فصل الكلام في مشروعية الحكام (2)
بقلم أبو نزار الشامي
أخذتْ مسألة طاعة ولاة الأمر جدلًا زائدًا بعد سقوط دولة الإسلام، وتولي الغرب مقادير البلاد، وتوسيده حكامًا طواغيت ملؤوا الأرض ظلمًا وجورًا، وكرَّسوا أسس الملك الجبري بأمتنا أبشع تكريس، حتى عادت أمتنا بنا أيام الجاهلية الأولى.وكان من أعجب العجب وسط هذا الحال المزري، أن قامت في وجه الأمة ودعاتها طائفة من المسلمين، يلبسون ألبسة العلماء وينتحلون سمتهم، يصرخون في وجه الأمة المجلودة لا في وجه جلاديها، يقولون لها: اصبري وأطيعي واقبلي البغي، وحكم الكفر، وجلد الظهر، طالما أن من يجلدك هو ولي الأمر!!!.وكأن جور الملوك لم يكفِ حتى جاءت هذه الثلة تشد عضدهم وتسقي غرسهم. وهنا لا بد من التنبيه إلى أمر هام، وهو إننا نحن أمة النص والسند. لأجل ذلك، فليس من الحكمة أن يكون الرد الابتدائي على هذا الطرح هو تسفيه قائليه وفضح علاقاتهم المشبوهة مع الحكام، قبل تفنيد شبهاتهم بشكل كامل وتام، فإن الكثير ممن تبع هذه الفرية قد فعل ما فعل بدافع احترام النص ولو خالف الهوى والنفس؛ لأجل ذلك كان من الخطأ أن يتم التعاطي معه بغير دراسة النص والتماس مدلولاته، وإلا كان الهجوم لصالحه، بل وقد يظهر بأنه أشد التزامًا بالوحي الشريف منا نحن المستهجِنين الذين يقدمون العقل على الدليل!!.ففي العدد السابق عرضنا لبعض النصوص التي يقوم عليها هؤلاء، وبالتالي عرضنا الخطأ المفصلي في فهم الواقع الذي تنزل عليه هذه النصوص أو تحقيق المناط. وفي هذا العدد سنعرض: الخطأ المفصلي في جمع نصوص الباب ودراستها:
لقد نجح فقهاء السلاطين وجهلة المشايخ في إحداث لبس كبير على جماهير المسلمين بخصوص الضوابط الشرعية المتعلقة بالآمر، أي الأمير أو الحاكم، حتى ظن الناس أن الطاعة للحاكم الكافر، أو الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، واجبة عليهم، بل قد يتقرب بعضهم إلى الله بمثل تلك الطاعة الإجرامية النكراء!! فالمسألة تتعلق بطاعة ولاة الأمر:
بادئ ذي بدء، فإن المفهوم الشرعي للطاعة ينبثق من الأصل العقدي الراسخ بأن الطاعة هي لله سبحانه. فأصل الطاعة في هذا الوجود هي طاعة الله تعالى، وكل طاعة في طاعته هي طاعة مأمور بها أو مأذون فيها.. وكل طاعة في معصيته فهي معصية منهيٌّ عنها. وبعد ذلك، فالأصل أنه لا تجب طاعةُ بشر ولا الائتمار بأمره، ولا الانتهاء بنهيه، إلا بدليل… فمثلًا يجب على المرأة طاعة زوجها، لا لشخصه بالذات، ولكن لوصف (أو منصب) الزوجية، ولا تجب عليها طاعته إذا زال هذا الوصف بخلع أو طلاق. وهو هو الشخص نفسه. وتجب طاعة أمير الأمة وحاكمِها في الدولة، بشرطه أو لوصفه، لا بشخصه بالذات، فإن فقد الشرط أو خلا عن الوصف لم تجب طاعته، وتجب موالاته لذات الشرط والوصف، فإن فقد ذلك حرمت موالاته وسقطت ولايته. إذًا، الطاعة بالطاعة، أي طاعتنا لهم بطاعتهم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا ولن. من هذا المنطلق، فإننا نفهم سائر النصوص المتعلقة بالطاعة في ضوء هذا المفهوم الثابت المحكم.
