فخر العرب..ساروت
بقلم كرم الحفيان
شاء علّام الغيوب قاصم الجبارين وجابر المستضعفين أن يتزامن هذا العدد من مجلة كلمة حق مع ارتقاء وتشييع أحد أصوات الحق الشابة ذي السبعة والعشرين ربيعاً فقط! في مشهدٍ بدا وكأنه لملكٍ متوج مسيطرعلى الأرض، أو رمز ديني أو ثوري ملك القلوب بعد عمر طويل من البذل والعطاء.
عن عبد الباسط ساروت: فخر العرب وأحد مسعِّري وفرسان الثورة السورية أحدثكم.
الساروت لم يترك ميدانًا من ميادين مقاومة أعداء الأمة إلا اقتحمه، بدءاً من قيادة المظاهرات “شبه الاستشهادية” في عاصمة الثورة حمص، مروراً بالإنشاد المؤرِّخ والملهب للمشاعر والقيم والأفعال الثورية على كامل الأرض السورية، وانتهاءً باحتراف العمل الجهادي المسلح والتحول لقائد عسكري جسور ومحنك في إحدى أهم وأشرس الجماعات المقاتلة في الثورة السورية “جيش العزة”، والمميز في مسيرة ساروت، هو إضافة ومزج كل مسار مقاوم بالذي سبقه، دون التخلي عن أحدها.
اللافت كذلك في مشوار الساروت الثوري، كثرة وعظم أصناف الابتلاءات التي تعرض لها: ملاحقات أمنية لقتله، إصابات متكررة، قتل الأب وجميع الإخوة وأحبة كثر، فضلاً عن حصارٍ (دخله بإرادته) وتجويع أديا لأكل الأعشاب والقطط طوال سنتين، ناهيك عن التعرض للقصف بالكيماوي خلال إحدى المعارك التي خاضها (وما أكثرها).
جميع الابتلاءات السابقة (وغيرها) في ثماني سنين كاملة، لم تسطع إسكات صوته، أو كسر عزيمته، حتى قضى شهيداً شامخاً في معارك الشرف، دفاعاً عن الشمال السوري المحرر، في وجه حملة روسية أريد لها أن تكون حاسمة، وقد كُسرت بفضل الله، وبدأت تنزف ببركة دماء الساروت والآلاف من أمثاله، وليُسهم دمه في توحيد قلوب أبناء الثورة السورية على رمز جامع من جديد.
الثبات لم يكن فقط في الصبر على المصائب والمصاعب، ورباطة الجأش ومواصلة السير، إنما شمل بدايةً:
إيثار الآخرة على الدنيا، والقضية على المادة، والثورة على الثروة، فمع انطلاق المظاهرات، كان عمر الساروت 19 عاماً، وكان ثاني أفضل حارس مرمى في آسيا في فئة الشباب، وينتظره مستقبل كروي واعد، ورغم فاقته وحاجته للمال، فإنه في هذه اللحظة الفارقة، اختار أن ينصر شعبه وأمته، وقبل ذلك، أن يقدم لنفسه ولآخرته عند الوقوف بين يدي الله تعالى.
ثم بعد أن حظى بالشهرة الثورية، وقدم التضحيات الجسام، لم يكتفِ بما قدم، ولم يستغل ما سبق في التكسب من الثورة، أو الحصول على امتيازات، أو حتى قبول وأخذ ما يكفيه وأهله!
وعندما عُرض عليه الانضمام إلى منتخب سورية الحر، المؤلف من الرياضيين المنشقين عن النظام، والبقاء في تركيا، رفض العرض، وواصل الجهاد في سبيل الله، ولا غرابة، فالرجل قلبه معلق بالمعارك والملاحم، ولا يطيق فراقها.
ينحدرالساروت من عشيرة النعيم العربية، وهو ابن حي البياضة أحد الأحياء الشعبية بمدينة حمص. وقد تمثل فيه مزيج من الأخلاق العربية الأصيلة والأعراف الحمصية الجميلة. فمن الجذور العربية أخذ النخوة والنجدة وإباء الضيم، ومن حمص أخذ حسن الخلق وروح الدعابة والوفاء، وقد كان شديد الحب لمدينته، ولولا أنهم أخرجوه ما خرج منها قبل تحريرها، رغم الحصار والدمار والخذلان.
لم يكن الساروت بلا أخطاء، إنما ما يحسب له، سرعة الرجوع عن الخطأ، وأنه لا تأخذه العزة بالإثم، ففي إحدى المراحل القصيرة، كان قريباً من الانضمام لتنظيم الدولة داعش، وعلى الرغم من عدم تبنيه لأفكاره أو رضاه بممارساته، فإنه تأثراً بالظروف المحيطة من طول الهدن وأخطاء بعض الجماعات، وبروباغندا التنظيم الفعالة في استقطاب الكثيرين، والهالة الإعلامية العالمية حول قدراته وانتصاراته، نوى الانضمام، إلا أنه سرعان ما اكتشف حقيقة مشروعهم وإجرامهم، فابتعد عنهم أولاً، ثم تحداهم عندما خيروه بين البيعة أو تسليم سلاح كتيبته.
وبلا شك، نستطيع القول، إن درجة التدين، والتصور الإسلامي لحقيقة المعركة، تبلورا عند الساروت بعد أشهر قليلة من بدء الثورة، وازدادا رسوخاً مع مرور الوقت، وذلك للصبغة الإسلامية الواضحة الطابعة للثورة السورية بمجملها، وعدم وجود تيارات أو جماعات علمانية أو يسارية مقاتلة على الأرض.
والجميل في الساروت، أن توجهه الإسلامي أخذ طابعاً عاماً جامعاً، دون الانجراف وراء تيار أو التعصب لمنهج أو تنظيم معين، ساعد على ذلك ثلاثة أمور:
– بياض صفحته من التحزب والتقولب السابق.
– تعطشه لتوحد جميع الثوار المجاهدين في الميدان.
– أولوية ومركزية قضية إسقاط النظام وطرد المحتلين.
والرجل ظل مستمسكاً بهذا النهج إلى أن نال الشهادة مقبلاً غير مدبر، بعد أن خُتمت حياته بالمشاركة الفعّالة في انتصارات رمضان 1440هـ/مايو- يونيو 2019م، ولتشهد له كلماته الأخيرة المسجلة على الجبهات بريف حماة قبل إصابته بقليل.
تحدث الساروت في عباراته الأخيرة بلهجة ملؤها السعادة والثقة والتفاؤل، ووجه عدة رسائل هامة للشعب الحر ولفصائل المجاهدين.
فبعد التهنئة بعيد الفطر وبالانتصارات الأخيرة قال: “بإذن الله سنكون درع لهم، درع متين، نحن وكل الثوار، وكل واحد شايل سلاح حتى يكون ابن هذه القضية، وابن الثورة، المعنويات عالية، إن شاء الله المراحل القادمة، هي نقل للمعركة من أرضنا لأرض العدو” ثم عقب على توحد الفصائل في المعارك الأخيرة: “هذا التوحد فضل من الله عز وجل، لازم نحن نستغله.. حتى نتقدم أبعد مسافات.. ونستمر بقضيتنا ونرجع لأراضينا فاتحين من: دير الزور لحمص لدرعا لكل مكان، هذا الكلام ليس معنويات، هذا تصميم وإرادة.. إن شاء الله وبإذن الله سينكسر الطيران الروسي بمعقل إدلب، وستمدد هذه الثورة وتعود حرة أبية كاملة بإذن الله” .
ويشاء الحكيم العليم، أن تكون خاتمة أناشيد الساروت المسجلة قبل الشهادة بأسبوع، شاملة لجميع الثورات، فبعد توجيهه تحيةً للثورتين الجزائرية والسودانية، شدد على أهمية ثورة مصر في وجه “طاغوت العصر”، ثم ختم بدعوة الثورة السورية الكاشفة للثبات حتى النصر.
خاتمة
إذن فالفخرالحقيقي للعرب وللأمة يكون بالساروت وأمثاله، وهم بالآلاف المؤلفة في كل مواطن النزال، الذين ما إن أدركوا حقيقة الحرب الوجودية التي تمارس على دين وأرض وعرض وحضارة أمتهم، وتستهدفها بمختلف الطرق العسكرية والفكرية والفنية والاقتصادية وغيرها، وفي أبرز معاقلها: الشام والجزيرة العربية والعراق ومصر.
ما إن أدركوا ذلك، حتى وثبوا إلى مواقعهم الصحيحة، وانخرطوا في المعركة بكليتهم، وفعّلوا طاقاتهم ومواهبهم بالطريقة الخادمة لقضايا أمتهم، وأنكروا ذواتهم، وضحوا بلا حدود، وثبتوا ثبات الأسود، وصبروا على أشد الخطوب.
بأمثال هؤلاء العظام تنهض الأمة، وتتحرر من محتليها وطواغيتها، وتستعيد مكانتها، وقد أعطانا الساروت درساً عظيماً في بركة الوقت وأثر التضحية، ففي بضع سنين فقط، وعلى الرغم من بساطته علمياً وفكرياً، فإنه قدم كل شيء، وضحى بكل شيء.
رحل الساروت عن 27 عاماً فقط، إلا أنه أحيا بروحه روح الثورة في قلوب الملايين، وأصبح رمزاً عالمياً للتحرر، وقدوة إسلامية ثورية شابة معاصرة، لتنشأ على سيرته العطرة أجيالٌ كاملة، بعيداً عن الزعامات العلمانية واليسارية الثورية الغربية والشرقية التي اشتهرت في القرن الماضي، وبصورة أوسع من النماذج الإسلامية التي حُسبت في الغالب على حركاتها وتنظيماتها أكثر منها رموزاً عامة للأمة وشبابها.
ملحوظة: وقبل أن أختم هذا المقال، ضجت ربوع الأمة الإسلامية بخبر مقتل رمز آخر من رموز الثبات والتضحية، وهو الرئيس النبيل الرحيم بشعبه النصير لغزة وسورية وغيرهما، الدكتور المصري الأسير: محمد مرسي رحمه الله.
قتله فراعين مصر قتلهم الله، دون أن يفلحوا في قهره على الاعتراف بنظامهم الطاغوتي العميل، طوال ست سنين من الأسر والتعذيب، وما أن نشر خبر وفاته، حتى ذابت الفروقات بين جل شعوب وعلماء وحركات ومجاهدي الأمة، لتجتمع القلوب، وتتفق الألسنة على الثناء على الرجل، وذكر مناقبه، في صورة مشرقة رغم ألم فراقه، فتلاحم الأمة وتناسيها للخلافات البينية، واجتماعها على بعض الرموز، يبشر بأمل جديد، في اجتماع وتوحد العاملين للإسلام والأمة من ورائهم، في هذه المرحلة الحساسة المصيرية، في الدفاع عن الإسلام وأبرز معاقله وثوابته المهددة، في ظل الحملة العالمية الحالية الرامية لاستئصاله.
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)