مقالاتمقالات مختارة

فقه الخلافة الراشدة

بقلم محمد إلهامي – مدونات الجزيرة
لئن كان في تاريخ أمة ما شيئا تفتخر به فلن يكون بحال أعظم من فخرنا بعصر الخلافة الراشدة، فنحن الأمة الوحيدة التي حكمت ثلث العالم المعروف وقتها بعدل ورحمة، فلئن افتخر الغرب بأنه اخترع الديمقراطية فلقد كانت ديمقراطية المدن الصغيرة في اليونان (البلد ذات الجزر الصغيرة المحدودة) فأما حين بلغوا الإمبراطورية فلا عدل ولا رحمة ولا ديمقراطية بل امتصاص شعوب العالم وقهرها لخدمة أمة اليونان والرومان، وهو الأمر الذي نظَّر له فلاسفة الغرب الأوائل وعدُّوه أمرا طبيعيا ، وهو الأمر المستمر حتى يومنا هذا.

لكننا لن نتحدث الآن في المقارنة مع الغرب وإن كانت مثيرة للشهية لا سيما في زمن الجهل والهزيمة النفسية وظهور من يدعونا لترك تراثنا والسير وراء الغرب باعتباره قمة التجربة الإنسانية.. وإنما سنحاول أن نعرض بتبسيط: لماذا ينبغي علينا أن نفقه عصر الخلافة الراشدة؟ ماذا سنستفيد من ذلك؟ ولماذا تعلت قلوب المسلمين وطموحات الحركات الإسلامية بعصر الخلافة الراشدة؟.. والإجابة على تلك الأسئلة هي نفسها الإجابة على سؤال: لماذا يُراد لنا أن نجهل تاريخنا وننفر من تراثنا ونفقد ذاكرتنا؟

عصر الخلافة الراشدة هو عصر الإنجاز الكبير، عصر انبعاث الأمة من مجاهل التاريخ لتصعد إلى ذروة القوة العالمية في ثلاثين عام فقط؟!.. إنجاز اندهش له المؤرخون على اختلافهم وتنوع أفكارهم ومشاربهم! والعجيب أنه إنجاز راسخ لم تغيره الأيام والقرون على تطاولها، إنجاز غير خريطة العالم منذ حدث حتى الآن.

نحتاج ونحن في زمن القهر هذا أن نقترب من عصر الراشدين، نتأمل كيف صنعوا ذلك المجد الكبير، كيف أنشأوا دولة عظمى تحكم ملايين البشر بالعدل، كيف طبقوا الإسلام في عالم الواقع بعد انقطاع الوحي، كيف استطاعوا أن يخرجوا الجيوش من الصحراء العربية القاحلة المنقطعة عن الحضارة فيكتسحون الحضارات الكبرى والإمبراطوريات العظمى وينقذون الملايين من الظلم والقهر الطويل الذي امتد قرونا متعاقبة، ثم يظللونهم بحضارة إسلامية خالصة فيدخل الناس في دين الله أفواجا ويخرجون من الظلمات إلى النور، كيف استطاعوا أن يحتفظوا بثقتهم في أنفسهم فلا ينبهرون بمظاهر الفخامة والترف وبدائع القصور وروائع الزخارف والرسوم ومعالي البنيان وفسائح العمران؟!

لن يمكننا الانتقال من حالنا البائس إلى الحال التي نأملها إلا إن استوعبنا وتعلمنا من الخلفاء الراشدين، فأولئك الخلفاء هم التطبيق المثالي النموذجي للإسلام بعد أن توفي رسول الله، ولهذا قال لنا رسول الله في وصيته الغالية المشهورة: “فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ”، ولن يمكننا تنفيذ وصية حبيبنا إلا أن عرفنا سنة الخلفاء الراشدين! فمن هنا كان معرفة تاريخ وأنباء هذا العصر، ومعرفة رجاله وأحواله وأوضاعه هي الطريق لفهم الإسلام، وفهم واجبنا في واقعنا المعاصر.

لماذا كان للخلفاء سنة.. ألم يكتمل الدين في زمن النبي؟
نعم اكتمل الدين، ومن الأدلة على اكتماله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، فإنهم لا سنة لهم في العبادات والشعائر، وإنما سنتهم هي في السياسة وطريقة الحكم، لذلك قال رسول الله (سنة الخلفاء)، ولم يقل سنة أصحابي أو سنة فلان وفلان، كان النبي يصفهم بوصفهم “الخلفاء” ليؤكد على أن جانب الاقتداء بهم في سنتهم هو الجانب السياسي.

وذلك لأن الدين في سائر الجوانب بينه ووضحه رسول الله، لكن بعض الأمور بقيت لا يمكن الاقتداء فيها برسول الله لاعتبارات خاصة، منها مثلا:
أولا: أن رسول الله متصلٌ بالوحي، وينزل الوحي عليه يصحح له أو يوجهه، لكن رسول الله سيموت وستبقى الأمة بلا وحي، فكان لا بد من وجود تجربة يقتدي فيها المسلمون ببشر لا يتصلون بالوحي، فهم يجتهدون فيخطئون ويصيبون.

ثانيا: أنه لا يملك مسلم أن يعارض رسول الله، فهو الرسول الموصول بالوحي الذي ينطق بالحق وهو الكامل روحا وعقلا، ومن ثَمَّ لا يمكن لمسلم أن يقاتل النبي، فالذي يفعل شيئا من هذا يكون كافرا مرتدا. فمن هنا كان لا بد من وجود قدوات من البشر يُقتدى بهم، في سنتهم في مثل هذه الأمور كالشورى فيما ليس فيه نص وفي النوازل والمستجدات، والتعامل مع المعارضة، والتعامل مع الفتن الداخلية.. وهكذا من الأمور التي يختلف التعامل فيها بين النبي وغيره من سائر البشر.

ثالثا: أن رسول الله اجتمعت فيه النبوة والإمامة، أي الرئاسة الدينية والدنيوية، ولا يمكن لأحد أن يختار الرسول وإنما هو اصطفاء يصطفيه الله له، أما بالنسبة للحاكم فلا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نختار الحاكم وما هي شرعية حكمه وما هي حقوقه وواجباته.. ولم يكن هذا ليُعرف على الوجه الواضح إلا بوجود نموذج بشري يملك الناس فيه أن يختاروه وأن يحاسبوه ويراقبوه بل وأن يعزلوه.

المدينة الفاضلة والعصر الذهبي
سألت بعض الشباب في محاضرة عن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فقال بعضهم: العصر الأندلسي حيث القصور الفاخرة والصنائع الدقيقة، وقال آخرون: العصر العباسي حيث الفنون والعلوم، وقال بعضهم: العصر الأموي حيث أوسع مساحات الفتوحات الإسلامية.

لقد أجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا السؤال حين قال: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، وكذلك حين أوصانا بالاقتداء بالخلفاء الراشدين لما قال “عضوا عليها بالنواجذ”. ولذلك فإن المسلمين في سعيهم نحو إحياء الخلافة الإسلامية لا يطمحون لعصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين، بل يطمحون لعصر الخلافة الراشدة، وهم حين يتحدثون عن الحاكم المثالي يتحدثون عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا عن عبد الملك بن مروان أو أبي جعفر المنصور أو السلطان سليم، رغم أن كل هؤلاء من عظماء التاريخ الإنساني، إلا أن المسلمين يتمسكون على الخصوص بالقدوة المتمثلة في الراشدين.

هذا التحديد لعصر القدوة أو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية يؤثر كثيرا على اختياراتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فالحاكم المسلم يظل عبر التاريخ يُحاكم إلى نماذج الخلفاء الراشدين، ولربما يكون الحاكم المسلم أنجز -بالمعيار الدنيوي- إنجازا عظيما لكن جمهرة الفقهاء والمؤرخين لا يرضون عنه، وهو هو نفسه الذي لو كان في سياق غربي لكان بغير شك من عظماء مؤسسي الدول، وذلك لأن وجود نموذج في النظام الإسلامي يمثل الحق الذي يعلو على القوة، وانعدام هذا النموذج في السياق العلماني يؤدي لأن تكون القوة هي معيار الحق.

الدليل على صلاحية الإسلام للتطبيق
كتبت الباحثة الإيطالية ماريا لويزا برنيري كتابها “المدينة الفاضلة عبر التاريخ” وتتبعت فيه تصورات الفلاسفة والمصلحين والزعماء عن المدينة الفاضلة، منذ أقدم العصوم حتى الآن، وكان أول نتائجه أن كل تصورات المدينة الفاضلة لم تتحقق، لم يستطع أحد صناعة مدينته الفاضلة حتى الذين امتلكوا سلطة تنفيذ أفكارهم!

هنا يبدو واضحا قيمة “عصر الخلافة الراشدة”، إنه نموذج عملي واقعي تحقق في التاريخ لثلاثين سنة، فهو نموذج لم يحلق في آفاق الخيال ولم يحاول اختراع قوانين الطبيعة، بل نجح في التعامل مع واقع البشر. ولقد استمر ذلك النموذج ثلاثين سنة في قمته ثم بدأ النزول عن هذه القمة تدريجيا وببطء، لكن الأمة التي خرجت في هذه الثلاثين سنة هي الأمة التي ظلت ألف سنة تشع علما وحضارة. فالخلاصة أن تحقق النموذج في واقع الحياة لعدد من السنين يمثل في حد ذاته القدرة على إعادة تحققه مرة أخرى، وبهذا يصير حلم إحيائه حلما ممكنا، ويصير السعي إلى تحقيقه من جديد سعيا واقعيا، وهو خير من السعي وراء سراب تصورات حالمة لم تتحقق ولم تستطع أن تخرج من سطور الكتب إلى التعامل مع واقع الناس.

الواقعية مقابل المثالية
تعترف الباحثة في بداية بحثها، أن الواقع تجاوز المثاليين الحالمين، “الحالمون من أصحاب الرؤى أصبحوا موضع السخرية أو الاحتقار، والناس “العمليون” هم الذين يحكمون حياتنا”، بل لقد صار العالم عقيما من الحالمين الذين ينتجون مدينة فاضلة في الكتب وحدها، لقد أصيب الجميع بما تسميه “عدوى الواقعية”، وهكذا لم تستطع التصورات الحالمة أن ترفع من مستوى الواقع، بل استطاع الواقع أن يجذب إليه التصورات لتكون أقل حلما ومثالية.

وكانت واحدة من إشكاليات الموضوع أن الفلاسفة حين كانوا يحلمون بمدينتهم الفاضلة، بدلا من محاولة “اكتشاف قوانين الطبيعية، فضَّلوا أن يخترعوها” أي أنهم حاولوا إلزام الناس بأفكارهم ولم يحاولوا اكتشاف قوانين الواقع، فأقاموا مدنهم الفاضلة على مجرد تصورات. أما الإسلام فقد أقام الإسلام دولته في واقع الناس، والناس لن يتحولوا إلى ملائكة، الناس مختلفون في الفهم والمواهب والقدرات والطاقات، مختلفون في الهمم والطموح والغايات، يقع منهم الخطأ والنسيان، يستزلهم الشيطان، ويوقع بينهم الفتن والعداوة والبغضاء، سيكون منهم ذنوب، وستقع بينهم حروب وفتن.

في عصر الخلافة الراشدة نرى نموذجا مثاليا للتعامل مع واقع البشر كما هو لا كما يحاول الفلاسفة والمثاليون أن يصنعوه، ولهذا لا بد أن نفهم هذا العصر جيدا إذا أردنا أن نقدم رسالتنا وديننا ونموذجنا الحضاري لكل الناس.

العصمة من التيه بين الأفكار والمذاهب
لو لم يكن في تاريخنا عصرٌ مثل عصر الخلافة الراشدة لكان المسلمون الآن في تيه كبير واضطراب عظيم.. كنا سنكون أشبه بالغرب في تيهه واضطرابه. نعم الغرب -رغم قوته وعلوه- في تيه واضطراب فكري واسع، والفلسفة الغربية أشبه بالغابة الضخمة المشتبكة المتناقضة من الأفكار والتصورات والرؤى، وما نراه نحن في العالم العربي -لضعف الثقافة وقلة الاطلاع- ثوابت عندهم هي في الحقيقة موضوعات تهتز بشدة وتعاني من انتقادات جذرية وكاسحة، بل إن الفلسفة الغربية أنتجت مصطلح “ما بعد كذا” لتعبر عن “انتهاء” مرحلة أو فلسفة دون استيضاح ماذا سيليه.

إن مجرد “وجود نموذج” يمثل القدوة في الفكر الإسلامي هو بحد ذاته إنقاذ من التيه والضياع الفلسفي الكبير الذي يؤدي إليه “عدم وجود نموذج”، وكذلك عدم اليقين بنموذج واضح الملامح سيأتي به المستقبل. ولا يجد المرء تشبيها لهذا الوضع خيرا من قول الله تعالى: “الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات“.

إذا كان لدينا نموذج عملي متحقق في واقع الناس، أثمر ذلك نجاة من الاشتباكات والتناقضات في تحديد النموذج المعرفي والكليَّات الكبرى، فلن تصير الأمة ضحايا للأفكار التي تمثل ردات فعل على واقعها بالمقام الأول، إذ لن تضطر لدخول صراعات دموية للخروج من عصر الإقطاع إلى عصر الشيوعية أو من عصر الشيوعية إلى عصر الليبرالية أو من عصر الكنيسة إلى عصر الدولة.. وهكذا!
إن وجود النموذج العملي هو ما يحدد أمورا كثيرة من أصول الفكر والتوجه، مثل المرجعية النهائية وتفاعلها مع الوقائع التفصيلية المستجدة، ومثل الانحياز بين الفردية والجماعية، بين المادية والروحية، وما ينبثق عن كل هذا من أنظمة وأنماط اقتصادية واجتماعية وغيرها.

كل هذه الأمور وغيرها تختلف العقول بشأنها إن غاب النص وغاب النموذج التطبيقي له، وإن الأمة التي تسعى لاستعادة نموذج سبق وتعامل مع الأوضاع السياسية لهي أكثر بصيرة وأوضح طريقا من أمة تبحث عن نموذج لم تر ملامحه ولا تحسم كثيرا من أسئلته الجوهرية.

عصر الخلافة شمل كل أحوال الدولة
لقد استمرت الخلافة الراشدة ثلاثين سنة، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: “الخلافة بعدي ثلاثون سنة”، هذه الثلاثون سنة فترة طويلة يحدث فيها الكثير من الأحداث والتقلبات التي تسفر في النهاية عن وجود نموذج ثري يمكننا الاقتداء به. لقد كانت سنوات الخلافة الراشدة شاملة لسنن الدول جميعا: بداية من التأسيس كما في عهد أبي بكر، ومرورا بالنهوض والتطور كما في عهد عمر، وصولا إلى الرخاء كما في عامة عهد عثمان، وانتهاء بالفتنة الداخلية السلمية والمسلحة كما في آخر عهد عثمان وعهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

ولقد جاءت ولاية أبي بكر بنوازل سياسية كمسألة قرشية الخليفة، وتولية الفاضل، وما إن كانت الشورى معلمة أم ملزمة، وغيرها. وجاءت ولاية عمر بمسائل أخرى كترشيح الخليفة السابق، واختلاف الخلفاء في الاجتهاد السياسي، وأبواب في الأموال والأراضي ومعاملة الشعوب المفتوحة وغيرها. وجاءت ولاية عثمان بمسائل أخرى كتعدد المرشحين للخلافة، وعملية الانتخاب، وفقه مواجهة المعارضة السلمية والمتمردة، وجاءت ولاية علي بمسائل أخرى كاختيار الخليفة في الفتنة، وتحويل العاصمة، وتمرد الوالي على الخليفة، وانبعاث طائفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير إذن الإمام.

وفي كل هذه الفترات أمور اتفق عليها الراشدون فلا يمكن لأحد أن يجادل في أهميتها ولا أن يخرج برأي آخر فيها، مثل: ضرورة السلطة للدين وأنه لا دين بغير الدولة، فلقد اختار المسلمون خليفتهم قبل أن يدفنوا نبيهم، ورشح أبو بكر للأمة من يخلفه قبل أن يموت، وقبل أن يموت عمر وضع نظام اختيار الذي بعده، وما إن قُتِل عثمان حتى كانت الخلافة تسعى أمام علي -رضي الله عنه-.

فهم الحضارة الإسلامية
الآن نضرب مثالا آخر لآثار الإيمان بنموذج الخلافة الراشدة، هو أن روح الحضارة الإسلامية تنحاز إلى الإنسان لا إلى البنيان، وإلى المعنى أكثر من المادة. لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة.. لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة. إلا أن هذا العصر كان هو عصر الإنسان، العصر الذي يأمن فيه الإنسان على نفسه وعرضه وأهله، لا يستطيع حاكم أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، عصر تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.

إن الذي ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا ينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمر قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه، وحاصر المتمردون بيت عثمان وهو من حماهم ومنع أصحابه من مقاتلتهم والتصدي لهم بعد مجهود وافر في بيان ما هم عليه من الباطل والدفاع عن نفسه، وكان من قبل ذلك قد تعرض لمحاولة اغتيال فلم يعاقب أصحابها باعتبار أن الجريمة لم تقع فلا يستحقون عقابا، وقُتِل علي على يد رجل من فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب ولم يمنعه هذا أن يصل إليه. إنه انحياز لحرية الناس وحقوقهم على حساب أمن السلطة! وهو انحياز فلسفي كبير يترتب عليه معظم النظام السياسي والأمني في الدولة الإسلامية، وهو انحياز لاقتراب الحكام من العامة.

لهذا فمن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام!! أو لعل هذا هو الطبيعي، فإن من نشأ في ظل هذا النظام لم يعرف معنى الحرية فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته! هذا الانحياز إلى الإنسان وكرامته له وجه آخر، لأنه انحياز ضد القصور والزخارف والزينة، فالحضارة الإسلامية تهتم لأن تقيم مجتمعا تسوده الكرامة والعدل والإنصاف ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا! وهذا افتراق خطير!

إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور سلبي، نعم قد نستدل بكل هذا على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!

وعصر الخلافة الراشدة هو دليل على أهمية وحدة الأمة الإسلامية، لقد قاتل أبو بكر في أول هذا العصر لغاية توحيد الأمة، وقاتل علي -رضي الله عنه- في أواخره لغاية توحيد الأمة أيضا. والحفاظ على وحدة الأمة كان في الأهداف الكبرى للراشدين حربا وسلما، من أجلها كان عمر يعزل أي والٍ لم يرتضه أهل البلد مهما كان صلاح الوالي ومكانته، وبها حذر ووعظ عثمان المتمردين عليه.

فمن هنا عرفنا أن وحدة الأمة تحت إمام واحد هي من الأولويات الكبرى، فلا يغرينا ولا يغرنا من يحدثنا عن تحويل الأمة إلى مجرد “تنسيق” أو “تعاون” على غرار الاتحاد الأوروبي مثلا أو غيرها، فنحن أمة واحدة وهي تتوق إلى الوحدة ولم يفرقنا سوى الحكام المستبدون أو المحتلون.

لئن كان في تاريخ أمة ما شيئا تفتخر به فلن يكون بحال أعظم من فخرنا بعصر الخلافة الراشدة، فنحن الأمة الوحيدة التي حكمت ثلث العالم المعروف وقتها بعدل ورحمة، فلئن افتخر الغرب بأنه اخترع الديمقراطية فلقد كانت ديمقراطية المدن الصغيرة في اليونان (البلد ذات الجزر الصغيرة المحدودة) فأما حين بلغوا الإمبراطورية فلا عدل ولا رحمة ولا ديمقراطية بل امتصاص شعوب العالم وقهرها لخدمة أمة اليونان والرومان، وهو الأمر الذي نظَّر له فلاسفة الغرب الأوائل وعدُّوه أمرا طبيعيا ، وهو الأمر المستمر حتى يومنا هذا.

لكننا لن نتحدث الآن في المقارنة مع الغرب وإن كانت مثيرة للشهية لا سيما في زمن الجهل والهزيمة النفسية وظهور من يدعونا لترك تراثنا والسير وراء الغرب باعتباره قمة التجربة الإنسانية.. وإنما سنحاول أن نعرض بتبسيط: لماذا ينبغي علينا أن نفقه عصر الخلافة الراشدة؟ ماذا سنستفيد من ذلك؟ ولماذا تعلت قلوب المسلمين وطموحات الحركات الإسلامية بعصر الخلافة الراشدة؟.. والإجابة على تلك الأسئلة هي نفسها الإجابة على سؤال: لماذا يُراد لنا أن نجهل تاريخنا وننفر من تراثنا ونفقد ذاكرتنا؟

عصر الخلافة الراشدة هو عصر الإنجاز الكبير، عصر انبعاث الأمة من مجاهل التاريخ لتصعد إلى ذروة القوة العالمية في ثلاثين عام فقط؟!.. إنجاز اندهش له المؤرخون على اختلافهم وتنوع أفكارهم ومشاربهم! والعجيب أنه إنجاز راسخ لم تغيره الأيام والقرون على تطاولها، إنجاز غير خريطة العالم منذ حدث حتى الآن.

نحتاج ونحن في زمن القهر هذا أن نقترب من عصر الراشدين، نتأمل كيف صنعوا ذلك المجد الكبير، كيف أنشأوا دولة عظمى تحكم ملايين البشر بالعدل، كيف طبقوا الإسلام في عالم الواقع بعد انقطاع الوحي، كيف استطاعوا أن يخرجوا الجيوش من الصحراء العربية القاحلة المنقطعة عن الحضارة فيكتسحون الحضارات الكبرى والإمبراطوريات العظمى وينقذون الملايين من الظلم والقهر الطويل الذي امتد قرونا متعاقبة، ثم يظللونهم بحضارة إسلامية خالصة فيدخل الناس في دين الله أفواجا ويخرجون من الظلمات إلى النور، كيف استطاعوا أن يحتفظوا بثقتهم في أنفسهم فلا ينبهرون بمظاهر الفخامة والترف وبدائع القصور وروائع الزخارف والرسوم ومعالي البنيان وفسائح العمران؟!

لن يمكننا الانتقال من حالنا البائس إلى الحال التي نأملها إلا إن استوعبنا وتعلمنا من الخلفاء الراشدين، فأولئك الخلفاء هم التطبيق المثالي النموذجي للإسلام بعد أن توفي رسول الله، ولهذا قال لنا رسول الله في وصيته الغالية المشهورة: “فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ”، ولن يمكننا تنفيذ وصية حبيبنا إلا أن عرفنا سنة الخلفاء الراشدين! فمن هنا كان معرفة تاريخ وأنباء هذا العصر، ومعرفة رجاله وأحواله وأوضاعه هي الطريق لفهم الإسلام، وفهم واجبنا في واقعنا المعاصر.

لماذا كان للخلفاء سنة.. ألم يكتمل الدين في زمن النبي؟
نعم اكتمل الدين، ومن الأدلة على اكتماله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، فإنهم لا سنة لهم في العبادات والشعائر، وإنما سنتهم هي في السياسة وطريقة الحكم، لذلك قال رسول الله (سنة الخلفاء)، ولم يقل سنة أصحابي أو سنة فلان وفلان، كان النبي يصفهم بوصفهم “الخلفاء” ليؤكد على أن جانب الاقتداء بهم في سنتهم هو الجانب السياسي.

وذلك لأن الدين في سائر الجوانب بينه ووضحه رسول الله، لكن بعض الأمور بقيت لا يمكن الاقتداء فيها برسول الله لاعتبارات خاصة، منها مثلا:
أولا: أن رسول الله متصلٌ بالوحي، وينزل الوحي عليه يصحح له أو يوجهه، لكن رسول الله سيموت وستبقى الأمة بلا وحي، فكان لا بد من وجود تجربة يقتدي فيها المسلمون ببشر لا يتصلون بالوحي، فهم يجتهدون فيخطئون ويصيبون.

ثانيا: أنه لا يملك مسلم أن يعارض رسول الله، فهو الرسول الموصول بالوحي الذي ينطق بالحق وهو الكامل روحا وعقلا، ومن ثَمَّ لا يمكن لمسلم أن يقاتل النبي، فالذي يفعل شيئا من هذا يكون كافرا مرتدا. فمن هنا كان لا بد من وجود قدوات من البشر يُقتدى بهم، في سنتهم في مثل هذه الأمور كالشورى فيما ليس فيه نص وفي النوازل والمستجدات، والتعامل مع المعارضة، والتعامل مع الفتن الداخلية.. وهكذا من الأمور التي يختلف التعامل فيها بين النبي وغيره من سائر البشر.

ثالثا: أن رسول الله اجتمعت فيه النبوة والإمامة، أي الرئاسة الدينية والدنيوية، ولا يمكن لأحد أن يختار الرسول وإنما هو اصطفاء يصطفيه الله له، أما بالنسبة للحاكم فلا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نختار الحاكم وما هي شرعية حكمه وما هي حقوقه وواجباته.. ولم يكن هذا ليُعرف على الوجه الواضح إلا بوجود نموذج بشري يملك الناس فيه أن يختاروه وأن يحاسبوه ويراقبوه بل وأن يعزلوه.

المدينة الفاضلة والعصر الذهبي
سألت بعض الشباب في محاضرة عن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فقال بعضهم: العصر الأندلسي حيث القصور الفاخرة والصنائع الدقيقة، وقال آخرون: العصر العباسي حيث الفنون والعلوم، وقال بعضهم: العصر الأموي حيث أوسع مساحات الفتوحات الإسلامية.

لقد أجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا السؤال حين قال: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، وكذلك حين أوصانا بالاقتداء بالخلفاء الراشدين لما قال “عضوا عليها بالنواجذ”. ولذلك فإن المسلمين في سعيهم نحو إحياء الخلافة الإسلامية لا يطمحون لعصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين، بل يطمحون لعصر الخلافة الراشدة، وهم حين يتحدثون عن الحاكم المثالي يتحدثون عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا عن عبد الملك بن مروان أو أبي جعفر المنصور أو السلطان سليم، رغم أن كل هؤلاء من عظماء التاريخ الإنساني، إلا أن المسلمين يتمسكون على الخصوص بالقدوة المتمثلة في الراشدين.

هذا التحديد لعصر القدوة أو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية يؤثر كثيرا على اختياراتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فالحاكم المسلم يظل عبر التاريخ يُحاكم إلى نماذج الخلفاء الراشدين، ولربما يكون الحاكم المسلم أنجز -بالمعيار الدنيوي- إنجازا عظيما لكن جمهرة الفقهاء والمؤرخين لا يرضون عنه، وهو هو نفسه الذي لو كان في سياق غربي لكان بغير شك من عظماء مؤسسي الدول، وذلك لأن وجود نموذج في النظام الإسلامي يمثل الحق الذي يعلو على القوة، وانعدام هذا النموذج في السياق العلماني يؤدي لأن تكون القوة هي معيار الحق.

الدليل على صلاحية الإسلام للتطبيق
كتبت الباحثة الإيطالية ماريا لويزا برنيري كتابها “المدينة الفاضلة عبر التاريخ” وتتبعت فيه تصورات الفلاسفة والمصلحين والزعماء عن المدينة الفاضلة، منذ أقدم العصوم حتى الآن، وكان أول نتائجه أن كل تصورات المدينة الفاضلة لم تتحقق، لم يستطع أحد صناعة مدينته الفاضلة حتى الذين امتلكوا سلطة تنفيذ أفكارهم!

هنا يبدو واضحا قيمة “عصر الخلافة الراشدة”، إنه نموذج عملي واقعي تحقق في التاريخ لثلاثين سنة، فهو نموذج لم يحلق في آفاق الخيال ولم يحاول اختراع قوانين الطبيعة، بل نجح في التعامل مع واقع البشر. ولقد استمر ذلك النموذج ثلاثين سنة في قمته ثم بدأ النزول عن هذه القمة تدريجيا وببطء، لكن الأمة التي خرجت في هذه الثلاثين سنة هي الأمة التي ظلت ألف سنة تشع علما وحضارة. فالخلاصة أن تحقق النموذج في واقع الحياة لعدد من السنين يمثل في حد ذاته القدرة على إعادة تحققه مرة أخرى، وبهذا يصير حلم إحيائه حلما ممكنا، ويصير السعي إلى تحقيقه من جديد سعيا واقعيا، وهو خير من السعي وراء سراب تصورات حالمة لم تتحقق ولم تستطع أن تخرج من سطور الكتب إلى التعامل مع واقع الناس.

الواقعية مقابل المثالية
تعترف الباحثة في بداية بحثها، أن الواقع تجاوز المثاليين الحالمين، “الحالمون من أصحاب الرؤى أصبحوا موضع السخرية أو الاحتقار، والناس “العمليون” هم الذين يحكمون حياتنا”، بل لقد صار العالم عقيما من الحالمين الذين ينتجون مدينة فاضلة في الكتب وحدها، لقد أصيب الجميع بما تسميه “عدوى الواقعية”، وهكذا لم تستطع التصورات الحالمة أن ترفع من مستوى الواقع، بل استطاع الواقع أن يجذب إليه التصورات لتكون أقل حلما ومثالية.

وكانت واحدة من إشكاليات الموضوع أن الفلاسفة حين كانوا يحلمون بمدينتهم الفاضلة، بدلا من محاولة “اكتشاف قوانين الطبيعية، فضَّلوا أن يخترعوها” أي أنهم حاولوا إلزام الناس بأفكارهم ولم يحاولوا اكتشاف قوانين الواقع، فأقاموا مدنهم الفاضلة على مجرد تصورات. أما الإسلام فقد أقام الإسلام دولته في واقع الناس، والناس لن يتحولوا إلى ملائكة، الناس مختلفون في الفهم والمواهب والقدرات والطاقات، مختلفون في الهمم والطموح والغايات، يقع منهم الخطأ والنسيان، يستزلهم الشيطان، ويوقع بينهم الفتن والعداوة والبغضاء، سيكون منهم ذنوب، وستقع بينهم حروب وفتن.

في عصر الخلافة الراشدة نرى نموذجا مثاليا للتعامل مع واقع البشر كما هو لا كما يحاول الفلاسفة والمثاليون أن يصنعوه، ولهذا لا بد أن نفهم هذا العصر جيدا إذا أردنا أن نقدم رسالتنا وديننا ونموذجنا الحضاري لكل الناس.

العصمة من التيه بين الأفكار والمذاهب
لو لم يكن في تاريخنا عصرٌ مثل عصر الخلافة الراشدة لكان المسلمون الآن في تيه كبير واضطراب عظيم.. كنا سنكون أشبه بالغرب في تيهه واضطرابه. نعم الغرب -رغم قوته وعلوه- في تيه واضطراب فكري واسع، والفلسفة الغربية أشبه بالغابة الضخمة المشتبكة المتناقضة من الأفكار والتصورات والرؤى، وما نراه نحن في العالم العربي -لضعف الثقافة وقلة الاطلاع- ثوابت عندهم هي في الحقيقة موضوعات تهتز بشدة وتعاني من انتقادات جذرية وكاسحة، بل إن الفلسفة الغربية أنتجت مصطلح “ما بعد كذا” لتعبر عن “انتهاء” مرحلة أو فلسفة دون استيضاح ماذا سيليه.

إن مجرد “وجود نموذج” يمثل القدوة في الفكر الإسلامي هو بحد ذاته إنقاذ من التيه والضياع الفلسفي الكبير الذي يؤدي إليه “عدم وجود نموذج”، وكذلك عدم اليقين بنموذج واضح الملامح سيأتي به المستقبل. ولا يجد المرء تشبيها لهذا الوضع خيرا من قول الله تعالى: “الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات“.

إذا كان لدينا نموذج عملي متحقق في واقع الناس، أثمر ذلك نجاة من الاشتباكات والتناقضات في تحديد النموذج المعرفي والكليَّات الكبرى، فلن تصير الأمة ضحايا للأفكار التي تمثل ردات فعل على واقعها بالمقام الأول، إذ لن تضطر لدخول صراعات دموية للخروج من عصر الإقطاع إلى عصر الشيوعية أو من عصر الشيوعية إلى عصر الليبرالية أو من عصر الكنيسة إلى عصر الدولة.. وهكذا!
إن وجود النموذج العملي هو ما يحدد أمورا كثيرة من أصول الفكر والتوجه، مثل المرجعية النهائية وتفاعلها مع الوقائع التفصيلية المستجدة، ومثل الانحياز بين الفردية والجماعية، بين المادية والروحية، وما ينبثق عن كل هذا من أنظمة وأنماط اقتصادية واجتماعية وغيرها.

كل هذه الأمور وغيرها تختلف العقول بشأنها إن غاب النص وغاب النموذج التطبيقي له، وإن الأمة التي تسعى لاستعادة نموذج سبق وتعامل مع الأوضاع السياسية لهي أكثر بصيرة وأوضح طريقا من أمة تبحث عن نموذج لم تر ملامحه ولا تحسم كثيرا من أسئلته الجوهرية.

عصر الخلافة شمل كل أحوال الدولة
لقد استمرت الخلافة الراشدة ثلاثين سنة، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: “الخلافة بعدي ثلاثون سنة”، هذه الثلاثون سنة فترة طويلة يحدث فيها الكثير من الأحداث والتقلبات التي تسفر في النهاية عن وجود نموذج ثري يمكننا الاقتداء به. لقد كانت سنوات الخلافة الراشدة شاملة لسنن الدول جميعا: بداية من التأسيس كما في عهد أبي بكر، ومرورا بالنهوض والتطور كما في عهد عمر، وصولا إلى الرخاء كما في عامة عهد عثمان، وانتهاء بالفتنة الداخلية السلمية والمسلحة كما في آخر عهد عثمان وعهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

ولقد جاءت ولاية أبي بكر بنوازل سياسية كمسألة قرشية الخليفة، وتولية الفاضل، وما إن كانت الشورى معلمة أم ملزمة، وغيرها. وجاءت ولاية عمر بمسائل أخرى كترشيح الخليفة السابق، واختلاف الخلفاء في الاجتهاد السياسي، وأبواب في الأموال والأراضي ومعاملة الشعوب المفتوحة وغيرها. وجاءت ولاية عثمان بمسائل أخرى كتعدد المرشحين للخلافة، وعملية الانتخاب، وفقه مواجهة المعارضة السلمية والمتمردة، وجاءت ولاية علي بمسائل أخرى كاختيار الخليفة في الفتنة، وتحويل العاصمة، وتمرد الوالي على الخليفة، وانبعاث طائفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير إذن الإمام.

وفي كل هذه الفترات أمور اتفق عليها الراشدون فلا يمكن لأحد أن يجادل في أهميتها ولا أن يخرج برأي آخر فيها، مثل: ضرورة السلطة للدين وأنه لا دين بغير الدولة، فلقد اختار المسلمون خليفتهم قبل أن يدفنوا نبيهم، ورشح أبو بكر للأمة من يخلفه قبل أن يموت، وقبل أن يموت عمر وضع نظام اختيار الذي بعده، وما إن قُتِل عثمان حتى كانت الخلافة تسعى أمام علي -رضي الله عنه-.

فهم الحضارة الإسلامية
الآن نضرب مثالا آخر لآثار الإيمان بنموذج الخلافة الراشدة، هو أن روح الحضارة الإسلامية تنحاز إلى الإنسان لا إلى البنيان، وإلى المعنى أكثر من المادة. لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة.. لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة. إلا أن هذا العصر كان هو عصر الإنسان، العصر الذي يأمن فيه الإنسان على نفسه وعرضه وأهله، لا يستطيع حاكم أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، عصر تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.

إن الذي ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا ينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمر قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه، وحاصر المتمردون بيت عثمان وهو من حماهم ومنع أصحابه من مقاتلتهم والتصدي لهم بعد مجهود وافر في بيان ما هم عليه من الباطل والدفاع عن نفسه، وكان من قبل ذلك قد تعرض لمحاولة اغتيال فلم يعاقب أصحابها باعتبار أن الجريمة لم تقع فلا يستحقون عقابا، وقُتِل علي على يد رجل من فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب ولم يمنعه هذا أن يصل إليه. إنه انحياز لحرية الناس وحقوقهم على حساب أمن السلطة! وهو انحياز فلسفي كبير يترتب عليه معظم النظام السياسي والأمني في الدولة الإسلامية، وهو انحياز لاقتراب الحكام من العامة.

لهذا فمن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام!! أو لعل هذا هو الطبيعي، فإن من نشأ في ظل هذا النظام لم يعرف معنى الحرية فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته! هذا الانحياز إلى الإنسان وكرامته له وجه آخر، لأنه انحياز ضد القصور والزخارف والزينة، فالحضارة الإسلامية تهتم لأن تقيم مجتمعا تسوده الكرامة والعدل والإنصاف ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا! وهذا افتراق خطير!

إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور سلبي، نعم قد نستدل بكل هذا على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!

وعصر الخلافة الراشدة هو دليل على أهمية وحدة الأمة الإسلامية، لقد قاتل أبو بكر في أول هذا العصر لغاية توحيد الأمة، وقاتل علي -رضي الله عنه- في أواخره لغاية توحيد الأمة أيضا. والحفاظ على وحدة الأمة كان في الأهداف الكبرى للراشدين حربا وسلما، من أجلها كان عمر يعزل أي والٍ لم يرتضه أهل البلد مهما كان صلاح الوالي ومكانته، وبها حذر ووعظ عثمان المتمردين عليه.

فمن هنا عرفنا أن وحدة الأمة تحت إمام واحد هي من الأولويات الكبرى، فلا يغرينا ولا يغرنا من يحدثنا عن تحويل الأمة إلى مجرد “تنسيق” أو “تعاون” على غرار الاتحاد الأوروبي مثلا أو غيرها، فنحن أمة واحدة وهي تتوق إلى الوحدة ولم يفرقنا سوى الحكام المستبدون أو المحتلون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى