاب أمر أو تحريمه أو بيان عقيدة وما شابه من أمور الدين.

الإجماع تعبير عن حضارة التواصل الإنساني

وثمة أهمية أخرى للإجماع، يُهدرها من يتنكّر له وينفيه من حساباته، وهي أنّه يوثّق لنا ما لم توثقه السنّة في النصوص الموجودة في كتب الحديث. يخبرنا الإجماعُ بما لم تقلْه النصوص، فهو تعبير عن “التواصل الإنساني” الذي تتميّز به حضارتنا الإسلامية، فهي ليست حضارة نصّ أو أفكار منقطعة، والأئمة الكبار لم يجدوا كتاب الله وكتب الحديث فجأة فبنوا عليها فقههم، بل نجد أنّ نشأة الفقه كانت قبل ومع كتابة الحديث وتدوين السنّة، فهو صيرورة متواصلة من جيل إلى جيل.

عاصرَ جيلُ الصحابة -رضي الله عنهم- مهبط الوحي وحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعايشهم جيلُ التابعين وتلقّوا عنهم، ثم عايش التابعين وتلقّى عنهم جيلُ تابعي التابعين، ومنهم الأئمة الكبار ومدوّناتهم الفقهية المعروفة، ثم تتلمذ على هؤلاء الأئمة جيلٌ بعد جيل في مختلف العلوم القرآنية والحديثية والفقهية والأصولية واللغوية. ومن ثم فإنّ الإجماع كمسلك لمعرفة الوحي يستند إلى هذا التواصل الوشيج بين أجيال الإسلام، بين عهد النبوة وعهود التدوين وأئمة الإسلام الكبار. فإذا أطبق جيل تابعي التابعين مثلا على أنّ شيئا ما من الدين، فقد عرفوا ذلك بما أطبق عليه جيلُ التابعين قبلهم، والذي عرف ذلك بما أطبق عليه جيل الصحابة بما عرفه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فهو مسلك ثابت متواتر لا قدح فيه لمعرفة حقائق الدين.

لماذا لا نكتفي بالكتاب والسنّة؟

نصوص الكتاب والسنة المجرّدة تشبه لوحة غير ملوّنة، وزعم الاكتفاء بها يعني أن يقوم بتلوينها كلّ أحدٍ بما يهوى، ولكنّ الإجماع هو الذي يضع الألوان المناسبة في الأماكن المناسبة

مواقع التواصل

وقد يتساءل بعضهم: إذا كان ما أجمعوا عليه موجودًا في الكتاب والسنة، فلماذا لا نكتفي بهما لنقيم ديننا؟ ولفهم أهمية الإجماع إلى جانب الكتاب والسنّة نطرح مثالا فنقول: يشبه دور الإجماع دورَ الألوان حين تدخل على اللوحة المرسومة بخطوط سوداء فقط؛ فنصوص الكتاب والسنة المجرّدة تشبه لوحة غير ملوّنة، وزعم الاكتفاء بها يعني أن يقوم بتلوينها كلّ أحدٍ بما يهوى، ولكنّ الإجماع هو الذي يضع الألوان المناسبة في الأماكن المناسبة؛ فيلوّن السماء بالأزرق، والغيوم بالأبيض أو الرمادي، والعشب بالأخضر، وهكذا. أما لو تنكّرنا للإجماع، فسيأتي إلينا من يضع الألوان في غير مواضعها، فنجد سماء خضراء وأرضا زرقاء وغيوما حمراء! ومن يتأمل حال أولئك الذين يرفضون أخذ شيء سوى القرآن، فسيجدهم متخبّطين في مذاهبهم، كلّ واحد منهم له دينٌ على مقاس مزاجه وظروفه النفسية والعقلية والاجتماعية، ولذلك كان مسلكُ الإجماع هو الذي يحسم الخلاف الذي قد يدور حول النصوص.

ولنأخذ مثالا شائعًا كثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة، وهو مثال “النسخ” في الكتاب والسنة. فقد أجمع العلماء منذ عهد الصحابة على وجود النسخ في الكتاب السنة، واختلفوا وراء ذلك في بعض التفاصيل. ولكنّ الثابت أنّ النسخ موجود في الشريعة. وقد قال الله سبحانه في كتابه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 1066). فيأتي اليوم من يؤوّل الآية على غير ما فهمها الصحابة ومن تابعهم من أهل العلم، فيقول إنّ القصد هناك بالآية معجزات الأنبياء أو آياتهم، ومن ثم يُبطل النسخ ويتنكّر للإجماع عليه.

والإشكالية هنا أنّ التعامل مع النصّ القرآني مجرّدا هو الذي فتح مثل هذا الباب للقول، وإلا فالتزام الإجماع يبيّن بشكل مؤكّد أنّ النسخ موجود في كتاب الله. ولهذا يفرّ بعضهم من هذا الإجماع، ومن الكثير من السنن الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم فيما نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإثبات النسخ؛ ليسهل عليه تطويع النصّ القرآني وفقا لما يراه. وصاحب هذا التأويل واهمٌ متهافت الرأي؛ ذلك أنّه يتوهّم أنّ الصحابة الذين عاشوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاصروا هبوط الوحي، وعرفوا الآيات فيما نزلت ونقلوا لنا ذلك، ودوّنوا القرآن في المصاحف، ونقلوا لنا غريب ألفاظه، ونقلوا لنا سيرة النبي وأحاديثه في بيان القرآن وفي بيان أحكام الشريعة.. يتوهّم أنّ هؤلاء كلهم جهلوا عدم وجود النسخ في القرآن، ولم يفهموا هذا الأمر من كتاب الله، حتى جاء هو بعد قرون متطاولة ليخبرنا بذلك وليوضّح لنا كم هو سهلٌ معرفة ذلك!

قد ظهر إذن أنّ دعوى عدم الحاجة للإجماع بحجّة أنّ الكتاب والسنة يكفيان هو زعمٌ غير علمي، وفتحٌ لباب العبث في حقائق الدين.

 لماذا إنكار الإجماع حالقٌ للدين؟

تصوّروا الآن أنّ حكمًا من أحكام الدين قد ثبت في هذه المسالك كلها، ثم جاء من يقول باستخفاف: لم يثبتْ! فأي شيء حينها يثبت عند هذا الدعيّ من دين الله؟!

عندما يأتي شخص قليل البضاعة في اللغة وعلوم الشرع ليزعم لنا أنّ إحدى الآيات في كتاب الله هي من الوضوح بحيث لا مجال لفهمها بخلاف ما فهمه هو منها. ثم ننظر في فهم الصحابة لها، ثم فهم التابعين وتابعيهم، ثم فهم كل أئمة الإسلام، ثم فهم جميع مفسّري الأمة؛ فنجدهم جميعا متفقين على تأويل واحد خلاف تأويله، فما هي النتيجة التي يجب أن نتوصل إليها إذا صدّقنا هذا الدعيّ في زعمه؟

النتيجة الوحيدة هي أنّ هؤلاء الذين نقلوا لنا كل ما نعرفه عن الدين حرفيّا، كانوا من السذاجة والجهل (حاشاهم) بحيث لم يعرفوا تأويل آية واحدة سهلة الفهم بحسب هذا الدعيّ! فإذا كانوا على هذا القدر من الجهل، فكيف نثق بهم في نقل سائر أمور الدين؛ كأسباب نزول آيات القرآن، ومعاني مفردات القرآن التي نقلها عنهم تلاميذهم ثم دُوّنت في القواميس، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إنّهم حينئذ لن يكونوا جديرين بالثقة، وهذا أسهل طريق لهدم الدين وإسقاط الثقة بكل شيء فيه والوصول إلى طريق عدميّ يصبح فيه كلّ ما وصلنا من الدين موضعا للتشكيك، بعد التشكيك بمن نقلوا لنا الدين!

هذه هي النتيجة الحتمية التي يقتضيها تغليط الصحابة والتابعين وتابعيهم وكبار الأئمة فيما أجمعوا عليه من حقائق الدين وأحكامه وتفسير القرآن. ونحن لا نقرّ بإمكان تحقّق ذلك، فهو ضرٌب من الخيال لأنّه طعنٌ في أقوى ما لدينا من مسالك معرفة الدين، وإنما نُقيم الحجة على صاحب هذا الزعم، فنقول له: إنّ زعمك هذا يقتضي منك التشكيك في كلّ ما وصلنا عن طريق هؤلاء الذين تزعم أنّهم لم يفهموا آيات غاية في الوضوح والجلاء كما فهمتَها أنت بعبقريّتك الفذّة!

مسالك معرفة الإجماع

وهنا يُطرح السؤال: كيف لنا أن نعرف ما أجمعوا عليه من حقائق الدين وأحكامه؟ هل نحن بحاجة إلى إثبات وجود قولٍ لكل عالم من علماء الأمة في كل عصورها حتى نثبت الإجماع؟ كلا، بل ثمة مسارات علمية واضحة في معرفة الإجماع حول مسألة من مسائل الدين، وبعض هذه المسارات يكفي وحده في إثبات قطعية هذا الحكم أو تلك الحقيقة الدينية، ولكني آثرتُ جمعها لتكون بمثابة نموذج تتعاضد فيه المسالك وتتضافر، وليكون بالإمكان تطبيقه على كل حقائق الدين التي حُكي الإجماع حولها. وسأحاول تطبيق هذا النموذج على حكم الرجم الذي ذكرته في التدوينة السابقة، وسأبدأ من حيث انتهيت هناك، حيث انتهينا إلى ثبوت حكم الرجم في السنّة بيقين:

