فلسطين مؤشرات النصر والهزيمة
بقلم د. أنور الخضري (خاص بالمنتدى)
التدافع سنة كونية وظاهرة إنسانية، إذ أن الحياة الدنيا مركبة من المتضادات والمتناقضات، المادية والمعنوية، فالليل والنهار والبرد والحر والمد والجزر وغيرها أشكال من أشكال التدافع، ولولا ذلك جمد شكل الكون والطبيعة. وهذا التدافع دليل الحركة الدؤوبة في الوجود بين الأوجه المتعددة فيه، يقول تعالى: ((لَا ٱلشَّمۡسُ یَنۢبَغِی لَهَاۤ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّیۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ))، يس: ٤٠.
وإذا كان في الكون والوجود تدافع طبيعي فإن في حياة البشر تدافع مماثل، وأبرزه التدافع المعنوي بين: الخير والشر، والعدل والظلم، والحق والباطل، وكذلك بين: السرور والحزن، والقوة والضعف، والغنى والفقر، والصعود والهبوط. وهو ما يعطي الحياة الدنيا ميزة الابتلاء إذ لو عاش فيها الإنسان على شكل واحد ومعنى واحد فقد الابتلاء: ((ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ))، الملك: ٢.
ولكي لا يتغلب الشر والظلم والباطل بقوته وكثرته أوجب الله تعالى على أهل الخير والقائمين بالعدل والداعين إلى الحق مهمة الدفع والدفاع والتدافع، وأخبرهم أن إرادة الشر والظلم والباطل لولا ذلك ستسعى للتغلب ومصادرة كل ما يخالفها: ((وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ))، البقرة: ٢٥١. وهذا الفساد سيكون بمصادرة بقاء الخير والعدل والحق ووجوده في أي تمظهر: ((وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّهُدِّمَتۡ صَوَ ٰمِعُ وَبِیَعࣱ وَصَلَوَ ٰتࣱ وَمَسَـٰجِدُ یُذۡكَرُ فِیهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِیرࣰا))، الحج: ٤٠.
وقد ظلت أرض الشام عبر التاريخ ساحة تدافع ساخنة، لا تخلو من رسالة سماوية وجند لله ومعركة للحق. فهي منبع الرسالات ومهاجر الأنبياء ومنطلق الدعوات إلى قارات العالم القديم ومحل إشعاع لشعوبه.
ورغم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث في مكة بالجزيرة العربية إلا أنه لم يقبض إلا بعد أن أسري به إلى المسجد الأقصى، وبعد أن غزا أرض الشام المباركة في أواخر أيامه إيذانا باسترداد هذه البقعة المباركة إلى ظلال الإسلام. وقد فهم صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الرسالة واستمعوا إلى خبر الرسول وهو يبشرهم بفتحها عليهم فانطلقوا يجاهدون لفتحها، ففتحت في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. وظلت أرض فلسطين بأيدي المسلمين حتى تمكن الصليبيون من احتلالها زمن الدولة الفاطمية، ثم حررها صلاح الدين الأيوبي وأعادها إلى ظلال الإسلام. وفي القرن العشرين ساهمت الإمبراطورية البريطانية، والغرب عموما، في غرس الكيان اليهودي العنصري البغيض في تلك البقعة المباركة تحت دعاوى “الحق الإلهي” في فلسطين كوطن قومي لليهود.
ومنذ ذلك الحين والأمة الإسلامية في حالة تدافع لاسترداد هذا الحق المغتصب، والشعب الفلسطيني في حالة رباط وجهاد لهذه الغاية الكبرى الشريفة.
اليوم وبعد مرور ثلاثة عقود على انتفاضة الأقصى الإسلامية يظهر التدافع أشد حدة وأوسع ساحة وأعمق حضورا. فقد صنع طغيان اليهود وظلمهم وإفسادهم موجة عارمة من الرفض والمقاومة في أبناء فلسطين.
ودوام الحال من المحال، وإيجاد هذا الكيان بصورة غير شرعية واستنادا للقوة والبطش لن يكون دائما بل هو استثنائي وعابر، إذ هو فاقد للأسباب الموضوعية للبقاء، ولولا رعاية الغرب له وإمدادهم إياه بأسباب التغلب، ولولا خيانة حكام العرب وعمالة الأنظمة لزال هذا الكيان في وقت مبكر.
ومع ذلك، فلا تزال البشرى الإلهية والنبوية باستعادة الأقصى تتلى في الكتاب وتقرأ في السنة، وليس هذا وحسب بل ومؤشرات الانتصار على الصهاينة باتت كثيرة جدا، وهي تبشر بقرب هذا الانتصار.
فالمظلومون المضطهدون في فلسطين يمتلكون اليوم روحا ثورية ونفس مقاومة وشخصية جهادية رافضة للظلم والاضطهاد ومساعي الإذلال والاستعباد.
وسواء بالمقاييس الإيمانية أو الأخلاقية أو العقلانية أو النفسية، وحتى المادية، فالمؤشرات مبشرة.
فمن الملاحظ على الصهاينة:
– جبنهم وعدم ثباتهم حال المواجهة كما أخبر الله تعالى: ((لَن یَضُرُّوكُم إِلَّاۤ أَذࣰى وَإِن یُقَـٰتِلُوكُم یُوَلُّوكُمُ ٱلأدبَارَ ثُمَّ لَا یُنصَرُونَ)). وهذا يزيد من شجاعة الطرف المقابل وبسالته، حتى رأينا كيف يتصدى الأطفال لهم ويصارعونهم بأيديهم الخالية وصدورهم العارية!
– وضوح الذلة فيهم كما أخبر سبحانه: ((ضُرِبَت عَلَیهِمُ الذِّلَّةُ أَینَ مَا ثُقِفُوۤا إِلَّا بِحَبلࣲ مِّن ٱللَّهِ وحَبلࣲ مِّن ٱلنَّاسِ)). فاستقواءهم بالسلاح والقلاع والحصون، والجرائم والبطش. ما جعلهم يبدون أمام العالم كيانا مسخا طاغيا، وشعبا عنصريا طائفيا تكرره شعوب الأرض وتخرج في إدانة عنصريته وطائفيته.
– هوانهم أمام أهل الحق، كما قال تعالى: ((وَضُرِبَت عَلَیهِمُ المَسكَنَةُ)). وهذا أمر طبيعي في نفسية أي غاصب لا يملك المشروعية لوجوده وبقائه. لذلك يتملكهم الخوف والقلق من مصيرهم في ظل استقواء أهل الحق وأصحابه شيئا فشيئا، وهذا ما يفزعهم ويقظ مضاجعهم.
– ركونهم لتحصيناتهم المادية فقط، كما وصفهم الله منذ القدم: ((وَظَنُّوۤا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُم حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ))، ومن هنا يأتيهم مكر الله بهم: ((فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن حَیۡثُ لَم یَحتَسِبُوا)). فرغم أسوار العزل والمستوطنات المسيجة التي ظنوا أنها ستحميهم إذ بهم يسهلون على الفلسطينيين استهداف تجمعاتهم ومعرفة تحركاتهم وبعدهم عن أن يتأثروا بهم، ويتعاطفوا معهم، لأن الخلطة توجد قدرا من المودة والتعاطف، لكن شاء الله أن لا يتم ذلك حفاظا لجذوة العداء في قلوب حملة الحق.
– الرعب الذي في قلوبهم وهو رعب لازم لشخصيتهم: ((وَقَذَفَ فِی قُلُوبِهِمُ الرُّعبَ)). لذلك فهم يتسلحون ويتحصنون ويستنجدون بدول الكفر قاطبة ويتحالفون مع قوى الشر في المنطقة، رغم ضآلة حجم الفلسطينيين وقلة حيلتهم وضعف إمكاناتهم، لكن هذه هي نفسية اليهود يحسبون كل صيحة عليهم وكل روح تلعنهم وتريد إهلاكهم.
– حبهم للحياة وكراهيتهم للموت: ((وَلَتَجِدَنَّهُم أَحرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَیَوٰةࣲ)). وهذا ما يفقدهم الشجاعة والاستبسال والتضحية، وهو معيار للانتصار والفوز إذا حضرت المعركة واحتدم القتال ولاحت أعلام الموت. لذلك فهم يحسنون بناء الملاجئ ويكثرون من التحصينات ويحملون على عواتقهم الدروع الواقية ويفرون من أي مواجهة تتكافؤ فيها موازين القوى أو تتساوى فيها الأعداد.
– اختلافهم وتنازعهم، ف: (بَأسُهُم بَینَهُم شَدِیدࣱۚ تَحسَبُهُم جَمِیعࣰا وَقُلُوبُهُم شَتَّىٰ). وهذا من فضل الله تعالى على أهل الحق. فلا تزال النخب السياسية والفكرية في إسرائيل تتخالف وتتنازع وتفقد واحدية الشعور والانتماء ولولا المصالح وبقايا من العنصرية والتعصب الديني لتفتت المجتمع الصهيوني إلى كنتونات متناحرة.
وقد توعدهم الله بتسليط عباده عليهم انتقاما: ((وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَیَبعَثَنَّ عَلَیهِم إِلَىٰ یَومِ ٱلقِیَـٰمَةِ مَن یَسُومُهُم سُوۤءَ ٱلعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِیعُ ٱلعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ)). وفي هذا بشرى للمؤمنين، إذ لعنات الله وغصبه عليهم وتوعوده لهم لا تزال تطاردهم جيلا بعد جيل، إذ هم شعب مرد على الكفر والإجرام.
وفي المقابل يتحلى الفلسطينيون بالشجاعة والجرأة والعزة والبسالة والثبات والتمسك بحقوقهم والدفاع عن وجودهم ومصالحهم وعودتهم لدينهم وهويتهم وتضحيتهم بأنفسهم وأموالهم. فالمرأة قبل الرجل، والصغير قبل الكبير، والجميع دون استثناء يحمل بذور الرفض والمقاومة ورغبة في الجهاد والاستشهاد استمساكا بالدين والأرض والوجود.
فالنصر والحالة هذه آت لا محالة.