ففي الصحيحين: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلًا من الأنصار (عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي)، فلما خرجوا وَجَد عليهم في شيء. قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطبًا. ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنَّها. [قال: فهمَّ القوم أن يدخلوها] قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها. قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: «لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا؛ إنما الطاعة في المعروف». وقد وردت في رواية أخرى عن ابن عبد البر أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم هنا: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وعند ابن ماجة وأحمد بإسناد صحيح «من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه». وقد ذكر غير واحد من المفسرين منهم ابن كثير والقرطبي هذا الحديث في معرض تفسير آية(وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ) وتدليلًا على تقييد الطاعة بالمعروف. وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وفي صحيح مسلم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» وفي ظل هذا الأصل فإننا نفهم نصوص الطاعة، بل ونرد المتشابه منها إلى هذا المحكم الثابت. والآن نأتي إلى الدليل الأساس في الباب من كتاب الله:(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا٥٩)
يلاحظ أن الآية ذكرت طاعة الله غير قرونة ولا مقيدة، لأنه سبحانه صاحب الأمر كله، وذكرت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم غير مقرونة ولا مقيدة؛ لأنه المبلغ عن ربه سبحانه، وحاشاه أن يأمر بغير طاعة الله. أما طاعة أولي الأمر فلم تُذكر مفردة، وإنما فُهِمت من العطف فقط، ولم يُفْرَدوا بالطاعة؛ فدل على أن ولاة الأمر المطاعين هم الطائعون لله ورسوله في شؤون ولايتهم، وعلى رأسها سياسة الدنيا بالدين، أي بتحكيم الشريعة في حياة الناس، وإلا لم تَجُز لهم طاعة، ولم تصحَّ لهم ولاية لا في منكر ولا في معروف، كما قاله الألوسي في روح المعاني: «وأعاد الفعل، وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام، وقطعًا لتوهُّم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن الكريم وإيذانًا بأنه له صلى الله عليه وسلم استقلالًا بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه: (وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ) إيذانًا بأنهم لا استقلال لهم فيها كاستقلال الرسول، صلى الله عليه وسلم. إذن فطاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، وليست مستقلة، أما الطاعة في المعصية فقد اتفق أهل العلم على أن الطاعة في المعصية لا تجوز كما ذكر النووي في صحيح مسلم.
ونزيد هذا إيضاحًا بأن نقول: لو أن الجهة العليا قالت: أطيعوا الجهة السفلى، حتى لو أمرتكم بمعصيتي، فإنها في حقيقة الأمر إذًا تقول: أطيعوني بأن تعصوني، في نفس الوقت من نفس الجهة في نفس الموضوع، وهذا محال. وإذا كانت الجهة العليا هي أعلى الجهات على الإطلاق، أي الله سبحانه وتعالى، كانت الاستحالة أعظم وأفظع.ثم إن الآية أمرت بالاحتكام إلى قول الله ورسوله في حالة التنازع، ولم تأمر بالرد إلى قول أولي الأمر على أي وجه جاء، وهذا كاف للدلالة على تقييد طاعة الولاة بالوحيين الشريفين.
ويلاحظ أن الآية العظيمة لم تترك مجالًا لأهل الهوى وكهنة الحكام أن يؤولوا الآية فيسبغوا القدسية على ولاة الأمر، أو أن يأمروا الأمة بطاعتهم في معصية الله، فقد أردف البيان القرآني هذه الآية مباشرة بأخرى تتحدث عن الطواغيت وتحرم طاعتهم والاحتكام إلى أنظمتهم، ثم ترد الأمر كله لله ولرسوله مستخلصة الولاء والتوجه كله إليه سبحانه، قال تعالى بعد هذه الآية:(أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٦٠ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا ٦١ فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنٗا وَتَوۡفِيقًا ٦٢ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٦٣ وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٦٤ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥ ) والرد إلى الله والرسول هو رد إلى الجهة التي تصدر الأحكام بناءً عليهما، فهذا هو الرد الذي يقطع التنازع الذي أشارت اليه الآية؛ لأن عدم تعيين جهة يلتزم الجميع أحكامها من شأنه أن يبقي التنازع قائمًا بين الحاكم والأمة. كل يعتمد على أدلة شرعية تؤيد ما يذهب إليه إذ يفهمها من وجهة نظره. وفي هذا تعطيل للآية التي أمرت بالرد إلى الله والرسول ردًا يقطع التنازع. ومن هنا وجب تعيين جهة يرجع إليها الطرفان ويلتزمان أحكامها. ومعروف أن الجهة التي تصدر الأحكام في مثل هذا التنازع في الدولة الاسلامية إنما هي: «ولاية المظالم» أو «قضاء المظالم» هذا في حال وجود دولة إسلامية قائمة، أما إن لم يكن ثمة دولة، فالرد يكون لعلماء الأمة الأنقياء وفقهائها الأصفياء.كما جاءت السنة الصحيحة الصريحة مؤيدة لذلك الأصل (حرمة الطاعة في معصية الله) مذكرة به:
فقد روى عبدالله بن مسعود أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «سيلي أموركم بعدى رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، قلت: يا رسول الله، إن أدركتهم، كيف أفعل؟ قال: تسألنى يا ابن أم عبد كيف تفعل؟! لا طاعة لمن عصى الله» رواه ابن ماجة، واللفظ السابق له، بإسناد جيد حسن. ولم تكتفِ السنة بالتأكيد على حرمة الطاعة في معصية، بل نزعت الشرعية عن الأمراء المتبعين لغير شرع الله، كما ذكرت بما لا يدع مجالًا للتأويل كيف يكون التعاطي الشرعي مع أمثالهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكونَ عليكمْ أمُرَاءُ منْ بعدِي، يأمرونَكمْ بما لا تَعرِفُونْ، ويعمَلُون بما تُنْكرُونَ، فليسَ أولئكِ عليكمْ بأئمةٍ» (أي هم غير شرعيين، يعني هم طواغيت لا طاعة لهم، بل تنطبق عليهم أحاديث التعامل مع الطواغيت) [الراوي: عبادة بن الصامت المحدث:السيوطي. المصدر: الجامع الصغير. حكم المحدث: حسن]. وقال صلى الله عليه وسلم: «سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله عز وجل» [الراوي: عبادة بن الصامت. المحدث: السيوطي. المصدر: الجامع الصغير. خلاصة حكم المحدث: صحيح].وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله من إمارة السفهاء. قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي، لا يقتدون بهديي، ولا يستنُّون بسنَّتي،فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون علي حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون على حوضي». رواه أحمد بلفظه، والدارمي وابن حبان…وصححه ابن حجر والألباني وغيرهم.نقول، إذا رضخ المسلمون لكل زعيم وكل حاكم بالإثم، فأين سيرة المصطفى الذي وقف ضد الأكابر والطواغيت؟!، وكيف سنستأهل شفاعته وقد سلكنا خلاف طريقه المستقيم؟!، وهل فشا الضلال والفساد في الأرض إلا بمتابعة الضعفاء للكبراء والسادة؟! وسيذكر هؤلاء الأتباع في الآخرة فساد هذه المتابعة العمياء، وأنهم ضالون مجرمون، كما ذكر الله سبحانه وتعالى حوارهم اليائس الأخير: (…وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِٱلظَّٰلِمُونَ مَوۡقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمۡ يَرۡجِعُ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ ٱلۡقَوۡلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ لَوۡلَآ أَنتُمۡ لَكُنَّا مُؤۡمِنِينَ ٣١ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُوٓاْ أَنَحۡنُ صَدَدۡنَٰكُمۡ عَنِ ٱلۡهُدَىٰ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَكُمۖ بَلۡ كُنتُم مُّجۡرِمِينَ ٣٢ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ إِذۡ تَأۡمُرُونَنَآ أَن نَّكۡفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجۡعَلَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۚ وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَغۡلَٰلَ فِيٓ أَعۡنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ هَلۡ يُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٣٣). كما حكى عنهم وهم يتقلبون، بعد ذلك، في الجحيم:(يَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يَٰلَيۡتَنَآ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ َأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠ ٦٦ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ رَبَّنَآ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَيۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنٗا كَبِيرٗا٦٨)
وعلى ضوء هذه الأسانيد المحكمة، يمكننا أن نفنِّد الشبهات التي أثيرت حول الأحاديث التي يظهر منها الأمر بطاعة الحكام في معصية الله، وكذلك الالتباس حول أحاديث المنابذة وأحاديث المنازعة، ملتزمين القاعدة الأصولية التي تقول (إعمال الدليلين خير من إعمال أحدهما وإهمال الآخر) بمعنى أننا نقوم بالجمع بين كافة النصوص التي ظاهرها التعارض بشكل ينفي هذا التعارض ويعمل كل النصوص الشريفة كل في واقعه ومناطه.الاشتباه حول أحاديث السمع والطاعة:من أبرز هذه النصوص: الحديث الشهير في صحيح الإمام مسلم: حدثنا معاوية يعني ابن سلام، حدثنا زيد بن سلام، عن أبي سلام (ممطور الحبشي)، قال: قال حذيفة بن اليمان: قلت: يا رسول الله، إنا كنا بشر، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟!) قال:«نعم»، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟، قال: «نعم»، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟، قال: «نعم»، قلت: كيف؟، قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس!»، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟!، قال: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع». وأخرج الحاكم قريبًا منه من طريق أبي سلام.
إن قلوب علماء السلاطين، وفقهاء البلاط أخزاهم الله، لترقص فرحًا، لو صح هذا الحديث. أما إن لم يصح فيتم تصحيحه بالقوة، أو المراوغة، أو التدليس، أو التلبيس! هذا الحديث الذي يردّدونه حال قيامهم وحال قعودهم، ويستدلّون به فرًّا وكرًّا، وكلما دخلوا حوارًا استلّوا هذا الحديث كسيف قاطع للنقاش، وكثيرًا ما جعلوه حجابًا يستترون وراءه كي لا يظهر قبيح صنيعهم من التصاقهم بأبواب الملوك المستبدّين وجلوسهم على موائد الحكام الظلمة وإقرارهم ظلم الرعيّة، حتى إنهم ليكادون يجعلون من هذا الحديث نصف الإسلام، إن لم نقل كله، فظنّ الظان من مريديهم أنّ طاعة الحاكم هي المقصد من وراء نزول الوحي والغاية، وأنّ طاعة الله هي في رضى الحكّام الظلمة، فهل يمكن أن يكون هذا الحديث خرج من فيّ نبينا الأكرم الذي كسر الله به راية الظلم؟ وإذا كان قد قاله حقًّا؟! فهل يعقل أن يُفسّر على أن الإسلام يحابي الظالم في ظلمه؟! وقبل ذلك هل تصحّ هذه الرواية من الأساس؟!ثم إن الواضح أن جملة هذا الحديث تشكل تعارضًا واضحًا مع الثوابت من النصوص الأخرى كحديث كعب بن عجرة، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح عند ابن حبان.
يقول عبادة بن الصامت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبادة» قلت: لبيك، قال: «اسمع وأطع في عسرك ويسرك، ومكرهك وأثرة عليك، وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك، إلا أن تكون معصية لله بواحًا» يعني لا طاعة في معصية.وقبل أن نفهم عبارة «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك» نقف قليلًا عند صحة إسنادها لنجد جمعًا من الرواة والفقهاء قد ضعفوا هذه الزيادة في الحديث، من أبرزهم الإمام الدارقطني وغيره.قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني منكرًا هذا الحديث: «هذا الحديث عندي مرسل، أبو سلام لم يسمع من حذيفة ولا من نظرائه الذين نزلوا العراق؛ لأن حذيفة توفي بعد قتل عثمان رضي الله عنه بليال، وقد قال فيه: «قال: قال حذيفة» فهذا يدل على إرساله».
وبالتحقيق يتبين أن أبا سلام هذا اسمه ممطور الحبشي، وهو دمشقي من مواليهم. بينما حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مدني ثم كوفي عراقي. وقد أجمعوا على أنه لم يسمع منه. ويبدو أن أبا سلام قد سمع الحديث من شامي ضعيف عن حذيفة. وهذا اللفظ الذي ذكره مدرج في الحديث.
أما ما ذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» من مجيئه موصولًا عند الطبراني في «الأوسط» من طريق عمر بن راشد اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبيه (يعني: أبي سلام ممطور)، عن جده؛ وكذلك عند السيوطي بأتم منه من رواية ابن عساكر، فهو لا يسمن ولا يغني من جوع؛ لأن والد ممطور، وهو جد سلام، لا يعرف اسمه، ولا حاله، فوجوده في الإسناد وعدمه سواء!قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله محقق الإلزامات والتتبع: هذا وفي حديث حذيفة هذا زيادة ليست في حديث حذيفة المتـفق عليه، وهي قوله:«وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» فهذه الزيادة ضعيفة لأنها من هذه الطريق المنقطعة، والله أعلم »(الحاشية:258).أخرج البخاري: عن حذيفة بن اليمان يقول: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟! قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟! قال: «نعم، وفيه دخن!»، قلت: وما دخنه؟! قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر!»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟! قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم» قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟! قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها! ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»). هذا حديث في غاية الصحة، مسلسل بالثقات، الأثبات، المصرحين بالتحديث، وهو أقوى أحاديث الباب إسنادًا، وأنظفها متنًا، وقد أخرجه كذلك مسلم بحروفه ونفس إسناده، والطبراني في «مسند الشاميين» وغيرهم.لاحظ أن عبارة: «يكون بعدي أئمة، لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي» الواردة في حديث الإمام مسلم المنقطع، لم يرد في الروايات الأخرى لنفس الحديث ما يؤيدها مطلقًا، بل إن الروايات كلها تقول: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، وليس فيها حرف واحد مطلقًا، يصفه بعدم الاهتداء بهدي النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعدم الاستنان بسنته، أو بغير ذلك من أوصاف الجور والذم. والظاهر أن الراوية الضعيف، الذي روى عنه ممطور، خلط بين حديث حذيفة، وأحاديث كعب بن عجرة، أو غيره، التي وردت فيها مثل تلك العبارة من طرق صحاح.
لاحظ حديث كعب بن عجرة مثلًا: روى أحمد في مسنده، والبزار، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك في معرفة الصحابة: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء»، قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: «أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، أو أعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون عليَّ حوضي، ومن لم يصدقهم على كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون عليَّ حوضي. يا كعب بن عجرة، الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان- أو قال: برهان- يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت أبدًا، النار أولى به، يا كعب بن عجرة الناس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، أو بائعها فموبقها». وإسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: «صحيح على شرط مسلم.إذاً فهذه الزيادة ضعيفة السند منكرة المتن. فسند هذه الزيادة منقطع ضعيف، ومتنها مناقض لما في المتون الصحيحة، والتي رواها مسلم أيضًا؛ ولكن من دون هذه الزيادة، كما إننا وجدنا هذه الزيادة في أحاديث أخرى «يستنون بغير سنتي…»ولكنها لا تأمرنا بطاعة الحكام بل بمعصيتهم، كما في حديث كعب بن عجرة: «فمن صدقهم بكذبهم، أو أعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون عليّ حوضي» إذًا، فكيف نفهم ورودها في حديث مسلم الصحيح كله ما عدا الزيادة؟.هذا الطريق أتى به مسلم رحمه الله متابعة كما قال النووي رحمه الله؛ لكنه أتى به ليبين علته، فقد صرح في أول صحيحه أنه سيذكر بعض الأحاديث ليبين علتها، وهذا منها، إذ يبعد أن يغيب عن مسلم رحمه الله أن أبا سلام لم يسمع حذيفة رضي الله عنه. وقد صرّح الإمام مسلم بمنهجه هذا في مقدمة صحيحه فقال: «فأما القسم الأول، فإنا نتوخّى أن نقدّم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها… فإذا نحن تقصّينا أخبار هذا الصنف من الناس، أتبعناها أخبارًا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدّم قبلهم…» وقد صرّح القاضي عياض والإمام النووي أن مسلمًا قد التزم هذا الشرط في صحيحه، وهو شرح العلل وبيانها وإيضاحها عكس من قال إن المنيّة اخترمته قبل تمام مقصده من الكتاب،كما بيّن الإمام النووي ذلك في شرحه لصحيح مسلم في باب مواقيت الحج، وقد قال المعلمي في «الأنوار الكاشفة ص230»: «من عادة مسلم في صحيحه أنه عند سياق الروايات المتفقة في الجملة يقدّم الأصح فالأصح، فقد يقع في الرواية المؤخرة إجمالًا أو خطأ فتبيّنه الرواية المقدمة».إذًا، الإمام مسلم أورد هذا الحديث الذي فيه هذه الزيادة لبيان نكارتها وشذوذها لا لتصحيحها، خاصة أنه جاء من طريق مرسل منقطع، وللحديث طرق أخرى رواها أصحاب السنن والمسانيد بطرق كلها واهية وشديدة الضعف؛ إذ لا يشدّ بعضها بعضًا، وقد بيّن عوارها الدكتور خالد الحايك في بحث له منشور على الشبكة بعنوان «القطع بنكارة زيادة وَإِنْ ضرِبَ ظَهْركَ َأخذَ مَالكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ».أما أنَّ هذه الزيادة منكرة فلأنها تنسف مبدأ إنكار المنكر نسفًا، وهو الذي جُعلت به أمتنا خير أمة أخرجت للناس، كما أنها تخالف الشريعة التي جاءت لرفع الظلم عن الناس، الشريعة التي تُعلِّـــق فساد الأمم على وجود الظلم، وتضع المظلوم الراضي بالظلم في مرتبة الظالم الممارس له… قال الله تعالى:(وَإِذۡ يَتَحَآجُّونَ فِي ٱلنَّارِ فَيَقُولُ ٱلضُّعَفَٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا نَصِيبٗا مِّنَ ٱلنَّارِ ٤٧ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُلّٞ فِيهَآ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ حَكَمَ بَيۡنَ ٱلۡعِبَادِ ٤٨)فهل يعقل أن تقول الشريعة هذا ورسولها يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»؟! لا عجب أن الأمة تسام الخسف منذ قرون. وأين هذا من فهم الصحابة الأفاضل وأهل البيت الأطهار الذين لم يسمعوا ولم يطيعوا أمر المسرفين كما فعل عبد الله بن الزبير، وكما فعل سبط رسول الله الحسين بن علي عليه السلام، بل ثاروا عليهم ونازعوهم الأمر مسطرين المثل العليا في الذود عن وحي الله وشرعه الحنيف؟!. وأين هذا من كلام أبي بكر رضي الله عنه: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم» وعمر رضي الله عنه للناس عندما بويع للخلافة؛ حيث أمر الناس بأن يقوِّموه بحدِّ السيف إذا رأَوا منه اعوجاجًا… ولأن الرعيل الأول فهموا الدين على حقيقته، وقف سلمان الفارسي في وجه عمر بن الخطاب مُسائلًا إياه في ثوب من قماش، من أين لك هذا؟ وإلا لا سمع لك ولا طاعة. ووقف أبو ذر في وجه عثمان أكثر من مرّة. وجمع عبد الله بن عمرو (والقصة في صحيح مسلم) رجالًا وسلاحًا وجيَّش كتيبة من عماله في وجه والي معاوية على الطائف (أخوه عنبسة بن أبي سفيان) لما بلغه أن معاوية أراد أن يحفر في أرضه، وعلم خالد بن العاص بالأمر فركب من مكة إلى الطائف، وتوجه إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخذ ينصحه بالمسالمة والتسليم لعنبسة، باعتباره صاحب سلطة وأخًا للسلطان العام، (يعني ولي الأمر) فقال عبد الله بن عمرو: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».بعد هذا أقول: على فرض صحة هذه الزيادة جدلًا، فقطعًا ليس المقصود ما يفهمه هؤلاء، بل المقصود المبالغة في طاعة الحاكم المسلم العادل، والصبر عليه، ولو أردنا أن نلتزم بالقاعدة الأصولية (الجمع أولى من الترجيح)وقاعدة (إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما) فنستطيع تأويل هذه العبارةبالشكل التالي:
أخذ مالك حقًا وجلد ظهرك حدًا لا باطل: يقول ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل.
أما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر، فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق، وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له… وإما إن كان ذلك بباطل، فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك، برهان هذا قول الله عز وجل: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ). ويؤكد هذا المعنى حديث ابن حبان الذي حصر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر بالسكوت على ضرب الظهر فيما هو حق وليس فيه معصية.صحيح ابن حبان: يقول عبادة بن الصامت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبادة»، قلت: لبيك، قال: «اسمع وأطع في عسرك ويسرك، ومكرهك، وأثرةعليك، وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك، إلا أن تكون معصية لله بواحًا» يعني لا طاعة في معصية
عبارة (لا يستنون بسنتي…) تحمل على أن الفسق مقصور على الحكام أنفسهم، وليس على نظام حكمهم
إن لفظة (تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك) تختلف كل الاختلاف عن مفهوم (حَكَمَك بالكفر) فقد يصبر الإنسان إن حرمه الحاكم بعض حقوقه، وقد يسامح إن جاءت بعض الإجراءات على غير صالحه، كأن يتم الاستعجال في الحكم عليه من دون أن يستطيع إبراز حججه والدفاع عن نفسه بشكل جيد، هنا نقول له اصبر وأطع، لكن ذلك لا يدل أبدًا ولا ينسحب على سكوتنا إن رأينا الحاكم يعطل شرع الله ويوالي أعداءه، ويقودنا بأنظمة الكفر، بل اللفظ لا يشتمل هذا ولا يعنيه بحال
قد فسّره بعضهم على أنه صبر الفرد على الظلم الذي حيق به لا صبر الأمة.
خلاصة الكلام فإن حديث «وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» منكر سندًا ومتنًا، استخدمه مشايخ السلطان خدمة للحاكم، وتثبيتًا لكرسيه، وإطالة في عمره، وتنويمًا لرعيته للقعود دون النهوض بالأمة أو التفكير بتغيير واقع الحال، كما أنهم جعلوا من تأويلهم الخاطئ لهذا الحديث الشريعة حاكمة على الأمة دون حكامها، بينما شرع الله هو الحاكم على الأمة وعلى حكامها، كل هذا اقترفه أهل الأهواء، بطريقة ليّ أعناق النصوص الأخرى الصحيحة الصريحة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
(المصدر: مجلة الوعي)