فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا بخصوص (حرق جثث الموتى المصابين بكورونا)
بسم الله الرحمن الرحيم
وردت إلى المجمع أسئلة عن حرق جثث الموتى بفيروس كورونا، وبعد النظر والتشاور، أفتت اللجنة الدائمة للفتوى بالمجمع بما يأتي:
أصل الحكم في هذه المسألة لا يختلف عليه مسلمان، فحرق الجثث في ديننا مثلة منهي عنها، والموتى لهم عندنا حرمة كالأحياء؛ قال النبي – صلى الله عليه وسلم: “كسر عظم الميت ككسره حيًا.” وهناك من التعاليم ما هو معلوم بشأن إكرام الموتى وحسن تجهيزهم والنهي عن الجلوس على القبور والمشي فوقها، وما ذلك كله إلا لكرامة بني آدم؛ قال تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ.” وقد أخبرنا الله أنه سبحانه من علم البشر دفن موتاهم فقال في قصة الغراب مع ابني آدم: “فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ.”
أما القضية المسؤول عنها فمركبة من عدة أجزاء:
الأول هل تعين بالفعل حرق جثث موتى فيروس كورونا لنجاة الأحياء؟
الثاني فيما إذا لم يتعين الحرق لإنقاذ الأحياء ولكن شق الدفن لأسباب مادية أو غيرها.
الثالث هو حكم حرق جثث الموتى إن تعين سبيلًا لنجاة الأحياء من خطر محدق بهم.
فنشرع في الكلام عنها ونذكر بعض التوصيات للجالية المسلمة.
أما تعيّن حرق جثث موتى فيروس كورونا لنجاة الأحياء، فهذا لم يثبت أبدًا، فأمر كهذا لا يصحُّ فيه التوهم والعمل بشهادة طبيب أو طبيبين، بل اتفاق المرجعيات الطبية المختصة أو شيءٍ قريب منه. ولقد نشرت منظمة الصحة العالمية بيانًا عن الدفن الآمن لموتى كورونا.
وأما حرق الموتى لمشقة دفنهم أو توفيرًا للنفقات، فهنا نؤكد بداية أن رفع الحرج والمشقة أمر معتبر في شرعنا، ونناقش أدناه الحكم إذا تسارع الموت في الناس وخشي هلاك الأحياء بترك جثث الموتى، لكن هذا ليس واقعًا ولا متوقعًا في هذا الوباء، ومشقة الدفن قد يتعامل معها بإنشاء قبور جماعية أو غير ذلك من الحلول، ولا ينبغي التهاون في حقوق الموتى تأثرًا بالفلسفة المادية التي تزدري ما تسميه ميتافيزيقيًا ولا تراعي سوى المصلحة المادية للأحياء، وهي في الحقيقة تنسفها، فحياة بلا معنى حياة ضنك. إن تجهيز الموتى ودفنهم فرض كفائي نأثم جميعًا بتركه. قال الإمام الشافعي – رحمه الله – في الأم: “حق على الناس غسل الميت والصلاة عليه ودفنه، لا يسع عامتهم تركه، وإذا قام بذلك منهم من فيه كفاية له أجزأ.”
أما نفقات الدفن وعجز الجالية عن توفيرها، فإن هذا الفرض الكفائي قد رتبت الشريعة المكلفين به، فمؤنة تجهيز الميت تخرج من رأس ماله مقدما حتى على الدين عند الحنابلة خلافا للجمهور، فإن عدم فممن تلزمه نفقته، ثم من بيت المال، ثم على جماعة المسلمين.
ومما ننصح به المسلمين التعاون فيما بينهم للقيام بحق موتاهم ممن لم يتركوا ما يكفي تجهيزهم وعجز أولياؤهم عن ذلك أو قصروا، ومن أعمال البر التي ينبغي التداعي لها شراء مقابر للمحتاجين، وإن كان تخصيص قبر لكل ميت متعذرًا في هذه النازلة وغيرها، جاز دفن عدة موتى في قبر واحد، والدفن في بلادنا هذه يكون في التوابيت فتوضع متراصة أو حتى فوق بعضها في قبور جماعية يشتريها المسلمون لأنفسهم، وقد دفن رسول الله الاثنين والثلاثة من شهداء أحد في قبر واحد، وفي التاج والإكليل من كتب المالكية: “ولو نزل الأمر الفظيع بكثرة الموتى، فلا بأس أن يدفنوا بغير غسل، إذا لم يوجد من يغسلهم، ويجعل النفر منهم في قبر واحد.” وقد يكون هناك حل في نقل الجثمان إلى مناطق أخرى ترخص فيها المقابر.
بقي أنه وإن كان القفال والرازي – رحمهما الله – نقلا عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه البر من تكفين الموتى وغيرها، فإن المعتمد في المذاهب الأربعة أن تجهيزهم ليس من مصارف الزكاة، ولكن إن كان أولياؤهم فقراء فقد يعطون لفقرهم منها ثم لهم أن يجعلوا ذلك فيما شاؤوا.
وأما حرق جثث الموتى إن تعين سبيلًا لنجاة الأحياء، كما في الكوارث العامة وتسارع الموت في الناس وخشية هلاك الأحياء بترك جثث الموتى مع عدم القدرة على دفنهم، أو قطع الأطباء بالحاجة إلى حرق الموتى في وباء ما إنقاذًا للأحياء، فخلاصة القول فيه الإباحة لتلك الضرورة، وذلك لأن حرمة الميت وإن كانت كحرمة الحي (كما أشار إليه أهل العلم في تفسير حديث كسر عظام الميت)، لكن إن تعارضا، قدمت مصلحة الحي، فهو أولى، والمقصود من الحديث تبشيع المثلة لا تطابق الحقوق، وإلا فلا قصاص في كسر عظم الميت اتفاقًا ولا دية، وقد قال أبو بكر – رضي الله عنه – لأم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -: “الحي أحق بالجديد من الميت.” هذا وقد ذكر الفقهاء في كتب الفروع حالات من حالات الضرورة القصوى يجوز فيها للضرورة شق بطن الميت أو الميتة ويجوز فيها إحداث قطع في جسد الميت لضرورات يرجع إليها في كتب الفروع الفقهية فيقاس عليها هذه الضرورة لو حدثت.
وختامًا، فقد تسعى السلطات في بعض البلاد إلى سن قوانين تلزم بحرق الجثث، فإن حصل ذلك من غير تعينه سبيلًا وحيدًا لنجاة الأحياء، فالواجب عندها على المسلمين التعاون مع أصحاب الديانات الأخرى للحيلولة دون صدور تلك القوانين، فإن عجزوا، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله على محمد، والحمد لله رب العالمين.
(المصدر: مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا)