بقلم جعفر عزيز
تسعى هذه الكلمات المسبوكة المنظومة إلى بيان فضل العلم وشرف طالبه، ومعلوم أن العلم هو أُسُّ الحضارات كلِّها، فبه تَزدهر وترتقي الأممُ إلى أعلى مراتب المعرفة، والحديث ها هنا عن العلم النافع للبشرية جمعاء؛ إذ يجعل طالبه إنسانًا واعيًا بما يطلبه من جهة، وينتفع الناس به من جهة أخرى، وهذا هو العلم المستحسن، كما أنه يكسبه ثمرة من القيم السمحة من أخلاق سامية وصفات نبيلة، تجعله محبوبًا وحكيمًا.
ولنا في هذا المقال وَقفة لبيان فضل العلم، وما لطالبه من شَرَف ومنزلة وجزاء، ونسعى فيه إلى ذكر نصوصٍ تبيِّن ذلكم الفضل، وتلكم المنزلة، واستخراج اللطائف والتلميحات التي تسفر عليها النصوص التي نستشهد بها.
أولًا: فضل العلم:
إن بيان فضل العلم من المسائل المعلومة لدى جنس بني البشر، وهي تلك الحظوة والمكانة التي وصف بها العلم، وأنه من المكارم التي كرَّم بها الله تعالى الإنسان، وميَّزه عن سائر المخلوقات؛ إذ إن فضله ظاهر في كون أن صفة العلم من الثوابت الملازمة للحضارات كلِّها، وأخصُّ ها هنا الحضارة الإسلامية؛ إذ إن المعجزة الأولى التي نزلت على سيدنا آدم كانت علمًا، وذلك بقوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31]، والمعجزة الأخيرة والخالدة التي نزلت على سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم هي علم أيضًا؛ إذ تبين لنا أن العلم أُسُّ هذه الأمة التي تمتلك أغنى مصادر المعرفة؛ لامتلاكها وحيًا ربانيًّا وعقلًا سليمًا، ولنا في هذه المسألة نصٌّ نفيس لعبدالقاهر الجرجاني في الدلائل يتحدَّث عن مكانة العلم وبيان فضله، وأنه لا عيب أعيب عند الجميع من عدمه، وذلك بقوله: “وبعد فإنا إذا تصفَّحنا الفضائل؛ لنعرف منازلها في الشرف، ونتبيَّن مواقعها من العِظَم، ونعلم أيٌّ أحقُّ منها بالتقديم، وأسبقُ في استيجاب التعظيم – وجدنا العلم أولاها بذلك، وأولها هنالك؛ إذ لا شرف إلا وهو السبيل إليه، ولا حسنة إلا وهو مِفتاحها، ولا مَحمدة إلا ومنه يَتَّقِد مصباحها، ولولاه لما بان الإنسان من سائر الحيوان، فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلًا يخالفك فيه، ولا ترى أحدًا يدفعه أو يَنفيه”.
وفي تدبُّرنا للنصِّ يتبيَّن لنا أن فضل العلم ثلاث فضائل؛ منها:
• فضيلة أخلاقية خُلُقيَّة: وهي أن العلم مُكسِب للمحاسن والمحامد.
• فضيلة تكريمية: تكمن في تمييزه عن سائر المخلوقات.
• فضيلة توجيهية: فالعلم مصباح يُبين للإنسان الطريق الصحيح.
وهنالك فضائلُ كثيرة، ولكن قصَرنا الأمر على ما أَلْمَح إليه عبدالقاهر الجرجاني رحمه الله في نصِّه، والأدلة مبثوثة في الكتب لا يسع المقام لذكرها ها هنا.
ثانيًا: شرف طالبه:
وأما شرف طالبه فيتبيَّن من فضل وعظيم ما طلبه؛ إذ يناله من كانت له بصيرة في السعي إليه، ويظهر لمن قال فيهم تعالى: ﴿ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
ونستشهد في بيان شرف طالبه بحديث رواه الإمام أحمد، وهو حديث عظيم المنفعة، نسفر فيه عن مكامن الجلال والجمال لدى طالب العلم، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم، رِضا بما يصنع، وإن العَالم ليستغفر له مَن في السماوات ومن في الأرض، والحِيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن العلماء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافر”.
وإنه ليتبيَّن لك في هذا الحديث الشريف من المعاني الشريفة اللطيفة الحميدة الجليلة القدرِ على طالب العلم، ودلائل بديعة وملاحظ مليحة، وإننا لنقول: يا طالب العلم، أبشِر، ويا نافر العلم أقبِل.
ومن الشرف الذي يستضيء به الحديث الشريف على طالب العلم ما يأتي:
1- شرف الفوز بطريق من طرق الجنة ورضا من الله تعالى: يتجلَّى هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة))، وقد صدرت “بمن” الشرطية، بمعنى يشترط لنيل هذا الشرف السير في طلب العلم، وهو أول المنازل التي يَحظى بها طالب العلم، ومَن يرفض هذا الشرف؟! وإنه لشرف أعظم!
2- شرف الحرص والتيسير: بالصنيع الذي يسعى إليه طالبُ العلم، يجد طريقَه ميسَّرًا من كل ما يَفجَعه ويُقلقه، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإن الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم))، وهذا الحرص ثابت لا يتغيَّر؛ لأنه تمَّ تأكيده بـ”إنَّ”، مع اقترانه بالجملة الاسمية الحاملة لمعنى الثبوت، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها مستمرَّةً متجدِّدةً، فجيء بالفعل المضارع “لَتَضَع” لاصقًا باللام المزحلقة المفيدة القَسَمَ، إنه معنى عجيب!
3- شرف الاستغفار: إن طالب العلم ينال الاستغفار من جميع المخلوقات التي توجد على هذه الدنيا في السماوات والأرض والبحار، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإن العَالم ليَستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحِيتان في جوف الماء))، وقد صُدِّر بـ”إنَّ” المؤكدة، وبعدها جيء بالصيغة الاسمية المفيدة للثبوت، ثم الفعل المضارع “ليستغفر” المفيد للتجدُّد والاستمرار؛ دلالةً على معنى لطيف يتناسب مع المطلوب، وذلك بثبوت الاستغفار واستمراره وتجدُّده، ما دام الطالب قائمًا على طلب العلم.
4- شرف الإرث النبوي: تجلَّى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن العلماء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم))، إن هذا الشرف من أَجَلِّ ما يمكن أن يفوز به الإنسان الذي يسعى إلى طلب العلم؛ ليرثَ مقامًا محمودًا عظيمًا عند الله عز وجل، وفي المسألة إشارة شريفة عجيبة، تحمل معنًى تربويًّا توجيهيًّا لطلبة العلم الأجلَّاء، هو إشارته صلى الله عليه وسلم إلى أن الأنبياء لم يورِّثوا مالًا، وإنما ورَّثوا العلم، باعتباره من الصفات الثابتة والملازمة للأنبياء جميعًا، وقد مضى معنا هذا، وها هنا تتبين تجلِّيات القِيَم السمحة، والتربية الأخلاقية التي تحملها الأحاديث النبوية، وكيف لا يكون ذلك وقد أُوتي جوامعَ الكلم.
وانطلاقًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيَّنا الشرف الذي يناله طالب العلم، وإن النصَّ يوحي بدلالات تجعلُك تتأمَّل وتتدبَّر كلما حاولت قراءةَ كلام نبيِّ الله، وقد استنطقنا ذلك للإسفار عن الشرف والمنزلة التي تكون كرمًا وتعظيمًا وتأمينًا لطالب العلم، وننبِّه ها هنا إلى أنه ليس كلُّ من سعى في طلب أي علم قد يكون ممن ينال هذا الشرف، ولكن يناله مَن قاده علمُه للعمل والتأدُّب به، واستنصاح الناس عليه، وأن يكون القدوة فيما طلَبه، وأن يكون الطالب كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “كونوا للعلم رُعاةً، ولا تكونوا له رُواةً”، والعالِم هو مَن وافق علمُه عملَه وفعلَه، وإن من أفضل العلوم العلم الشرعي، وهكذا تتفاوت المنزلة والشرف بقدر ما يطلبه الطالب من العلم النافع.
ونصل إلى كلمة الختام فنقول: إن العلم فضله عظيم ونفعه كثير، وإن منزلة طالبه تعلو بما يطلبه، وتَسمو درجته بموافقة علمه لعمله، وعليه فإن العلم نور أضاء الأُمَّة البشرية بأكملها، ومنح للإنسان مكانةً تُميِّزه عن سائر المخلوقات الكونية، فيكون ذلك النور والبهاء والصفاء مرافقًا له إذا استمرَّ في طلب العلم.
(المصدر: شبكة الألوكة)