فقه المشاركة السياسية: الحكم والوقائع
بقلم د. غازي التوبة
من أجل الحديث عن “الإسلام السياسي” وأدائه في العصر الحاضر في مجالات “العمل السياسي”، و”فقه المشاركة” و”التحالف” لابد من توضيح حقيقتين كمقدمة للحديث عن “فقه المشاركة السياسية”، وهما:
الأولى: إن الدين الإسلامي دين سياسي بامتياز، وقد تأكد ذلك من خلال آيات القرآن الكريم التي نزلت في مكة، وهي تؤسس لمواجهة طواغيت قريش من أمثال أبي جهل وأمية بن خلف إلخ..، وتؤسس أيضاً للدفاع عن الفقراء والمستضعفين واسترداد حقوقهم، فقال تعالى: “ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين” (المطففين، 1-6).
وقد أكدت سيرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- هذه المعاني، فقد وجه أهل قريش أحد المظلومين الذين أكل أبو جهل حقه أن يذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليسترد له حقه، وبالفعل ذهب الرسول مع المظلوم إلى دار أبي جهل، وقرع بابه، وطالب الرسول أبا جهل أن يرد له حقه ففعل.
وقد أبرزت سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في توجهه لإقامة الدولة في المدينة، بأن الدين الإسلامي حريص على أن يقيم نموذجه وقيمه في الأرض، وهذا يقتضي العمل السياسي بكل مفرداته من اللقاء مع الآخرين، وإقامة التحالفات، وإمضاء المعاهدات، وإرسال الرسل، وإتقان قيادة الجماهير، والتأثير فيها إلخ…
وقد تجسدت هذه الفاعلية السياسية على مدار القرون بعلماء الأمة الذين اتخذوا المواقف المناسبة حسب ظروف الأمة السياسية، بدءاً بأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس إلخ…، مروراً بابن تيمية والعز بن عبد السلام إلخ…، وانتهاء بعبد الحميد بن باديس وعلّال الفاسي وعبد العزيز البدري والحاج أمين الحسيني إلخ…
الثانية: الأمة الإسلامية مستهدفة ـ الآن ـ بالتجزئة السياسية والتفتيت الثقافي، منذ ما يقرب من قرنين، وهناك مشاريع متعددة ظهرت من أجل تجزيئها سياسياً وتفتيتها ثقافياً، لكني سأذكر بعض مشاريع التجزيء السياسي التي برزت خلال القرن الماضي دون التعرض لمشاريع التفتيت الثقافي.
وأبرز مشاريع التجزيء السياسي في القرن الماضي، منها: معاهدة سايكس ـ بيكو عام 1916، والتي نفذت بعد الحرب العالمية الأولى وقسمت بلاد الشام إلى أربع دول، وكانت ثمرة ذلك إقامة دولة إسرائيل عام 1948، ثم جاءت بعد ذلك مخططات إسرائيلية أبرزها: ما فضحه الصحفي الهندي كارانجيا عام 1957، في كتاب (خنجر إسرائيل) والذي وضح فيه المخططات الإسرائيلية لتجزيء الدول المحيطة في تلك الفترة.
كما تأتي وثيقة الخارجية الإسرائيلية التي كشفتها مجلة (كيفونيم) “اتجاهات” في هذا المجال عام1982، والتي تستهدف تجزيء العراق وسورية والأردن ومصر والمغرب العربي والسودان والمملكة العربية السعودية.
وكان آخرها “مشروع الشرق الأوسط الجديد” الذي طرحه “المحافظون الجدد” وتبنى تحقيقه بوش في رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 2000 ـ 2008، واستهدف المشروع تجزيء دول الشرق الأوسط ومنها: العراق، سورية، الأردن، السعودية، إيران، إلخ…، وعبّر عن ذلك مقال الضابط الأمريكي “رايف بيترز” بعنوان “حدود الدم” الذي نشرته مجلة القوات المسلحة الأمريكية في عدد تموز/يوليو 2006.
بعد أن قدمنا لحديثنا بتانك الحقيقتين اللتين توضحان حجم الأخطار المحدقة بالأمة من جهة، وأهمية العمل السياسي في الإسلام من جهة ثانية، نستطيع أن نقول: إن الإسلام يبيح لحركات “الإسلام السياسي” والجماعات الإسلامية والمشايخ والعلماء أن يتعاونوا مع “الآخرين”، شريطة أن يكون هؤلاء “الآخرون” مرتبطين بالأمة، ومهتمين بشأنها.
وقد طبقت حركات الإسلام السياسي وتجمعات العلماء والمشايخ ذلك المفهوم على مدار القرن الماضي، وسنرصد ذلك في ثلاث محطات خلال القرن الماضي:
المحطة الأولى: بعد الحرب العالمية الأولى:
واجهت الشعوب العربية الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى بأوسع طيف من “المشاركة السياسية” بين مختلف جماعات “الإسلام السياسي” والعلماء والمشايخ من جهة، والطوائف والأحزاب القومية والوجهاء من جهة ثانية، ويمكن أن نضرب مثالاً على ذلك من فلسطين وسورية.
لقد استهدفت الصهيونية إقامة دولة لها في فلسطين، وقد اقتضى ذلك نشاطاً سياسياً واسعاً من الشعب الفلسطيني من أجل مواجهة هذا الخطر الداهم، وقد قاد الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ذلك النشاط السياسي، وقد ابتدأ نشاطه عندما عقد المؤتمر الإسلامي الأول الذي جمع عدداً من العلماء من سنّة وشيعة ومن مختلف بلدان العالم الإسلامي في القدس عام 1931.
ثم قاد نشاطاً سياسياً آخر على مستوى فلسطين انتهى به إلى تشكيل الهيئة العربية العليا التي ضمت في أجهزتها الإسلاميين والقوميين والمسيحيين والليبراليين، وأبرز الإسلاميين الذين ساهموا في العمل السياسي مع الحاج أمين الحسيني جماعة عز الدين القسام، ومن القوميين: محمد عزة دروزة، ومن المسيحين: أميل الغوري.
أما سورية فقد جمعت ثوراتها المتعددة مشايخ سورية، وجمعياتها الدينية في مختلف المدن السورية، وشخصيات وطنية مثل: شكري القوتلي ورشدي الكيخيا وصبري العسلي وشخصيات مسيحية مثل: فارس الخوري، وكانت ثمرة ذلك التشارك السياسي الذي قاده الإسلاميون استقلال سورية عام 1946.
لقد شهدت معظم ساحات الدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى تشاركاً سياسياً واسعاً بين الإسلاميين وغيرهم, وقاده الإسلاميون في معظمه، وقد أدى ذلك إلى اندحار الإستعمار واستقلال معظم الدول العربية.
المحطة الثانية: بعد الحرب العالمية الثانية:
أثمر الإستقلال والتحرر بأن قامت حكومات وطنية، وبذلك تأسست الدولة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية في معظم الدول العربية، ثم حكم جمال عبد الناصر مصر بعد انقلاب عام 1952، وكان قومياً عربياً في البداية ثم ربط الفكر القومي بالإشتراكي في ستينيات القرن الماضي، وأسس ذلك اللقاء بين الفكر القومي العربي والفكر الإشتراكي إلى تعميق المعاداة للدين الإسلامي واعتباره عقبة تحول دون التقدم والنهضة، ولا بد من استئصاله من حياة الشعوب العربية، وقد انتقل ذلك التأصيل من التيار الناصري في مصر إلى حزب البعث في العراق وسورية، وإلى جبهة التحرير الجزائري التي حكمت الجزائر بعد استقلال عام 1962، وإلى السودان على يد جعفر النميري بعد انقلاب عام 1969، وإلى ليبيا بعد انقلاب القذافي عام 1969، وإلى الصومال بعد انقلاب زياد بري عام 1969 إلخ…
وقد أدت تلك المواقف إلى اضطهاد التيارات الدينية الإسلامية، وإلى انعدام المشاركة السياسية بين الإسلاميين وغيرهم، والسبب في ذلك هو التيارات القومية الماركسية التي صنفت التيارات الإسلامية والمشيخية في صف الرجعية، ومعاداة الشعب، وأنه يجب استئصالها.
المحطة الثالثة: الربيع العربي:
لقد جاء انفجار ثورات الربيع العربي عام 2011 في عدد من الدول مثل مصر وتونس وسورية واليمن، نتيجة استبداد حكام الدولة الوطنية وفشلهم في إنجاز النهضة والتقدم، واستخذائهم أمام العدو الخارجي، وسرقتهم لخيرات الدولة وتوزيعها على عائلة الحاكم والمحسوبين حوله، وانقلاب النظام الجمهوري إلى نظام ملكي في توريث الحاكم الحكم لأبنائه إلخ…
لقد نجح التعاون بين مختلف فئات الشعب وأحزابه وجماعاته في دول الربيع العربي من إسلامية وقومية وليبرالية واشتراكية إلخ… إلى إطلاق شرارة ثورات الربيع العربي في البداية، ثم نجح هذا التعاون والتشارك السياسي في ثورات الربيع العربي في إسقاط بعض الأنظمة كما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا، ولكنه تعثر في بعضها الآخر كما حدث في سورية، وانبثقت دولتان ديمقراطيتان في مصر وتونس عام 2011 بكل معنى الكلمة، وبما تتطلبه الديمقراطية من دستور وانتخابات واستفتاءات وبرلمان ورئيس للجمهورية ووزارة مسؤولة أمام البرلمان إلخ..
وفاز الإسلاميون في كلا البلدين وكسبوا الأكثرية التي تنص عليها الديمقراطية التي جعلتهم حكاماً للبلدين. لكن المفاجأة كانت عندما انقلبت بعض الأطراف المشاركة في نظام الحكم في مصر من قوميين وليبراليين ويساريين في 30 من حزيران/يونيو 2013 على النظام الديمقراطي الذي رأسه محمد مرسي بعد انتخابات شعبية ونزيهة على مستوى مصر عام 2012. وقد مثل هذا الانقلاب نكسة وكسراً لمفهوم “المشاركة السياسية” الذي ولده الربيع العربي.
من خلال استعراضنا للمحطات الثلاث في “المشاركة السياسية” نجد أن “الإسلاميين” بكل أصنافهم أقبلوا على التعاون مع الأطراف الأخرى، وقد نجح التعاون و”التشارك السياسي” في محطة واحدة وهي المحطة الأولى: بعد الحرب العالمية الأولى، لكنه فشل في المحطتين الأخيرتين: بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد الربيع العربي، والسبب هو: الأطراف الأخرى من قومية ويسارية وليبرالية إلخ… والتي خرجت من المشاركة السياسية لأسباب مصلحية، أو أوهام أيديولوجية، أو أوامر خارجية، خرجت لواحد من الأسباب السابقة أو لجميعها.
الخلاصة:
توصلنا من خلال الحقيقتين اللتين أدرجناهما في بداية المقال، وهما:
الإسلام دين سياسي بامتياز، والأخطار الوجودية المحدقة بالأمة من تجزئة وغيرها، توصلنا إلى أن الإسلام يبيح التشارك مع “الآخرين” في الدفاع عن وجود الأمة والمحافظة عليها شريطة أن يكون “الآخرون” مرتبطين بالأمة ومهتمين بشأنها.
ورصدنا التعاون بين “الإسلام السياسي” و”الآخرين” في ثلاث محطات هي: بعد الحرب العالمية الأولى والثانية والربيع العربي، فوجدنا أنه تحقق ونجح في مرة واحدة هي: بعد الحرب العالمية الأولى، وتعثر في المحطتين الأخريتين، والسبب في ذلك يعود إلى أن “الأطراف الأخرى”من قومية ويسارية وليبرالية واشتراكية إلخ… راعت مصالحها الفردية ولم تنظر إلى صالح الأمة من جهة، وتبعت أوهامها الأيديولوجية من جهة ثانية، وصدعت لأوامر خارجية من جهة ثالثة.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)