مقالاتمقالات مختارة

فشل التطبيع الواقعي والافتراضي

فشل التطبيع الواقعي والافتراضي

بقلم بسام تهتموني

التطبيع السياسي مع الكيان الصهيوني على أرض الواقع، يرافقه تطبيع درامي في الواقع الافتراضي، مع استغلال الفرصة لتمرير محاولات تطبيع أخرى مع قيم وأخلاقيات وسلوكيات نشأت الأجيال العربية والمسلمة على نبذها ورفض التعامل معها، دراما التطبيع من خلال الواقع الافتراضي ستفشل لعدة أسباب وستنتهي بافتراض لا واقع ولا وقع له. ومن ضمن أسباب هذا الفشل كونها محاولات تفتقر إلى الإقناع والإبداع والابتكار وستؤول إلى نتائج عكسية بكل تأكيد بسبب رداءة المنتج ووضاعة طريقة العرض وسطحية الدعوة وتفاهة الأدوات الخرقاء التي يسمونها ممثلين.

ومن الأسباب الأخرى أن القنوات الراعية لمثل هذه الأعمال الساقطة هي نفس القنوات التي تروج للبطش والتنكيل ضد ذات الفئة المستهدفة من رسائل التطبيع. وهي نفس القنوات التي تستخدم لتصفيف شعر الأشعث وتلميع صورة الأغبر كما أنها نفس القنوات التي تحاول إقناع مشاهديها أن روح لويس الرابع عشر قد بعثت من جديد في شخص من نام في سريره. فكيف لهذه الفئة أن تتبنى أو تتقبل هذه الرسائل أو تأخذ بها؟ فأم هارون سترحل من كل المخارج وليس من المخرج 7 فقط، والمخرج 7 سُيخرج أم هارون من كل الطرق التي تؤدي إلى الشرف والكرامة والأخلاق.

التطبيع السياسي، من الناحية الأخرى، على قدر أكبر من الخطورة والجدية لأنه يهدف إلى نسف ما تبقى من جيوب مقاومة فعلية وسياسية وفكرية وثقافية ودينية وركائز وطنية، من خلال أدوات تستهدف الوعي والفكر والمعتقد والتاريخ والجغرافيا، وحتى الذوق العام. لكن في المقابل هناك هوة كبيرة بين الموقفين الرسمي والشعبي فيما يتعلق بالتطبيع، وهذه الهوة بالتحديد هي التي ما انفك الكيان الصهيوني يحاول رتقها.

حاولت إسرائيل على مدى سنوات طويلة تحقيق فتوحات تطبيعيه شعبية في جبهات عربية وإسلامية عديدة وخاصة كنتيجة لمعاهدات السلام التي عقدتها مع الأردن ومصر. لكن ومع مرور السنين بدأ يتكون لدى إسرائيل هاجس بأن الجبهتين الشعبيتين الأردنية والمصرية لم تكونا الحاضنة الأمثل لتفريخ التطبيع، وتزامن ذلك مع محاولة اختراق جبهات أخرى أو فض بكارة جبهات وهمية بالأصل. ففي البداية لم تجد إسرائيل حصانا طرواديا تتسلل من خلاله إلى عقول وقلوب العرب لتستجدي القبول والتطبيع، ولكنها وجدت ضالتها بكائن هجين كاد عطش الشرعية أن يقتله، فوجد ضالته هو الآخر بإسرائيل التي سيتضح فيما بعد أنها كانت تلوح له بالسراب على أنه ماء.

بدأت إسرائيل التعويل على السعودية للترويج وقيادة جهود التطبيع، ليس لدى دول الخليج فقط بل والدول العربية الأخرى اعتقادا منها ان ما تمتلكه السعودية من الأدوات السياسية الناعمة قد يسهل مهمتها وينجزها بأقل الخسائر وأعظم المكاسب، بدأت السعودية مسارات التطبيع مرورا بدورها المشبوه فيما يعرف بصفقة القرن وخاصة جولات الضغط على الجانب الفلسطيني من خلال تخفيف وتجفيف الدعم المالي للفلسطينيين لجعل الإنسان الفلسطيني يعتقد أنه يقف وحيدا في الدفاع عن قضيته في وجه ممارسات الاحتلال والتهويد وأن الحاضنة الشعبية العربية لنضاله بدأت تتلاشى. واعتقدت السعودية ان ذلك سيسهم كذلك في بتر سواعد الرفض والمقاومة ودفع الفلسطينيين باتجاه سياسة قبول الأمر الواقع والتعايش معه.

ويعيش المطبعون السعوديون وغيرهم حالة من الوهم أربكت حروفهم الهجائية فقرأوا خريطة التفاعلات قراءة ساذجة وخاطئة. فمثلا اعتبروا ان القياس على الظن بأن السلطة الفلسطينية هي الأخرى تسعى للتطبيع من دون الحصول على حقوق الشعب الفلسطيني هو قياس أجوف ولا معنى له. كذلك وبرغم مرور عشرات السنين على معاهدات السلام بين إسرائيل من جهة والأردن ومصر من جهتين أخريين، إلا أن الرفض الشعبي لتقبل وقبول رموز الصهيونية والإسرائيليين المغتصبين للأرض الفلسطينية ربما يكون الأكثر رسوخا ووضوحا وتشددا في هاتين الدولتين، الأردن ومصر.

ومن أهم أسباب فشل محاولات التطبيع هو أن وتيرة محاولات التطبيع تشتد بنفس الوقت الذي تشتد فيه الممارسات التي تنفر من التطبيع كالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وضم مرتفعات الجولان والتلويح بضم غور الأردن وغيرها.  المنطق يستدعي أن يُقدّم للفلسطينيين مبادرات حسن نية يتم الإعلان عنها بالتزامن مع جهود تسويق التطبيع. ولكن في الجهة المقابلة قد تكون محاولة تكثيف حملة التطبيع جزء من حملة أكبر لدفع الإنسان الفلسطيني لقبول صفقة القرن كأيسر الأمرين! نتيجة لمبادرات التطبيع السعودي، تحولت السعودية بالمفهوم الشعبي الفلسطيني من المختار الموثوق إلى السمسار المنبوذ وبالمفهوم العربي الأوسع أصبحت الأخ الأكبر الذي تحرضه عصابة الحي على التنكيل بإخوته لرفضهم الانضمام إلى العصابة.

ومن سوء الطالع بالنسبة لإسرائيل ان ذلك تزامن مع جهود أطراف مجاورة تريد تسخير الزخم السعودي الإقليمي لصالح أهداف تخدم مصالح تشتيت الزخم العربي والإسلامي ككل، بعد موجات الربيع العربي. في حرب التجاذبات هذه أوقعت السعودية نفسها فريسة ممزقة بين جنابي اليمن ومناشير إسطنبول ولعنة حصار قطر واستباحة الحويطة، وقض مضجعها أنين المعتقلين والمعتقلات الذين نُكّل بهم لمجرد ان كلمة على طرف اللسان قد سقطت سهوا على مسمع من لا يتقن إلا النظر إلى لوحات صماء.

مع كل هذه الحسابات الخاطئة، شرعت السعودية برحلة قصيرة ذات محطات متقاربة، وفي كل مرحلة كانت تخسر ليس فقط علاقات جوار بل علاقات إقليمية ودولية، وساءت سمعتها بحيث لم تعد مؤهلة لقيادة جهود التطبيع المرسومة لها. ومع تطور الأحداث والمغامرات التي استنزفت الموارد المالية للسعودية وتفاقم آثار الإنكار وحرب أسعار النفط بدأت السعودية خسارة وسائلها الناعمة كذلك، فلم يعد بإمكانها مثلا “شراء” تنازلات من دول ما مقابل التطبيع مع إسرائيل لأنه لم يعد لديها الموارد للدفع مقابل هذه المواقف، مما دفعها إلى الالتفات للداخل وإحكام القبضة الخشنة على أرزاق مواطنيها على أمل أن يوفر ذلك مصادر للقوة الناعمة، خاصة بعد هبوط أسعار النفط إلى مستوى أدنى من قعور آبار النفط نفسها!

وأما دوليا فأصبح الاقتراب كثيرا من صناع السياسة الخارجية السعودية بمثابة وصمة عار يتجنبها كثير من السياسيين وقادة الدول، بعيدا عن المجاملات الدبلوماسية التي لا بد منها.  ومن عوامل فقد الثقة بالموقف السعودي أيضا أن ما يقوم به ولي العهد من مبادرات لترويج بلاده على انها حاضنة للتسامح والإصلاح والتنوير وغيرها يقابلها على أرض الواقع نماذج صارخة من التنكيل بالعلماء والمفكرين والإصلاحيين واستنزاف ثروات البلاد.

اختيار السعودية للعب هذ الدور اختيار فاشل لأنها ذات الدولة التي هي نفسها أصبحت تحتاج لتطبيع علاقاتها مع نفسها ومحيطها الإقليمي العربي والإسلامي. بالإضافة إلى الصورة النمطية في الفكر والضمير واليقين العالميين تجاه السعودية وسياساتها، ستدرك إسرائيل بأنها راهنت على خيار خاسر وفاشل وحين تحاول البحث عن مرابين آخرين يسوقون للتطبيع معها مقابل عمولة، لن تجد غير بعض الأبواق الفارغة من فقاعات بشرية اختارت أن تروج للتطبيع في يوم عاصف.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى