مقالاتمقالات مختارة

فقهاء السوشيال ميديا

بقلم أ. عصام تليمة

لا أعلم تخصصا علميا يُنتهك حماه لكل من هبَّ ودبَّ، مثلما يحدث مع الفتوى والحديث عن الإسلام وثوابته، فترى كل من عنَّت له فكرة، أو أحب أن يشتهر بين الناس، أو يطرح موضوعا يجذب له مشاهدة على قناة أو يوتيوب، أو الإعجابات على مواقع التواصل الاجتماعي، فليس عليه إلا أن يطرح موضوعا من ثوابت الإسلام ليتناوله من باب التشكيك، أو من باب الهدم، وهو ما يذكرني بقول المرحوم الأستاذ محمد جلال كشك: (اكتب عن الجنس وهاجم الإسلام تاكل ملبن). وقد يدخل على هذا الخط أيضا من يقتحم مجال الحديث عن الإسلام والفتوى؛ ليس من باب التجرؤ على الثوابت، بل من باب التجرؤ على التخصص العلمي الشرعي نفسه، فيرتدي ثياب الشيخ العالم، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، وكلاهما يضر بالعلم والدين، مع فرق في نوايا كل حالة عن الأخرى، لكن النتيجة واحدة.

وإذا كان العلماء يدققون في التخصصات العلمية الشرعية، حتى اشتهر بينهم قول الإمام ابن حجر: من تكلم في غير فَنِّه أتى بالعجائب. فلا تؤخذ الفتوى من واعظ، فضلا عن أن تؤخذ من مُحدِّث لا صلة له بعلم الفقه وأصوله، وترى بابا مهما في الفتوى يسمى الفتاوى الشاذة، رغم أنها تصدر عن فقيه معتبر، لكنه شذ في هذه الفتوى، فقد قال ابن رشد رحمه الله عن أبي حنيفة: (شَذَّ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة). فاعتبر ابن رشد ذلك قولا شاذا، رغم أن قائله هو أبو حنيفة رحمه الله الملقب بالإمام الأعظم، وإذا كان الرأي يُحكم بشذوذه وهو صادر من أهل التخصص والمشهود لهم بذلك، فكيف بنا نرى الآن كل من هب ودب يلقي على الناس أسوأ ما لديه من رأي، وكل ذلك بعلة: لا كهنوت في الإسلام، فيرفعون هذا السيف المصلت في وجوهنا، وهو كلام صحيح فالإسلام ضد الكهنوت، لكنهم ينسون – أو يتناسون – أنه أيضا ضد الجهل وادعاء العلم فيما لا تملك التخصص فيه.

فالتخصص أمر يقدره الإسلام، ويأمر به، ويراعيه في كل مجال فقد قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، ولم نسمع في عالم الملائكة – مثلا – عن مَلَك الجبال قام بإنزال المطر، فلكل ملك وظيفته، فملك الموت له وظيفة وتخصص وهو قبض الأرواح، وملك الوحي كذلك وهو النزول بالوحي على الرسل، فهل معنى أنهم ملائكة ألا تخصص فيما بينهم، وإذا كان هذا في عالم الملائكة، ففي عالم الرسل كذلك، فلكل نبي معجزات تختلف عن الآخر بحسب بيئته وقومه، وهو ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض أن يربط أحد الجن في المسجد ليراه الصحابة صباحا، لأنه تذكر نبي الله سليمان ودعاءه: (رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) فاعتبر ذلك من تخصصه الذي ينبغي أن يحترمه، وهي خاصية له، فلم يرد أن يشاركه فيها.

لكننا أصبحنا الآن نرى كل من امتلك صفحة على السوشيال ميديا، أو قناة على اليوتيوب، يجعل من عقول الأمة المسلمة حقل تجارب لأفكاره وآرائه، والكارثة ليست في قول يقوله في أمر دنيوي، أو فكرة يفكر فيها في دائرة ضيقة تخصه، بل يدخل في أعماق الدين في قضايا لو عرضت في عهد عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر من خيرة الصحابة، لكن فقهاء السوشيال ميديا الآن ليس على أحدهم إلا أن يضغط بأصبعه على الهاتف ليفتح الكاميرا أو صفحة الفيس بوك، ليرمي على الناس أسوأ ما خرج به عقله المحدود، وتخاريفه التي لا تنطلق من شرع ولا عقل، لكنها تنطلق من شهوة الكلام، وشهوة التصدُّر بين الناس، وشهوة الإعجاب والمشاركة على الفيس بوك أو تويتر، ثم تزداد الوقاحة بأن يقيِّم علماء كبار عاشوا وأفنوا أعمارهم في البحث العلمي، فأصبحنا نرى التكفير والتفسيق والتخوين والتبديع، أيسر على أحدهم من شربة ماء.

فإلى كل من يعيش في دور مفكر أو فقيه أو عالم على السوشيال ميديا نقول: من حقك أن تتفكر وتتأمل، وتكتب، وتقرأ القرآن، وتصلي وتتعبد، وتنافس رابعة العدوية في تعبدها، وتنافس كل الصالحين، وأن يكون لك ذوقك الخاص في فهم آيات أو تلاوتها، أو أن يكون لك رؤية خاصة تفهم بها الدين ولو عن عدم تخصص أو دراية حقيقية، سواء أصبت فيها أم أخطأت، ولكن ليس من حقك أن تخرج للناس بأفكارك التي لا صلة لها بصحيح الإسلام لتجعل منها مصدرا للفتوى، أو التعبير عن العلم الشرعي، فلذلك أهله والمختصون فيه.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى