فرنسا ومغامرة إضفاء طابع مؤسسي لظاهرة الإسلاموفوبيا
بقلم حزال دوران
يتوقع أن يكتسب مشروع الإسلام الأوروبي زخماً في الأيام المقبلة. الأمر الذي يعني أن مسلمي أوروبا سيتعرضون لمزيد من الاضطهاد والتمييز على صعيد الحياة الاجتماعية والمجالات العامة.
في 2 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أدلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتصريحات هاجم بها الدين الإسلامي، الذي زعم أنه يعيش حالياً أزمة في كل مكان بالعالم، وأضاف أن بلاده ستتصدى لما وصفه بـ”الانعزالية الإسلامية”، مشدداً على أهمية إعادة تشكيل الإسلام من جديد. وتسببت هذه التصريحات في اندلاع حالة من الغضب والجدل والنقاش.
وقد أشار ماكرون أيضاً إلى أن حكومته ستطرح في 9 ديسمبر/كانون الأول المقبل، مشروع قانون حول سبل التصدي لـ”الإسلام الانعزالي”. الأمر الذي يعني أن الجدل حول هذه القضية سيتواصل أيضاً خلال الشهور المقبلة.
وتُظهر حالة الجدل التي تسببت في حدوثها تصريحات ماكرون، أن الكثيرين لم يكونوا على دراية بدرجة كافية بظاهرة الإسلاموفوبيا التي زادت وتيرتها في العشرين سنة الأخيرة، وباتت تسيطر على مفاصل المجالات العامة في كل الدول الأوروبية وبينها فرنسا. ومشروع القانون الذي تحدث عنه ماكرون ما هو إلا محاولة لإضفاء طابع مؤسسي لممارسات الإسلاموفوبيا المنتشرة على نطاق واسع في فرنسا. لذا ينبغي علينا إدراك أبعاد هذا المشروع وفهم المرحلة التي ستليه. ولتحقيق ذلك ينبغي لنا الرجوع بالتاريخ إلى الوراء قليلاً.
يشكل المسلمون في فرنسا 8% من عدد السكان. تزايدت القيود المفروضة عليهم بشكل خاص عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة. وعام 2004، حظرت الحكومة الفرنسية ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، بحجة أنه رمز ديني. واعتباراً من هذا التاريخ، تزايدت كل سنة وتيرة الهجمات التي تستهدف المسلمين في عموم فرنسا. ومؤخراً، كشف “تقرير الإسلاموفوبيا الأوروبي” أن الجمعية الفرنسية لمناهضة الإسلاموفوبيا CCIF رصدت 1043 هجمة ضد المسلمين في فرنسا خلال عام 2019. وأوضح التقرير أن 68 من مجموع تلك الهجمات جاءت في صورة اعتداءات جسدية ضد المسلمين، فيما اتخذت نسبة 80% من الهجمات صور تمييز وتفرقة وخطابات كراهية.
ولا شك أن الهجمات المتزايدة سنوياً ضد المسلمين في فرنسا، قد كشفت أن الإسلاموفوبيا نجحت في تأجيج التمييز ضد المسلمين في فرنسا على مستوى الدولة، بعد أن كانت رهاباً على المستوى الاجتماعي. وعلى مر السنين، زادت الدولة الفرنسية بشكل تدريجي من عدد الخطوات التي من شأنها إضفاء طابع مؤسسي للإسلاموفوبيا.
وقد تسببت ممارسات الإسلاموفوبيا التي اتخذت طابعاً مؤسسياً في العشرين سنة الأخيرة، في تعرُّض المسلمين في المجالات العامة بفرنسا لأشكال خطيرة من التمييز والتفرقة. فعلى سبيل المثال، ارتفعت نسبة عدد المسلمين الذين تعرضوا للتمييز عند التحاقهم بعمل في القطاع العام إلى 59%. وعلاوة على ذلك، جرى العمل على إظهار هذا الأمر في قالب مشروع من خلال الاستناد إلى قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 2017، الذي مهد الطريق أمام فرض أرباب العمل قيود على موظفيهم بخصوص تأدية الشعائر الدينية.
لذا، فتعبير “الإسلام الانعزالي” الذي استخدمه ماكرون يشير إلى محاولات تقييد وحظر لكل الشعائر المتعلقة بالإسلام في المجالات العامة بفرنسا. كما يلاحظ أن الحكومة الفرنسية في حربها ضد الإرهاب تفرد مساحة واسعة لمواجهة الإسلاميين الراديكاليين. وعلى الرغم من ذلك، نجدهها مصرة على فتح باب الجدل والنقاش بشكل متكرر حول قضية “تحديث الإسلام”. واللافت هنا أننا نجد في تلك النقاشات عن الإسلام والراديكالية، عدم حصر الراديكالية بالأعمال الإرهابية، وإنما توجد محاولات لربط كل الشعائر الإسلامية بالراديكالية. فمثلاً نجد وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستنير يزعم في تصريحات أدلى بها في 2019، بأن المسلمين يتحولون نحو الراديكالية، ويرى الوزير الفرنسي أن أبرز مظاهر هذا التحول الراديكالي يتمثل في إطلاق اللحى، والاحتفال “بشكل مبالغ فيه” بشهر رمضان، والحرص على إقامة الصلاة، واستهلاك الأطعمة الحلال!
ويتضح من السابق ذكره أن الإسلاموفوبيا في فرنسا تنبع من انزعاج من “الإسلام نفسه”، وليس من “الإسلام الراديكالي”. وعلى هذا النحو، يبدو أن القيود التي اتخذت بشكل تدريجي طابعاً مؤسسياً عبر السنين، ستزداد وتيرتها بصورة أكبر مع مشروع القانون الجديد الذي تحدث عنه ماكرون. ويتوقع عقب تمرير القانون وقف تطبيقات عديدة تتعلق بحياة المسلمين في فرنسا، مثل تأهيل الجاليات والتجمعات الإسلامية المتنوعة واختيار أئمتها، وحرية طلاب المدارس في اختيار دروس اللغة والثقافة، وإدراج قوائم الطعام الحلال في المدارس. واللافت هنا أن هذه الأمور لا علاقة لها بما يوصف بالإسلام الانعزالي، وإنما الأمر ما هو إلا إقصاء كامل للإسلام من المجال العام.
وعلى هذا النحو، تكشف مناقشات الإسلام الانعزالي التي بدأت عام 2018، واكتسبت زخماً في 2020، نوعاً من الاستمرارية في السياسات الفرنسية في هذا الخصوص. أمّا المرحلة النهائية التي ستعني اكتساب الإسلاموفوبيا طابعاً مؤسسياً، فستكون تقييد الإسلام في فرنسا بإطار علماني تام.
حسناً، ما موقع ماكرون في هذه العملية؟ عندما وُجهت أسئلة إليه عن الإسلام خلال حملته الانتخابية لرئاسة فرنسا، رد ماكرون بعبارات من قبيل: “لدى الجميع الحق بالإيمان” و”لا توجد مشكلة في فرنسا بخصوص الإيمان بإله واحد وبأي دين”. بل إنه صرح بأنه يدعم دراسة الفتيات مرتديات الحجاب في التعليم الجامعي. وعليه، كان ماكرون يتمتع بخطاب أكثر شمولية نحو المسلمين في فرنسا، مقارنة بمنافسته مارين لوبين اليمينية المتطرفة. الأمر الذي دفع عدداً كبيراً من مسلمي فرنسا إلى الإدلاء بأصواتهم لصالحه في الجولة الثانية من الانتخابات.
غير أنه مع تدهور شعبيته بشكل ملحوظ على خلفية الأزمات السياسية والاقتصادية ومظاهرات “السترات الصفراء”، يسعى ماكرون لتجاوز ذلك واستعادة شعبيته من خلال الدعم الذي سيحصل عليه من اليمينيين الراديكاليين عبر تغيير خطابه المعتدل تجاه المسلمين. وحالياً بات ماكرون يزعم أن الإسلام دين يعاني مشاكل، عقب 3 سنوات من قوله إنه لا توجد أية مشكلة تتعلق بالأديان في فرنسا. ويتضح من ذلك أن ماكرون يسعى لإنشاء مساحة لمناورة سياسية جديدة من خلال الهجوم على الإسلام. وهو الأمر نفسه الذي سبقه إليه سلفاه نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند، إضافة إلى منافسته مارين لوبين.
أما الرابح الأكبر في هذه العملية فهو الجناح الفرنسي من مشروع “الإسلام الأوروبي”. وهذا المشروع يهدف إلى تأسيس إسلام خالٍ من الرموز والقيادات الدينية، لا يمثل “تهديداً” لأوروبا، ويتبنى فيه المسلمون كل التطبيقات الاجتماعية للدول الأوروبية. وعلى الرغم من اعتقاد كثيرين أن الجناح الفرنسي من ذلك المشروع لن يتقدم عقب انتخاب ماكرون، فإن الأخير أثبت للجميع حالياً أنه يدعم المشروع نفسه.
وعليه، يتوقع أن يكتسب مشروع الإسلام الأوروبي زخماً في الأيام المقبلة. الأمر الذي يعني أن مسلمي أوروبا سيتعرضون لمزيد من الاضطهاد والتمييز على صعيد الحياة الاجتماعية والمجالات العامة.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)