1)    مسلك أقوال الصحابة: ويتم من خلاله تفحّص أقوال الصحابة في المسألة فيما نُقل عنهم من مرويّات صحيحة، فإذا صحّ عن بعضهم الاختلاف حولها؛ فتلك إذن مسألة لا إجماع فيها. وحين تفحّصنا موضوع الرجم مثلا، وجدنا أنّه لم يُنقل إلينا عن الصحابة إلا ما يفيد إقرارهم به كحكم شرعي جاء به الوحي.

2)    مسلك تواتر الروايات وتلقّيها بالقبول: قد أثبتنا في التدوينة السابقة “هل هناك أحاديث متواترة؟” ثبوت حدّ الرجم في عشرة أحاديث صحيحة، رويتْ عن عشرات الصحابة الكرام رضي الله عنهم. مما أوصلنا إلى يقين بثبوت هذا الحكم. ومما ينبغي لطالب العلم ملاحظته في هذا المسار: توفّره على أحد مسالك الإجماع؛ إذ إنّ أهل الحديث قد دوّنوا تلك الأحاديث في كتبهم، دون أي استدراك أو إنكار أو ملحوظة بشأن ثبوت هذا الحكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونسبته إلى الدين، فكان نقلهم لها وروايتهم لها بهذه الغزارة دليلا على إجماعهم حولها.

3)    مسلك الانتشار في كتب الفقه والعمل بالحكم وتلقّيه بالقبول: ومن المسالك أيضا تفشّي ذلك الحكم في كتب الفقه والعمل به، منذ أن بدأت أوائل مدونات الفقه في الظهور وفيما نُقل عن الأئمة الكبار من أقوال فقهية. ولو نظرنا إلى كتب الفقه من أقدمها مرورا بنشأة المذاهب إلى ما بعد ذلك بقرون، لوجدنا أنها بوّبت الأبواب الفقهية في حكم الرجم، وتلقّته بالقبول، وعملت به. فكان هذا أيضا دليلا آخر على إجماع الفقهاء على هذا الحكم.

اعتاد أئمة المسلمين منذ العصور القديمة على التأليف في القضايا التي اختلف فيها الفقهاء، وفي هذه الكتب ستجد تقريبا كل ما اختلف حوله الفقهاء وأقوالهم جميعا.

مواقع التواصل 

4)    مسلك تفحّص كتب الخلاف: فقد اعتاد أئمة المسلمين منذ العصور القديمة على التأليف في القضايا التي اختلف فيها الفقهاء، وفي هذه الكتب ستجد تقريبا كل ما اختلف حوله الفقهاء وأقوالهم جميعا، فلم يختلف الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام في شيء إلا وقد ذُكر ذلك ودُوّن في كتب الخلاف. فإذا تفحّصت هذه الكتب كلها فإنّك لن تجد فيها مثلا ذكرا لاختلافهم في ثبوت حكم الرجم للزاني المحصن، وإنما ستجد اختلافهم في بعض ما يتعلق به من أحكام، أما إنكاره فلم يقل به أحد من أهل العلم.

5)    مسلك كتب التفسير: وهو يتعلّق في أوجه تأويل الآيات، فمن المعروف أنّ الكثير من الآيات كان هناك اختلاف حول تفسيرها، ولكن الكثير من هذه الآيات وغيرها تحوي من “المحكمات” التي لم يختلف المفسّرون حولها. ولقد عكفتُ قبل أكثر من عام لأكثر من 30 ساعة في استقصاء أقوال المفسّرين جميعا في قوله تعالى: {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} (سورة النور: 22) والآية رقم 25 من سورة النساء. لأنّها من الأدلة الأساسية للمنكرين لحكم الرجم اليوم، فطالعت نحو 1000 تفسير مما استطعت بلوغه، منذ القرن الثاني الهجري فما بعده، فوجدتها جميعا تقرّ بأنّ الآية في البكر غير المحصن من الرجال والنساء، وأنّ حكم المحصن الزاني الرجم، ولم أجد أحدا منهم يشذّ عن ذلك.

وتصوّروا الآن أنّ حكمًا من أحكام الدين قد ثبت في هذه المسالك كلها، ثم جاء من يقول باستخفاف: لم يثبتْ! فأي شيء حينها يثبت عند هذا الدعيّ من دين الله؟! إنّ صاحب هذه المقالة يزعم بلسان حاله أنّ كبار أئمة الإسلام، وعلى رأسهم الصحابة ثم التابعون وتابعوهم والأئمة المجتهدون ومن تابعهم بإحسان من علماء الأمة، أنّ هؤلاء جميعا كانوا على درجة فظيعة من الجهل بمبادئ العربية وحقائق الدين فلم يعرفوا ما عرفه هو من تأويل آية سورة النور، والتي لم يعرف هو قراءتها ولا تفسير مفرداتها إلا بما نقلوه له من معارف وعلوم!

إنّ القضية هنا ليست قضية اجتهاد أو اختلاف مشروع، بل هي قضية تجاهل حقيقة ثابتة كسطوع الشمس، والتنكّر لمسلك علمي راسخ في معرفة الوحي، واللجوء عوضا عن ذلك إلى تأويلات ذاتية غير مبنية على مسلك علمي. ولم يكن حكم الرجم هنا إلا نموذجا، والمجال مفتوح لتطبيق هذه المسالك على أي حكم أو حقيقة شرعية يُحكى الإجماع عليها.

هل الإبداع ضدّ الإجماع؟

هل الإجماع على أنّ المسجد الأقصى هو هذا الذي بفلسطين وتعرفه الأمة عبر أكثر من ألف وأربعمائة عام؛ مضادٌ للإبداع؟ وأي إبداع ذلك الذي يتعطل من الإقرار بهذه الحقيقة التاريخية!

الجزيرة

إذا وصلت إلى هذا الفقرة أيها القارئ فأنت تعرف الإجابة جيّدا، فأنت تعلم أنّ الإجماع ليس في المسائل الظنّية المختلف حولها أصلا، فهو دائرة أخرى تسبق دائرة الاجتهاد، ولا يجتهد المجتهد فيما ثبت بالكتاب والسنة وأجمعت الأمة على كونه دينا؛ واجبا أو حراما أو غير ذلك. ومن هنا نقول إنّ المقابلة بين “الإبداع” و”الإجماع” ليست موضوعية؛ فهي مقارنة بين أمرين من حقلين مختلفين موضوعيا: فالإجماع في جوهره هو أحد الأدلة التي توصلنا إلى معرفة ما جاء به الوحي، باعتبار أنّ إجماع الصحابة ومن تابعهم على أمر يعني أنّه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما بيّنا. فهو آلية علمية لتوثيق معرفة أو ممارسة دينية جاء بها الوحي، فما علاقة ذلك بالإبداع؟

لقد وجد الإبداع مجالا واسعا فيما وراء قطعيات الدين، أي عبر أدوات “الاجتهاد” ومساحاته الشاسعة، ولقد أبدع علماء الأمة وما زالوا في استنباط المعاني والقيم من النصوص، وفي معالجة الواقع بعميق النظر. كما وجد علماء الأمة المجال واسعا في الإبداع بمختلف العلوم الكونية والرياضية والهندسية والطبية، وفي آفاق الفكر والأدب وغير ذلك. فهل وقف الإجماع في طريق هذا كلّه كما يَفترض من قال إنّ الإجماع ضدّ الإبداع؟!

إنّ الالتزام بما وثّقه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعهم عن حقائق الوحي ليس نقيضا للإبداع. والأمر شبيه بمن ينكر اليوم وجود المسجد الأقصى في القدس بفلسطين، و”يبتدع” مختلف الأقاويل المتهافتة حول مكانه. فهل الإجماع على أنّ المسجد الأقصى هو هذا الذي بفلسطين وتعرفه الأمة عبر أكثر من ألف وأربعمائة عام؛ مضادٌ للإبداع؟ وأي إبداع ذلك الذي يتعطل من الإقرار بهذه الحقيقة التاريخية التي ثبتت بمسالك علمية لا مجال لدفعها؟! إنّ ما يحدث في الواقع هو أنّ دعاوى الإبداع هذه تصبح مضادّا للمسالك العلمية في توثيق المعارف الشرعية والحقائق التاريخية!

إنّ طبيعة الإبداع لا يمكن أن تكون معارضة للمسالك العلمية في اجتناء المعرفة إلا في النفسيات المضطربة، وحين يصبح الإبداع على هذا النحو يتحوّل إلى طاقة سلبية عبثية تؤلّه الذات وتقدّس الرأي وتقدّمه على ما تمليه الحقائق العلمية. أما المبدع الحقيقي، فهو الذي يفرّق جيّدا بين المعارف النقلية التي تثبت بمسالك التوثيق العلمية، وبين المعارف التي تعتمد على التفكير والتحليل، ولا يقيم بينهما تضادّا، بل يعقد بينهما انسجاما، ليثمر عن إنتاج حقيقي وأصيل للمعرفة.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى