فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
بقلم الشيخ د. تيسير التميمي
موسم خير عظيم أقبل علينا ، فقد أظلَّتنا عشرُ ذي الحجة ؛ شريفةٌ أيامها ؛ فضيلةٌ لياليها ، رفع الله سبحانه وتعالى شأنها وأعلى قدرها ، من أدركها وشهدها فاز بنعم الله فيها ، اختصها الله عز وجل بالتكريم :
* أقسم الله سبحانه وتعالى بها تشريفاً لها وبياناً لفضلها ، فالعظيم لا يقسم إلا بعظيم ، قال تعالى { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} الفجر 1-3 ، والليالي العشر عند جمهور المفسرين هي عشر ذي الحجة ، و” الوتر” عندهم هو يوم عرفة لأنه التاسع ، و” الشفع ” هو يوم النحر لأنه العاشر ، وهذان اليومان أفضل الأيام العشر .
* وقال الله سبحانه فيها { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } الحج 28 ، وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة ، ففضلها معلوم لأنها موسم لركن الإسلام وفريضة الحج وشعائرها المعلومة .
* ووصفها صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل الأيام وأن العبادة فيها أعظم أجراً من غيرها ، فقال فيها { ما من الأيام أيامٌ العمل فيها أفضل من هذه الأيام ، قيل ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله ؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء منه } رواه البخاري . لذا كانت حقيقة بأن نهتم بها أكثر من غيرها ، وأن نحرص على اغتنامها واستثمار لحظاتها في الخيرات والأعمال الصالحات .
* فيها أيام عظيمة من أيام الله تعالى هي : يوم التَّرْوِيَةِ وهو ثامنها ، وفيه ينطلق الحجاج جميعاً إلى مِنى لِيُصَلُّوا الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يبيتون فيها ، وهذا من سنن الحج ، روى مسلم رحمه الله أن الصحابة رضي الله عنهم لما حجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم { لما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة } ، ويوم عرفة وهو تاسعها ، وهو يوم الحج الأكبر ويوم خطبة الوداع ، ويستحب لغير الحاجّ صيامه قال صلى الله عليه وسلم { صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده } رواه مسلم ، ولعلّ الله سبحانه أيضاً أن يعصمه من الذنوب ، ويوم النحر عاشرها مكافأة من الله للحجيج وابتهاجاً بأدائهم ركن الإسلام وفرضه ، فكان للأمة عيداً يتقربون فيه إلى الله بالأضاحي ، ويستحب للمضحي ألاَّ يزيل شيئاً من شعره ولا شيئاً من أظفاره أول ذي الحجة حتى الفراغ من ذبحها تشبهاً بالحجاج في إحرامهم ؛ قال صلى الله عليه وسلم { إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره } رواه مسلم .
* وشرع الله تعالى فيها من الطاعات والقربات ما لم يشرع في غيرها ، فاجتمعت فيها دون غيرها عبادات عظيمة وشعائر جليلة هي الصلاة والصيام والصدقة والحج والنحر والذكر بكل صوره :
1- أداء الحج والعمرة ، وهما من أفضل العبادات في هذه العشر المباركة ، فمن بلَّغه الله سبحانه وتعالى تلك الديار المقدسة فقد اجتمع له شرف الزمان وشرف المكان وأفضليتهما ، فلْيجتهدْ ما استطاع بأداء شعائرهما على الوجه الأكمل ، ولْيحرصْ فيهما على موافقة الهَدْيِ النبوي فهذا هو الحج المبرور الذي لم يخالطه إثم أو لغو أو فسق أو رفث ، فإنْ هو فعل ذلك فجزاؤه الجنة ؛ لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم { العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } رواه البخاري ، فالحج الأكبر هو ركن الإسلام وفريضته ، وهو من أعظم العبادات والقربات المأجورة عند الله عز وجل ، قال تعالى { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } الحج 27 ، وأما العمرة فهي الحج الأصغر لأنها تشبه الحج في بعض أعماله ، وتُعَرَّف العمرة بأنها زيارة بيت الله الحرام محرماً وتَعَبُّدُ الله بالطواف والسعي والحلق أو التقصير ، وهي سنة مؤكدة ، وفي فضلها قال صلّى الله عليه وسلّم { أديموا الحجّ والعمرة فإنّهما ينفيان الفقر والذّنوب كما ينفي الكيرُ خبث الحديد } رواه الترمذي .
2- صيام هذه الأيام أو ما تيسر منها ، قال صلى الله عليه وسلم { ما من أيام أحب إلى الله أن يُتعبد له فيها من عشر ذي الحجة ، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر } رواه الترمذي . والصيام ذاته أصلاً من أفضل العبادات والأعمال الصالحة المقربة إلى الله ، فهو مما اصطفاه لنفسه منها وأضافه إليه ، وما ذاك إلاَّ لعظم شأنه وعلو قدره ، فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث القدسي { كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به } رواه البخاري ، والصوم جُنَّةٌ من غضب الله تعالى ووقاية للنفس من النار وعذابها .
3- الإكثار من الذكر في سائر هذه الأيام لقوله سبحانه وتعالى عن الحُجّاج { لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ … } الحج 28 ، وقد استحب العلماء الذكر فيها بكل ما تيسر من أنواعه كالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح والدعاء والاستغفار ، لقوله صلى الله عليه وسلم { ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد } رواه أحمد ، وروى البخاري عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما استهداء بقوله تعالى { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } البقرة 185 .
4- التوبة إلى الله تعالى والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب والاستغفار منها ، حتى يترتب على الأعمال المغفرة والرحمة ، فالمعاصي تباعد بيننا وبين ربنا ، وتغضبه علينا ، قال تعالى { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } النور31 ، فالتوبة من السيئات وإتْباعُها بالحسنات يمحوها من صحائف الأعمال ، وهذا هو الفلاح الحقيقي في الدنيا والآخرة ، قال عز وجل { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } هود 114 ، فعلينا استقبال الأيام والشهور الفضيلة بالتوبة الصادقة والعزم الأكيد على الرجوع إلى الله .
5- الإكثار في هذه الأيام المباركات من الأعمال الصالحة الكثيرة والعبادات سواء الفرائض والنوافل ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال { وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } رواه البخاري ، فقد فتح الله فيها وفي غيرها أيضاً لعباده أبواباً كثيرة للخير :
* فتجب في هذه الأيام وغيرها المحافظة على الصلوات المفروضة والجماعات في أوقاتها ، فالصلاة عمود الدين وركنه ، ويستحب الإكثار من نوافل الصلاة وسننها في هذه الأيام فإنها من أفضل القربات إلى الله ، قال صلى الله عليه وسلم في أجر الصلاة { إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، وإن انتقص من فريضة قال الرب : انظروا هل لعبدى من تطوع ؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك } رواه الترمذي .
* ومن لم يؤد زكاة ماله لهذا العام فليؤدها في هذه العشرة الأيام المباركة ، ويستحب له أيضاً أن يكثر من الصدقات التطوعية فيها ، فالصدقة تمحو نار الذنوب والآثام وتطهر النفوس وتبارك في الأموال ، قال تعالى { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ} البقرة 276 ، وقال صلى الله عليه وسلم { والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار } رواه الترمذي .
* وتستحب مناجاة الله سبحانه بتلاوة كتابه وتدبر آياته ، فالقرآن الكريم متعبد بتلاوته في كل وقت وحين ، فالصلاة لا تصح إلا به سواء في ذلك الفريضة والنافلة ، وتلاوته خارج الصلاة عبادة عظيمة الأجر على الحرف الواحد ، قال صلى الله عليه وسلم { من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف } رواه الترمذي .
* والدعاء هو توجه القلب والعقل والروح والضمير إلى الباري عز وجل بالرجاء والطلب والسؤال ، وينبغي أن يدوم هذا التوجه العمر كله في الليل والنهار في الشدة والرخاء ، قال صلى الله عليه وسم { من سره أن يستجيب الله عز وجل له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء } رواه الترمذي ، وهو أيضاً مخ العبادة وجوهرها الحقيقي ومزيد اقتراب من الله السميع المجيب ، قال تبارك وتعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ } البقرة 186 .
* وهذه الأيام فرصة سانحة لصلة الرحم وذوي القربى ، فهي عنوان الأخوّة والتماسك في مجتمع الإيمان ، والصلة تقتضي الإحسان إليهم والعفو عن أساءتهم . وتتحقق بالزيارة والمعاونة وقضاء الحوائج وحتى بالسلام ، وتكون كذلك ببذل المال إن كان مقتدراً ، قال صلى الله عليه وسلم { الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة } رواه الترمذي
وهناك أعمال خير كثيرة لا تعد ولا تحصى يمكننا أن نملأ بها هذه الأيام حرصاً على رضا الله وعلى نفع الأمة والمجتمع والأهل وذوي القربى ، فكفالة اليتيم وقضاء حوائج الفقير ورعاية المسكين والسعي على الأرامل وغيرهم ينابيع للخير لا تجف ومعين لا ينضُب .
فلْنستقبل شهر ذي الحجة المحرم وعشره الأوائل بما يتيسر لنا من هذه العبادات وغيرها وما نطيق من الطاعات والنوافل ، ولْنحرص على زيادة رصيدنا من الحسنات ، ولْنُثْقِلْ ميزان أعمالنا بالصالحات ، ولْنسارع في الخيرات.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)