فقه الميزان في عالم الغيب والمستقبل | أ. د. علي القره داغي
فقه الميزان في عالم الغيب، والمستقبل:
أنه لا يجوز الحديث عنه إلا بخبر صحيح من الله تعالى.
ولا يجوز الحديث عن تحديد زمن انتهاء هذا الوباء وإسناده إلى كتاب الله وسنة رسوله r، فلم يثبت ذلك في حديث صحيح صريح.
وكذلك لا يجوز تحميل نصوص الشريعة على ما لا يحتمل، مثل تفسير (عليها تسعة عشر) بكوفيد19
كثر اللفظ من بعض المتعالمين المتفيقهين أن هذا الوباء (كورونا كوفيد 19) سينتهي خلال خمسة أشهر، أو في الشهر الخامس عند طلوع الثريا (رجماً بالغيب).
ونحن إذ نتضرع إلى الله تعالى بأن يدفعه بأقرب فرصة، ونؤمن بأنه سيرفع إن عاجلاً أو آجلاً، فهذا من سنن الله، لكننا نؤكد أن هذه الأخبار داخلة فيما حرمه الله تعالى من الرجم بالغيب، حيث لا يعلم الغيب المطلق إلا الله تعالى، فقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[1]، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}[2]، ومن أمور الغيب ادعاء العلم بالمستقبل مما يحدث، فقال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[3].
فالمراد بالغيب الخاص بالله تعالى هو الغيب المطلق دون وسائل، مثل العلم بمستقبل الإنسان من حيث السعادة أو الشقاء، والموت، ومثل العلم بزمن الساعة ويوم القيامة.
ولذلك فإدراك ما يغيب عن الإنسان، ولكنه يدركه بوسائل العلم الحديثة، فهذا من الغيب النسبي الذي يفتح فيه باب معرفته بمقدار علم الإنسان، فمثلاً اكتشف العلم الحديث معرفة كثير من أحوال الجنين من كونه ذكراً أو أنثى في مرحلة معينة، أو كونه صحيحاً أو غيره، ولكن هذا العلم إنما تحقق بالوسائل التي تجعل الشيء مدركاً ومحسوساً من خلال الأجهزة الخاصة، فهذا من الغيب النسبي، ولكن العلم بأحوال الجنين دون الوسائل العلمية أو العلم بمستقبله فهذا من الغيب المطلق.
واليوم يتحدث بعض المتعالمين أو الدعاة عن تحديد زمن انتهاء كورونا كوفيد 19وأنه ينتهي خلال خمسة أشهر، أو في الشهر الخامس، فهذا من باب الرجم بالغيب المحرم، وبعضهم ينسبونه إلى الرسول r في قصة ليست لها علاقة بهذا الموضوع، حيث روي أن ابن عمر t ذكر أن رسول الله r نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، قال: قلت: متى ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: طلوع الثريا”[4]..
وهذا الحديث يتحدث عن العاهات الخاصة بالثمار أوضحها الصحابي الجليل زيد بن ثابت، حيث قال:” كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ إِنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ ــ فساد الطلع وتعفنه ــــ أَصَابَهُ مُرَاضٌ أَصَابَهُ قُشَامٌ عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ فَإِمَّا لَا فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ”[5]، ثم قال زيد بن ثابت t: إن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا، فيتبين الأصفر من الأحمر.
إذن فالمراد بالعاهة هنا عاهة الثمار، وأن الرسول r لم يذكر هنا، ولم يربط بها، بل ربط بيع الثمرة ببدو صلاحها، ولكن زيد بن ثابت بحكم خبرته ربطها بطلوع الثريا (عنقود نجمي مفتوح يتكون من عدة أنجم) حيث يظهر في سمائنا ما عدا ما بين شهر أبريل (نيسان)، ويونيو (حزيران) وهذه الفترة يظهر فيها اضطرابات جوية تؤثر في الثمار والزرع.
والمهم أن ما ذكره زيد t يتعلق بظهور صلاح التمر والثمار الموسمية في الصيف، وليس له علاقة بالأوبئة والطاعون.
بالإضافة إلى ما سبق فإن حديث ابن عمر t مقيد تماماً بالنهي عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، والعاهة هي لغة واصطلاحاً: الآفة والمرض الظاهر للعيان.
وصيتي ونصيحتي وفقاً للميزان:
أوصي نفسي أولاً وجميع إخواني من أهل العلم والفكر أن لا يسندوا مثل هذه التخمينات إلى الإسلام والكتاب والسنة؛ لأن ميزان الغيبيات قائم على عدم جواز الاجتهاد والظن فيه، فقال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[6]، وقد ذم المشركين الذين يتبعون الظن والتخمين في العقيدة، فقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[7]، وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[8]، ثم قال تعالى في عاقبة الذين يعتمدون على الظن في الغيبيات: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[9].
مخاطر الحديث عن الغيب والمستقبل باسم الدين:
ثم إن الحديث عن القضايا الغبية المستقبلية باسم الدين له مخاطر كبيرة جداً على الدين نفسه، حيث يؤدي ــ في حالة عدم وقوع ما ذكر باسم الدين ــ إلى تكذيبه من قبل الآخرين.
فقد كانت الكنيسة في القرون الوسطى تُسند بعض الغيبيات غير الصحيحة إلى الدين قبل ظهور الطاعون عندهم، مثل أن من يحتمي بالكنيسة ويترهب فيها يكون بمنجاة عن الطاعون، وعندما وقع الطاعون والتجأ الناس إلى الكنائس حصد الطاعون أرواحهم بالجملة، مما كان له تأثير كبير في نشر الإلحاد، والثورة ضد الكنيسة، وخروج أوروبا تحت هيمنتها.
إن عظمة الإسلام تكمن في كونه دين النقل الصحيح والعقل المستقيم، ودين الوحي والفطرة السليمة، ودين العلم والإيمان، وأن أول آية نزلت منه هو الأمر بالقراءة الشاملة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[10].
فنوصي جميع إخواني باحترام التخصص من أهل العلم والطب، وأن لا يبحثوا عن بعض الأحاديث التي لو ضبطناها بفقه الميزان لظهر لنا جلياً أنها إما أن تكون غير صحيحة، أو أنها صحيحة ولكنها ليست صريحة وواضحة في مثل هذه النوازل، فتكفينا الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على الحجر الصحي، وعدم الاختلاط بين المرضى والأصحاء، والابتعاد عن كل مرض معدٍ كابتعادنا عن الأسد.
وكذلك من المؤلم ما انتشر من أن كورونا(كوفيد19) موجود في القرآن باسمه، وحاله وعلاجه، ثم تكلفوا فعبثوا بمعاني الآيات القرآنية، حيث فسّروا {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}[11] التي تتحدث عن الملائكة الذين يشرفون على النار بكورونا كوفيد 19، وهكذا.
فهذا عبث خطير واستهانة وجريمة بحق القرآن العظيم {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[12].
وقانا الله تعالى وإياكم شر مرض القلوب والأبدان، ووفقنا الله وإياكم لأن نقدم إسلامنا بالحكمة والموعظة الحسنة والرشاد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
هذا والله أعلم
كتبه الفقير إلى الله تعالى
أ.د. علي محيي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)