“فضائح الباطنية”.. نموذج تراثي في دراسة التيارات السياسية
قراءة وعرض بلال التليدي
تقدم كتب المناظرات العقدية والكلامية للدارس مادة مهمة عن الاختلاف ومنهجية التعاطي مع موضوعاته، كما أنها توفر الإمكانية للبحث من داخل بنية النص عن الخلفيات المذهبية والسياسية والإيديولوجية الثاوية وراء إنتاج العديد من المقولات التي تبدو داخل النص كما لو كانت جزءا من نسق نظري، وهي ـ عند استحضار إطارها التاريخي والسياسي ـ غير مفصولة عن سياق الصراع حول السلطة السياسية، بحكم الوظيفة السياسية التي كانت تقوم بها المرجعية العقدية في تأكيد شرعية السلطة السياسية القائمة، وتقويض أي مرجعية يمكن أن تؤسس لشرعية سياسية معارضة.
ولعل كتاب “فضائح الباطنية” الذي ألفه الإمام أبو حامد الغزالي في الرد على الباطنية يوفر ـ ربما أكثر من غيره ـ المتن الضروري لمثل هذه الدراسة، لا سيما أن الإمام الغزالي يكشف في مقدمة كتابه، عن القصد من تصنيف هذا الكتاب، وصلة ذلك بتنفيذ إرادة السلطة السياسية المتمثلة في “الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية”، مما يفيد بأن أي قراءة لنص الغزالي خارج السياق التاريخي ـ أي ضمن بنية النص ـ ستبقى قاصرة عن فهم خلفياته وأبعاده، خاصة أن هذا النص يندرج ضمن السجال الفكري، الذي شحذت فيه أدوات متعددة منها الأدلة النقلية، والحجاج المنطقي، واستعلمت في مقدماته وخلاصاته أحكام أخرجت المخالف عن الملة، أو رمت به في خانة الضلال.
وسنحاول في هذه المراجعة أن نقف على كتاب الغزالي “فضائح الباطنية”، والمنهجية التي درس بها الغزالي تيارا عقديا سياسيا كان يعيش في ظل الدولة العباسية، وكيف كان شكل التعاطي مع هذا المخالف سواء كذات، أو كمقولات، مع تتبع منهج الغزالي في تقرير خلاصاته وأحكامه عن المخالف.
الغزالي.. نموذج تراثي في دراسة التيارات السياسية
الكتاب كما لا يخفى يتناول تيارا عقديا سياسيا هم الشيعة الإسماعيلية ويسميهم الغزالي بالباطنية، ويصرح في مقدمة كتابه أن القصد من تصنيفه لهذا الكتاب هو “الكشف عن بدعهم ـ الباطنية ـ وضلالاتهم، وفنون مكرهم واحتيالهم، ووجه استدراجهم عوام الخلق وجهالهم، وإيضاح غوائلهم في تلبيسهم وخداعهم، وانسلالهم عن ربقة الإسلام وانسلاخهم وانخلاعهم وإبراز فضائحهم وقبائحهم، بما يفضي إلى هتك أسرارهم وكشف أغوارهم” ص 13.
فهذا النص، وإن كان يتضمن الإشارة إلى العديد من الأهداف، إلى أنه صريح في كون القصد الأول من التأليف هو بسط الأدلة، التي تؤكد خروج هذه الطائفة عن دائرة الإسلام. لكن الأهم في هذا النص، والذي يكشف إحدى وظائف هذا الكتاب، هو التركيز على الطرق التي تعتمدها هذه الطائفة في الاستقطاب والتوسع “ووجه استدراجهم عوام الخلق وجهالهم” وهو ما يعكس حالة الخطر الذي كانت تستشعره السلطة السياسية القائمة من مخاوف تمكن الدعوة الإسماعيلية من تراب الخلافة العباسية لاسيما العاصمة بغداد.
ويمكن أن نصنف الكتاب، بهذا الاعتبار، ضمن المنتوج العلمي المنتمي إلى علم الاجتماع الديني، بحكم أنه يحاول أن يقدم معطيات ومعلومات عن جماعة دينية ـ الباطنية ـ وأهم مقولاتها، وأساليبها في الحركة، وطرقها في الاستقطاب، كما يحاول أن يعطي تفسيرا لسبب توسعها بالقياس إلى الخطاب الذي تتبناه.
ولعل ما يوضح هذا المعنى أكثر، هو الإشكال الذي عرض للإمام الغزالي، وحاول أن يجيب عنه، والمتمثل في التناقض أو المفارقة الكامنة بين الخطاب الذي تتبناه هذه الجماعة الدينية ـ والذي يرى الغزالي أنه لا يمتع بالمواصفات المنطقية والعقلية والشرعية التي تجعله مقنعا ـ وبين توسع هذه الجماعة وانتشارها رغم تهافت خطابها واختلال بنائه المنطقي.
ولعل هذا ما يفسر المنهج الذي اختاره الغزالي في كتابة هذا التصنيف، إذ بعد تفصيله لمسالك التأليف الثلاثة (التأليف الذي يتجاوب معه المحققون من الخاصة، والتأليف الموجه إلى العامة، والتأليف الذي يسير منحى التوسط بين العامة والخاصة) اختار منهج الوسط الذي قصد به استهداف “الخواص والعوام” و”جميع الطبقات من أهل الإسلام” حتى يؤدي الكتاب وظيفته التي تتعدى مجرد النقاش الكلامي والعقدي مع هذه الطائفة، إلى ما هو أبعد من ذلك مما يتعلق بمهمة” تبرير السلطة السياسة القائمة” ونقض أي شرعية دينية يمكن أن يستعان بها لنقض شرعية السلطة السياسية القائمة أو للتمكين لسلطة سياسية أخرى.
وما يزيد من تأكيد هذا المعنى أن كتابه هذا ذكرت له أسامي مختلفة منها “المستظهري في الرد على الباطنية وأيضا “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية” وهي الأسماء التي تكشف عن الوظيفة المزدوجة للكتاب: (تأكيد شرعية، وإبطال شرعية أخرى)، بل ومما يزيد في تأكيد هذا المعنى أن الإمام الغزالي ذكر في “المنقذ من الضلال” أنه ألف خمس كتب في الرد على الباطنية، مما يكشف حجم الخطر والتهديد الذي كانت تمثله الشيعة الإسماعيلية بالنسبة إلى الدولة العباسية أو الخلافة المستظهرية.
يقول في مقدمة “المنقذ من الضلال” متحدثا عن التعليمية (الباطنية):”وليس المقصود الآن بيان فساد مذهبهم، فقد ذكرت ذلك في كتاب “المستظهري” أولاً، وفي كتاب “حجة الحق” ثانياً، وهو جواب كلام لهم عرض علىّ ببغداد، وفي كتاب “مفصل الخلاف” –الذي هو اثنا عشر فصلاً- ثالثاً، وهو جواب كلام عرض على بهمدان، وفي كتاب “الدرج المرقوم بالجداول” رابعاً، وهو من ركيك كلامهم الذي عرض على بطرس، وفي كتاب “القسطاس المستقيم” خامساً، وهو كتاب مستقل بنفسه، مقصودة بيان ميزان العلوم، وإظهار الاستغناء عن الإمام المعصوم لمن أحاط به”.
منهج الغزالي في دراسة تيار الشيعة الإسماعيلية
ناقش الغزالي الباطنية في ثمانية فصول من كتابه، وخصص الفصلين الأخيرين للحديث عن “إقامة البرهان الفقهي الشرعي على أن الإمام الحق في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر”، وعن “الوظائف الدينية التي بالمواظبة عليها يدوم استحقاق الإمامة”.
وقد رتب موضوعات كتابه بشكل متدرج بدءا ببيان ألقاب الباطنية وأسمائهم، وتحديد السبب الباعث لهم على نشر دعوتهم ورصد طرق الاستقطاب عندهم، وسبب الإقبال الواسع على دعوتهم ، ثم عرض مقولاتهم على سبيل الإجمال والتفصيل ، وعرض الأدلة التي استندوا إليها في إثبات هذه المقولات (تأويل ظواهر والاستدلال بالأعداد والحروف)، وخص مقولاتهم الرئيسة بالحجاج المنطقي من خلال عرض الأدلة العقلية التي استندوا إليها لنصرة لمذهبهم، والرد عليها خاصة ما يتعلق بالإمام المعصوم واستدلالهم بالنص على نصبه، ليختم مساجلته معهم في الفصل الثامن بفتوى الشرع في حقهم بالتكفير والتخطئة وسفك الدماء.
ومن خلال تتبع فصول الكتاب الثمانية يمكن أن نرصد منهج الغزالي في التعاطي مع المخالف كمقولات في المحددات الآتية:
1 ـ مستند الغزالي في نسبة المقولات إلى الباطنية: لقد كان الغزالي على وعي تام بالإشكال الذي يمثله السجال النظري مع جماعة سرية طابعها التكتم وممارسة التقية، ولا توجد لها ـ على الأقل في عهده ـ كتب مستقرة تكشف أصول مذهبها والأدلة التي تستند إليها في تقرير مقولاتها، هذا فضلا عن كتب تبسط أساليب هذه الطائفة الدينية في الاستقطاب واستدراج الأتباع. ولذلك حاول في كتابه أن يتعامل مع هذا الإشكال من جهتين:
ـ أنه اعتمد ما “تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة” فيما يخص نقل مذهب هذه الدعوة سواء على جهة الإجمال أو التفصيل.
ـ أنه اعتمد روايات خلق كثير انتظموا في هذه الدعوة لكنهم خرجوا منها بعدما تنبهوا لخطورتها، فرووا أساليب هذه الجماعة في الاستقطاب واستدراج الأتباع.
2 ـ لم يخص الإمام الغزالي الفرقة الإسماعيلية بالتأليف، وإنما أدرج ضمن الباطنية فرقا أخرى غير الإسماعيلية، ولعله وقع في خلط ـ بوعي أو من غيره ـ في عدم التمييز بينها، فذكر هذه الفرق كما ولو كانت أسماء لمسمى واحد ـ مع أن الخلاف قائم بين الإسماعيلية وبين القرامطة سواء على مستوى المعتقد والمقولات أو الأدلة والحجج المستدل بها.
وإذا كان الغزالي لم يميز بين هذه الفرق ومقولاتها، وربما خلط في تقرير مذاهبها، إلا أن تركيزه على قضية تأويل الظاهر، والاستدلال بالنص على نصب الإمام قلل من تداعيات هذا الخلط، وجعل مادة الكتاب تتجه نحو مناقشة عقائد الشيعة الإسماعيلية دون غيرها أو على الأقل أكثر من غيرها.
3 ـ ربما أزال الفصل الثاني الإشكال الذي فصلناه في المحدد السابق، إذ فسر مسلك الإمام الغزالي في عدم تمييزه بين هذه الفرق وإدراجها كلها ضمن الباطنية وإجراء نفس الحكم عليها دون تمييز بين مستويات مقولات مكوناتها ومعتقداتهم. فالإمام الغزالي يرى استنادا إلى ما ذكره “نقلة المقالات قاطبة” أن الدعوة الباطنية” لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقد لنحلة معتضد بنبوة، فإن مساقها ينقاد إلى الانحلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين. ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية، وشرذمة من الثنوية الملحدين، وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين، وضربوا سهام الرأي في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين، وينفس عنهم كربة ما دعاهم من أمر المسلمين، حتى أخرسوا ألسنتهم عن النطق بما هو معتقدهم من إنكار الصانع وتكذيب الرسل، وحج الحشر والنشر والمعاد إلى الله في آخر الأمر” ص26.
لم يخص الإمام الغزالي الفرقة الإسماعيلية بالتأليف، وإنما أدرج ضمن الباطنية فرقا أخرى غير الإسماعيلية، ولعله وقع في خلط ـ بوعي أو من غيره ـ في عدم التمييز بينها، فذكر هذه الفرق كما ولو كانت أسماء لمسمى واحد ـ مع أن الخلاف قائم بين الإسماعيلية وبين القرامطة سواء على مستوى المعتقد والمقولات أو الأدلة والحجج المستدل بها.
فالواضح من هذا النص أن الإمام الغزالي يتبنى مقولة التواطؤ بين مكونات متعددة يجمعها “الإلحاد” كمرجعية فكرية، ويوحدها العمل من أجل الانقلاب على سلطة سياسية قائمة “يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين”. فأطروحة التواطؤ من أجل التآمر على السلطة السياسية التي تدين بمرجعية شرعية هي التي دفعت الإمام الغزالي إلى تناول هذه الفرق جميعها كما ولو كانت أسماء لمسمى واحد.
4 ـ يمكن أن ندرج الفصل الثالث مع الرابع ضمن الوظائف التي كان يريد الغزالي ـ أو أريد لكتابه ـ أن يؤديها ، لاسيما ما يخص كشف الأساليب السبعة المتدرجة التي يفضي بعضها إلى بعض والتي تعتمدها الباطنية في الاستقطاب، والتي تفسر سبب توسع الدعوة وانتشارها واتساع الفئات المستهدفة بها رغم افتقاد مقولاتها إلى قوة الدليل المثبت لها، إذ تقوم كلها على قاعدة بسطها الغزالي بقوله: “ألا تسلك بالجميع مسلكا واحدا، فليس كل من يحتمل قبول هذه المذاهب يحتمل الخلع السلخ، ولا كل من يحتمل الخلع يحتمل السلخ، فليخاطب الداعي الناس على قدر عقولهم”.
5 ـ بسط الغزالي مقولات الباطنية على سبيل الإجمال والتفصيل، فلخص مذهبهم جملة في حجية الإمام المعصوم وما يستتبعه من القول بالتعليم، وإبطال القول بالرأي، يقول الإمام الغزالي مستعرضا أصول مذهب الباطنية: “مفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم، وعزل العقول عن أن تكون مدركة للحق” ص 43.
لكن الإمام الغزالي يميز في ذلك بين مستويين من مقولات المذهب جملة، مستوى مبدأ الدعوة، والذي لخص مبدأهم فيه فيما ذكرنا، ومستوى ما يؤول إليه المذهب، أي الوصول بالأتباع إلى “ما يناقض الشرع”. أما على سبيل التفصيل، فيلخص الإمام الغزالي مقولات الباطنية، مما يتعلق بالإلهيات والنبوات والإمامة والحشر والنشر، في خمسة أطراف هي:
ـ القول بإلهين (السابق والتالي) في الإلهيات: ويستند في ذلك لمذاهب الثنوية.
ـ أما في النبوات فقد ذكر قولين لهم : القول الأول في النبي، وأنه بأن “عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق ـ بواسطة التالي ـ قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش ـ عند الاتصال بالنفس الكلية ـ بما فيها من الجزئيات، والقول الثاني في القرآن وأنه “عندهم تعبير “محمد” عن المعارف التي فاضت عليه من العقل الذي هم المراد باسم جبريل” ويسمى كلام الله مجازا” ص 46.
ـ القول في الإمامة، وفيه قولهم: “انه لا بد في كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكالات في القرآن والأخبار والمعقولات” ص 47
ـ القول في القيامة والمعاد: “وقد اتفقوا على إنكار القيامة”.
ـ القول في التكاليف الشرعية “والمنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع”.
بيد أن الذي يمكن أن يلاحظ في عرض الغزالي لهذه المقولات هو ذات الخلط الذي وقع فيه حين جمع مقولات فرق متمايزة وجمعها في خانة واحدة كما ولو كانت كلها مقولات منسوبة إلى الشيعة الإسماعيلية، وهو ما جعل صاحب “دامغ الباطل” يسجل مآخذ كثيرة على الغزالي بهذا الخصوص، سالكا مسلك التمييز بين عقائد الشيعة الإسماعيلية على غيرهم من الفرق التي تنكر وجود الله أو تنكر وحدانيته، أو تقول بقدم العالم، وأيضا مميزا للإسماعيلية عن غيرها من الفرق الشيعية المتطرفة التي تنكر ظاهر النصوص وتستمسك بباطنه، أو تتنكر للتكاليف الشرعية بدعوى انكشاف الحجاب وأن هذه التكاليف خاصة بالعوام المحجوبين عن نور المعارف….
ناقش الغزالي الباطنية في ثمانية فصول من كتابه، وخصص الفصلين الأخيرين للحديث عن “إقامة البرهان الفقهي الشرعي على أن الإمام الحق في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر”، وعن “الوظائف الدينية التي بالمواظبة عليها يدوم استحقاق الإمامة”.
لكن، مع ذلك، فإن الكتاب ـ بما تضمنه من حجاج استعان فيه الغزالي بأدوات المنطق وأدلته الحجاجية ـ ركز على أهم ما تستند إليه الإسماعيلية في مقولاتها، ويتعلق الأمر بإنكار الرأي، والقول بعصمة الإمام والتنصيص على نصبه، ناهيك عن الأدلة البرهانية التي بسطها الغزالي في إبطال مقولات الإسماعيلية بخصوص العمل بباطن النص وتأويل ظاهره، ويظهر النموذج الذي يقدمه هذا النص كيف استطاع الغزالي أن يوظف القوة البرهانية والحجاجية في إبطال مقولات المخالف.
يقول الإمام الغزالي:” أما الإبطال ـ يقصد كيف يبطل مذهبهم في القول بتأويل الظواهر ـ فهو أن يقال: بم عرفتم أن المراد من هذه الألفاظ ما ذكرتم ـ مما أولوه عملا بأن للظاهر باطنا هو المقصود ـ فإن أخذتموه من نظر العقل، فهو عندكم باطل، وإن سمعتموه من لفظ الإمام المعصوم، فلفظه ليس بأشد تصريحا من هذه الألفاظ التي أولتموها” ص 61 و62.
فتبين من خلال منهج الغزالي في الحجاج المنطقي أنه يلزم المخالف بحجته، ثم يبطلها عليه” وهو ما يسمى في المنطق مسلك الإلزام والإبطال. وترجمته، أن العدول من ظاهر اللفظ إلى باطنه بدعوى أن الباطن هو المقصود، يحتاج إلى دليل، ولا دليل معتبر إلا العقل أو قول الإمام المعصوم على مذهب الإسماعيلية،وحيث إن الإسماعيلية تنفي دليل العقل، فلم يبق إلا دليل قول الإمام المعصوم، ويسمى هذا نصف هذا الاستدلال بالإلزام، ويتلوه الإبطال من خلال قياس لفظ الإمام على لفظ القرآن الظاهر، مع ملاحظة الأولى، وهو ما يسمى في المنطق بقياس الأولى الذي يحتج به في مسلك الإبطال. وقد سلك الغزالي مسلك الحجاج المنطقي في كل الفصول التي خصصها للرد على مقولات الباطنية (الباب الخامس والسادس والسابع).
الغزالي بين الوظيفة المعرفية والوظيفة السياسية
يمكن أن نعتبر الباب الثامن من الكتاب المتن الأساسي في معرفة طريقة وظائف الكتاب المعرفية والسياسية، وانتقال الغزالي من دراسة المخالف إلى تقويم المخالف أو النظرة إليه والحكم عليه.
فعلى المستوى الأول: يعتمد الغزالي مقولات المخالف ويجعل منها منطلقا للحكم على المخالف. ولذلك فهي عنده تستوجب مرتبتين من الحكم بحسب ضابط يميز به الأولى عن الثانية، وهو ضابط مدى استحلال الباطنية لسفك دماء أهل السنة واعتقادها بكفرهم:
ـ المرتبة الأولى: وهي التي توجب في نظر الغزالي التخطئة والتضليل والتبديع ويمثل لها الغزالي بحالة من ” يعتقد أن استحقاق الإمامة في أصل البيت، وأن المستحق لها اليوم المتصدي لها منهم، وأن المستحق لها في العصر الأول كان هو علي- رضي الله عنه، فدفع عنها بغير استحقاق… ومع ذلك فلا يستحل سفك دمائنا ولا يعتقد كفرنا، ولكنه يعتقد فينا أنا أهل البغي زلت بصائرنا عن درك الحق” ص 133.
ـ المرتبة الثانية: الموجبة في نظر الغزالي للتكفير: ومثل لها الغزالي بحالة من يعتقد ما سبق لكن يزيد إلى ذلك تكفير أهل السنة واستباحة أموالهم وسفك دائهم يقول الغزالي: “فهذا يوجب التكفير لا محالة” ص 136.
ما يترتب عن هذا التقسيم: ويرتب الغزالي على هذا التقسيم لاسيما في المرتبة الثانية حكما شرعيا، فيقول في الفصل الثاني ” في أحكام من قضى بكفره منهم:” وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم، هذا حكم الذين يحكم بكفرهم من الباطنية” ص 141. فعنده أن الذي يستحل دماء المسلمين ويستبيح أموالهم وأعراضهم ويكفرهم كافر يلزم قتله شرعا وتطهير وجه الأرض منه.
ـ أما على المستوى الثاني المتعلق بالمفردات التي استعملها الإمام الغزالي في ممارسته للخلاف مع المخالف، فهي مشحونة بكثير من العنف اللفظي المستوحي من التراث العقدي الكلامي السجالي، ولعل هذا النص الذي نقدمه يمثل أنموذجا مصغرا لحجم وكثافة العنف اللفظي المستعمل في هذا الكتاب. يقول الإمام الغزالي :” في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية مشتمل على الكشف عن بدعهم وضلالاتهم، وفنون مكرهم واختيالهم، ووجه استدراجهم عوام الخلق وجهالهم، وإيضاح غوائلهم في تلبيسهم وخداعهم، وانسلالهم عن ربقة الإسلام، وانسلاخهم وانخلاعهم وإبراز فضائحهم وقبائحهم بما يفضي إلى هتك أستارهم وكشف أغوارهم” ص 13.
المصدر: عربي21