مقالاتمقالات مختارة

فرنسا تعلن الحرب على الأتراك العثمانيّين في تونس

فرنسا تعلن الحرب على الأتراك العثمانيّين في تونس

بقلم د. مصطفى الستيتي

منذ شهر أفريل من عام 1881م شرعت فرنسا في إعداد العدّة لاحتلال البلاد التّونسية، وأرسلت جيشًا باتّجاه العاصمة لمحاصرة قصر باردو مركز الحكم في البلاد. وفي الأثناء كانت الحكومة العثمانيّة في إسطنبول تحاول حلّ الأزمة معها بطرق ديبلوماسيّة من خلال التّواصل مع الدّول الكبرى، لكن تبيّن من الواضح أن أغلب هذه الدول متواطئة معها، ولذلك لم تحرّك ساكنًا في هذا الشأن. ثم إنّ الحكومة العثمانية أيقنت أنّ هدف فرنسا هو احتلال البلاد وليس محاربة عشائر “خمير” وتأديبها كما كانت تزعم. فقرّرت إرسال فرقاطتين حربيّتين إلى المياه التونسية. وما إن علمت فرنسا بالأمر حتّى أصدرت حكومتها تقريرًا أبلغه سفيرها في إسطنبول إلى وزارة الخارجية العثمانيّة يهدّد بضرب هاتين السفينتين، ويعتبر أنّ أيّ اقتراب لأيّة قوة عثمانية من المياه التّونسية سوف يعتبر عملاً عدائيّا يستوجب الرّد السريع. والوثيقة التّالية تكشف محتوى مداولات مجلس الوزراء الفرنسي بخصوص المسألة التونسية، وموقف الحكومة الفرنسيّة من التدخّل العثماني.

الوثيقة عبارة عن ترجمة لتقرير وارد من السّفارة الفرنسية في إسطنبول إلى نظارة الخارجية العثمانيّة، وهي مأخوذة من الأرشيف العثماني في إسطنبول ورقمها (İ. DUİT 140- 53 lef2). وهذا التقرير مؤرخ بتاريخ 7 ماي سنة 1881م، أي قبل عقد معاهدة باردو بخمسة أيام فقط. ولم تذكر الوثيقة اسم السّفير الفرنسي في الآستانة في تلك الفترة ولا اسم ناظر (وزير) الخارجية العثماني لكنّنا نعرف أن السفير الفرنسي في تلك الفترة كان يُدعى “جوزيف تيسو” Joseph Tissot(1828-1884م)، وقد عين سفيرًا في إسطنبول عام 1880 ثم سفيرًا في لندن في العام الموالي. أمّا ناظر الخارجيّة العثماني في تلك الفترة فهو عاصم محمد باشا (1821-1886)، وقد تقلّد أيضا مهامّ ناظر الأوقاف، ورئيس مجلس شورى الدولة وناظر العدليّة.

والنّص صادر عن سفارة دولة أجنبيّة هي فرنسا، فهو إذن نص أصلي وليس مقتطفًا من مصدر أو مرجع آخر، فهو معبّــر عن موقف هذه الدّولة في قضية من قضايا السّاعة في تلك الفترة. والوثيقة كذلك لا تصف أحداثًا ماضيةً، أو تسرد وقائع منقضية، بل إنّ مضمونها بما هو موقف سياسي وعسكريّ هو مساهمة في صناعة الحدث نفسه. فأهميّة الوثيقة ليست فقط في راهنيّتها، بل كذلك في تأثيرها القوي والحاسم في الأحداث الجارية في تونس في تلك المرحلة.

ويمكن تقسيم الوثيقة من حيث المحتوى إلى محورين كبيرين: يتعلّق المحور الأول بتصنيف فرنسا جزء من الشعب التّونسي ضمن خانة الأعداء “إنّ الجمهورية الفرنسيّة اليوم تنظر إلى قسم من أهالي تونس على اعتبار أنّهم محاربون..”. وهذا التصنيف هو ما يسوّغ لها اتخاذ الخطوات القصوى في التّعامل معه، وهو ما حدث بالفعل مجسّدًا في غزو البلاد وتشريد العباد، وسفك الدّماء والاعتداء على الأبرياء.

أما المحور الثاني من الوثيقة فهو نتيجة للموقف الأوّل، ويتمثل في رفض أي تدخّل عثماني في المسألة التونسيّة مهما كانت طبيعتُه، واعتبار أيّ خطوة من هذا القبيل “عملاً عدائيّا” يستوجب الردّ الفوري والقويّ والحاسم. بل إن الأوامر “سوف تصدر للأسطول الفرنسي لمقاومة أيّ إنزال عسكري وأيّ دعم لوجيستي في أيّ جهة من جهات الإيالة”. ويؤكد السّفير “تيسّو” أن التّعليمات وصلته من باريس بأن يُبلع الحكومة العثمانيّة بهذه القرارات.

في الواقع إنّ فرنسا، وهي ترسل هذا التّقرير إلى الحكومة العثمانية، وتتخذ هذا الموقف القويّ كانت قواتها قد قطعت شوطًا كبيرًا باتّجاه قصر باردو في العاصمة تونس، فقد احتلّت عدة مدن في الشّمال الغربي والشّمال الشّرقي من تونس، ثم يبدو أنّها نسّقت مع بعض الأطراف السّياسيّة داخل الحكومة التّونسية لكي تتيسر مهمّتها، وعلى رأسهم الوزير الأكبر مصطفى بن إسماعيل. والسفير الفرنسي في تونس في تلك المرحلة “روسطان” كان في غاية النشاط لتنفيذ مهمّة السيطرة على البلاد، وقد مهّد لذلك منذ وقت طويل.

ثم إنّ وضع البلاد السّياسي والاقتصاديّ كان في غاية التّردّي والسّوء، ولم يكن للشّعب التّونسي القدرة على مواجهة جحافل الجيوش الفرنسيّة المدجّجة بأعتى أنواع السّلاح وأحدثها. فمنذ وقت طويل عانت تونس من عمليّات سرقات ونهب منظّمة شارك فيها الوزير محمود بن عيّاد، ومصطفى خزندار ومصطفى بن إسماعيل وغيرهم. فالبلاد أصبحت منهكةً مرهقةً بالفقر والدّيون والفساد. ومتى اجتمعت على شعب من الشّعوب كلّ هذه الأمراض فقَدَ الأمل وخَارت قواه وأصبح يلتمسُ الخلاص من أيدي جلاّديه، ولا يلقي بالاً للكرامة وعزة النّفس، بعد أن يصبح مهدّدًا في أمنه وعيشه وقُوت يومه.

كانت الأجواء إذن مهيّئة لفرنسا لكي تقطف “الثّمرة” بعد أن نضجت وحانَ قطافها. كان السّباق عليها محمومًا والتنافس على أشدّه بين فرنسا وإيطاليا لكن الظّروف مالت لصالح فرنسا في النهاية. فالأوضاع لم تكن سيئة فقط في الإيالة تونس، بل كانت متدهورة ورديئة كذلك في العاصمة إسطنبول، وربما بسبب ذلك لم يكن بوسع الحكومة العثمانية أن تعرف نوايا فرنسا الحقيقيّة حتّى آخر لحظة. فقد كانت تُصدق أن هدف فرنسا من التقدّم نحو الحدود التّونسية الجزائرية إنما هو “تأديب قبائل خمير” و”ردع المُفسدين”، بينما خططها كانت ترمي إلى أبعد من ذلك بكثير.

في “الوقت الضّائع” أرسلت الحكومة العثمانية فرقاطتين حربيّتين باتجاه السّواحل التّونسية بنية نجدة أهالي تونس اضطرّتا للعودة على أعقابهما بعد وقت قصير على إثر وصول أخبار تفيد بأنّ والي تونس محمد الصّادق بك وقّع “اتفاقية باردو” مع السّلطات الفرنسية وقُضي الأمر. وفي الواقع كانت هذه الخطوة ضعيفة ويائسة من قبل الحكومة العثمانيّة، فلا يمكن مواجهة آلاف الجنود المدجّجين بالسلاح بسفينتين حربيتين يتيمتين، والغالب أنّ هذه الخطوة كانت لمجرّد رفع اللوم والعَتب وليس أكثر من ذلك. بل إنّ بعض التحليلات تذهب إلى القول بأنّ الدّولة العثمانية لم يكن في حسابها ولا في نيّتها توتير الأوضاع مع فرنسا حتى لا تخسر صداقتها معها في مرحلة تواجه فيها متاعب داخليّة وخارجيّة جمّة.

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى