فقه أعمال القلوب (١)
بقلم د. محمد يسري إبراهيم “نائب رئيس رابطة علماء المسلمين، وكيل جامعة المدينة العالمية بماليزيا، دكتوراه الشريعة الإسلامية من جامعة الأزهر، وله العديد البحوث والإصدارات الفقهية والفكرية المتميزة” (خاص بالمنتدى)
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وبعد
فإن محبة الله تعالى وتوحيده أشرف أعمال الدين ومقامات الإيمان، وقد جعل الله مبدأ هذا العمل الشريف في أشرف أعضاء الإنسان ألا وهو القلب!
إن حب الله إذا تمكن من قلبك أثمر تعظيما، والتعظيم يثمر خوفا، والخوف يستتبع إخلاصا، والإخلاص يعقب صدقا، والصدق يحقق توكلا، والتوكل رجاء، وهكذا الرجاء إنابة، والإنابة تستلزم توبة، والتوبة استعانة، والاستعانة افتقارا، والافتقار ذلا، والذل زهدا، والزهد صبرا، والصبر يقينا، واليقين شكرا، والشكر تقى، والتقى جنة ونعيما!
والله يحب المتقين، ويحب المحسنين.
وعليه فإن القلب الذي هو لطيفة ربانية بالصدر موضع كل خير علمي، ومتنزل كل إحسان داخلي باطني!
فالإيمان والعلم والفقه والعقل أصولها في القلب،
قال تعالى:
“اولئك كتب في قلوبهم الإيمان”
وقال تعالى: “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”
وقال سبحانه: “أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها”
والقلب موضع الكسب ومحط نظر الرب من العبد.
قال تعالى: “ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم”
وقال سبحانه: “ولكن ما تعمدت قلوبكم”
وفي الحديث: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”
وفيه أيضا: “ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”
وأصل الإيمان والصلاح وأسه إنما يبدأ من القلب ثم يفيض على اللسان والجوارح بأعمال الطاعات، وعبادات القلوب أعظم وأهم من عبادات الجوارح، وهي سبب لقبولها.
قال تعالى:” إنما يتقبل الله من المتقين”
وفي الحديث:” التقوى هاهنا”
وأشار صلى الله عليه وسلم إلى صدره ثلاث مرات.
وكما أن طاعات القلب أعظم وأجلّ فإن معاصيه أخطر وأكبر!
قال تعالى: “قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم”
وقال عز ذكره: “وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم”
وقال سبحانه: “إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه”
وقال جل وعلا: “ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم”
وقال عز وجل: “فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه”
وكما أن القلب موضع المنح الإلهية من العلم والفقه والسكينة والرحمة والهدى، فإنه أيضا موضع العقوبات الإلهية!
قال تعالى: “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”
وقال سبحانه: “وقذف قي قلوبهم الرعب”
وقال تعالى:”فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم”
وقال جل وعلا:”ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون”
وقال تعالى:”ختم الله على قلوبهم”
وعبادات القلب قد تعوض عن عبادات الجوارح عند العجز !
وفي الحديث: “من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه”
وإذا صحبت أعمال القلوب أعمال الجوارح باركتها!
وفي الحديث: “بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل،فنزعت موقها فاستقت له به فسقته إياه فغفر لها”
ويتفاضل ثواب أعمال الجوارح بتفاضل أعمال القلوب!
في الحديث:”إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم
قالوا: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم
قال ﷺ: بلى والذي نفسي بيده
رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
قال ابن القيم
فالفضل عند الله ليس بصورة ال • أعمال بل بحقائق الإيمان
وتفاضل الأعمال يتبع ما يقو• م بقلب صاحبها من البرهان
حتى يكون العاملان كلاهما• في رتبة تبدو لنا بعيان
هذا وبينهما كما بين السما• والأرض في فضل وفي رجحان
ويكون بين ثواب ذا وثواب ذا• رتب مضاعفة بلا حسبان!
لكل ما تقدم وجبت عناية العبد بعبادات القلب، واجتهاده في تخليص قلبه من الموبقات، والتوبة من باطن الإثم، مع التوبة من ظاهره.
والحمد لله رب العالمين.