فتاوى تفسيرية (1)
الأستاذ الشيخ عبد الكريم الدبّان التكريتي
(للعلامة الأستاذ الشيخ عبدالكريم الدَّبَان التكريتي (1328-1413) -رحمه الله تعالى- “فتاوى” تبلغ (172) فتوى(1)، وهي غير مرتبة على الموضوعات، إنما دوَّنها الشيخُ على حسب ورود الأسئلة إليه، ومنها “فتاوى تفسيرية” تبلغ أربع عشرة فتوى.
وكان قد أهدى إليَّ نسخة مصورة منها بخطه -جزاه الله خيراً-.
وهذه الأسئلة كانت تحولها إليه إدارةُ مجلة التربية الإسلامية في بغداد، ثم تنشر الإجابات في المجلة المذكورة(2).
وقد رأيتُ من المفيد استخراجَها، وترتيبَها على حسب تسلسل الآيات المسؤول عنا، ونشرَها، تعميماً للفائدة، وإظهاراً لطريقة الشيخ في الفتوى والكلام على الآيات.
وهذه الفتاوى كانت ما بين سنة (1397) وسنة (1401).
وهي غير ما جاء في رسالته: “رسالة في التفسير على صورة أسئلة وأجوبة”، وهذه الرسالة متأخرة عن تلك. تلميذه عبدالحكيم الأنيس).
السؤال الأول:
قال اللهُ تعالى عن القرآن إنه {هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة:2] فما المقصودُ بالغيب في هذه الآية؟
الجـواب:
الغيبُ هو الذي لا يتناوله الحسُّ بالمشاهدة ونحوِها، ولا يدركُه العقلُ بالبداهة. وقد يدركُ العقلُ بعضَ ذلك بالاستدلال ولا يدركُ البعضَ الآخر، لأنَّ العقلَ محدود والغيبَ مطلق، ومن البديهي أنَّ المحدود لا يدرِك المطلق. وعدم إدراك الإنسان للأمور التي هي وراء محسوساته لا يدلُّ على عدم وجود تلك الأمور. وليس من الحقِّ القول بأنَّ عدم إدراك المجهول ينفي وجود ذلك المجهول.
قسمٌ من الغيب استأثر اللهُ تعالى بعلمه: قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}. وقال: {قل لا يعلم من في السموات ومن في الأرض الغيبَ الا الله}.
وقسمٌ آخر أخبر اللهُ به بعض رسله: قال تعالى: {عالم الغيب فلا يُظهِر على غيبه أحداً إلا من ارتضى مِنْ رسول}.
وقسمٌ آخر لا يُدرك بالحس ولا ببداهة العقل كما قلنا، لكن يُمكن أنْ يُدرك بالاستدلال إدراكاً إجمالياً، كالاستدلال بالموجودات على مُوجدها، وبوحدة التنظيم في أجزاء الكون، مِنْ أكبر جرمٍ الى جزيئاتِ أخفِّ ذرةٍ يُستدل بذلك على أنَّ مُوجدها واحد قادر عالم، إلى غير ذلك من الصفات الثابتة لله عز وجل.
والمؤمنُ بل كلُّ عاقل ينبغي أنْ يُؤمن بأنَّ هذا الكون الواسع الشاسع لم يُخلق عبثاً، وأنَّ ما يفعله الإنسانُ لا يذهب سُدىً وضَياعاً، وأنَّ هذه الحياة الدنيا ليستْ آخر المطاف، بل لابد مِنْ دارٍ أخرى فيها تلاقي كلُّ نفس جزاءَ أعمالها. (لها ما كسبتْ وعليها ما اكتسبتْ). (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره). (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى).
وأحوال الآخرة ونحوها كلُّها من الغيب.
***
السؤال الثاني:
في القرآن الكريم: {في كل سنبلةٍ مائةُ حبة} [البقرة:261]، فما المقصود بذلك، وهل حصل أنْ يكون في سنبلة واحدة مئة حبة؟
الجـواب:
قال الله تعالى: {مَثَلُ الذين يُنفقون أموالَهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبعَ سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم}. وهذا مثلٌ لمضاعفة ثواب النفقة في سبيل الله تعالى، وأنَّه يصل إلى سبعمئةِ ضعف. وقد ورد ما يصرح بذلك كما في صحيح مسلم: جاء رجل بناقة فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمئة ناقة. وللترمذي والنسائي: مَنْ أنفقَ نفقة في سبيل الله كُتبتْ له بسبعمئة ضعف.
ولا يُشترط في الممثَّل به أنْ يكون موجوداً في الواقع، بل يكفي أنْ يكون مفهوماً مقصوداً عند المخاطِب والمخاطَبين. قالوا في مدح بعض الأسخياء: جفنته جبلٌ مِنْ لحم. وقالوا: هذا كجبلٍ مِنْ زمرد وبحر مِنْ زئبق أو ذهب. ولو لم يكن ذلك موجوداً في الواقع.
وقبل مدة رأيتُ في “تفسير” لأحد المعاصرين -وهو أحمد مصطفى المراغي المصري- قال في 3/30 ما خلاصتُه أنَّ أحدَ مفتشي جمعية زراعية بمصر عثر في سنة 1942م على سنبلة فيها سبعٌ ومئةُ حبة، فعرضها على الاختصاصيين في حفلٍ جامعٍ فرأوا تلك السُّنبلة وعدُّوها عدّاً!
***
السؤال الثالث:
إنَّ الله تعالى ذكر في سورة النساء حصصَ الورثة ثم قال: {مِنْ بعد وصيةٍ يُوصى بها أو دَيْن} [12، فالذي نفهمه مِنْها تنفيذ الوصية أولاً وتسديد الدَّيْن ثانياً والتوزيع على الورثة ثالثاً. فكيف قال العلماءُ إنَّ تسديد الدَّيْن مُقدَّمٌ على الجميع؟
الجـواب:
أمّا السؤال فوارد، وقد بحثَ فيه العلماء.
وأمّا الترتيب الذي ذكره السائلُ فغير صحيح، ولا يُفهم من الآية الكريمة، إذ ليس فيها إلا ترتيب واحد وهو تأخير الإرث عن الوصية والدَّيْن معاً. أي إنَّ توزيع السهام على الورثة لا يجوز إلا بعد الانتهاء مِنْ أمرين: تنفيذ الوصية إنْ كان الميت قد أوصى بشيء وتسديد الدَّيْن إنْ كان الميت مديوناً.
الحق أنَّ هذا الجواب وحده يؤدّي بنا إلى نتيجةٍ وهي جواز تنفيذ الوصية قبل تسديد الدَّيْن، وجواز العكس. وهذا ما تفيدُه كلمة (أو). ولكن المطلوب إثباته هو وجوب تسديد الدَّيْن أولاً.
للتدليل على ذلك نقول: أجمع علماءُ المسلمين سلفاً وخلفاً على تقديم تسديد الدَّيْن، لأنَّه حق ثابت ومطلوبٌ تسديده مِنْ مال المدين حياً كان المدين أم ميتاً، وطوعاً أم كرهاً. فإذا مات شخصٌ وتركَ مالاً وعليه دَيْنٌ يستغرقُ جميع ماله وجب دفعُه إلى الدائن. ولو نفذنا الوصية قبله، أو وزعنا على الورثة لأدّى ذلك إلى حرمان صاحب الحق مِنْ حقه، وهذا مخالفٌ لما أمر الله به.
وقد استدل بعضُ المفسّرين على تقديم الدَّيْن بما روى الترمذي أنَّ رسول الله قضى بالدَّيْن قبل الوصية. لكنَّ الترمذي نفسَه قال: إنَّ هذا الحديث لا يُعرف إلا مِنْ طريق شخص طعن فيه بعضُ أهل العلم. وابن كثير في “تفسيره” 1/459 ذكرَ الحديث ونقل كلام الترمذي فيه، ثم قال عن الشخص الذي طعنوا فيه: إنَّه كان حافظاً للفرائض مُعتنياً بها وبالحساب اهـ ولا يخفى أنَّ كلام ابن كثير هذا لا يعتبر تعديلاً للشخص.
وقال صاحبُ “نيل الأوطار” عن الحديث المذكور: إنه وإن كان إسنادُه ضعيفاً، لكنه معتضد بالاتفاق الذي سلف اهـ 6/168 يقصد اتفاقَ العلماء على تقديم تسديد الدَّيْن.
أمّا سببُ ذكر الوصية قبل الدَّيْن في الآية، فالظاهر أنَّ الدَّيْن لما كان مفروغاً مِنْه مِنْ حيث وجوب تسديده، وأنَّ الوصية نوعٌ من التبرع، فلئلا يتساهل الورثةُ في تنفيذها قدَّمها الله سبحانه على الدَّيْن، وعطف الدَّيْن عليها بأو ليدلَّ -والله أعلم- على أنَّها واجبةُ التنفيذ كالدَّيْن.
***
السؤال الرابع:
قال الله تعالى في سورة النساء: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والذين مِنْ بعده} [163] فلماذا لم يذكر الذين من قبل نوح؟
الجـواب:
قال العيني في “عمدة القاري” 1/16: فإنْ قلتَ: لمَ خصص نوحاً عليه السلام ولم يذكر آدم مع أنَّه أول المرسلين؟
قلتُ: أجابَ عنه بعضُ الشرّاح بجوابين:
الأول: أنَّه (أي نوحاً) أول مشرّع عند بعض العلماء.
الثاني: أنَّه أول نبي عُوقب قومه. فخصصه تهديداً لقوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفيهما نظر:
أمّا الأول فلا نسلِّمُ أنَّه أول مشرّع، بل أول مشرّع هو آدم عليه السلام ، ثم قام بالأمر بعده شيث عليه السلام. وكان نبياً مرسلاً. وبعده إدريس عليه السلام .
وأمّا الثاني فشيث أول مَنْ عُوقب قومه بالقتل.
والذي يظهر لي من الجواب الشافي أنَّ نوحاً عليه السلام هو الأب الثاني، وجميع أهل الأرض مِنْ أولاده، لقوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين}. انتهى كلامُ العيني.
أقول: إنَّ الذي اختاره العينيُّ فيه نظرٌ كذلك، لأنَّ كون نوح هو الأب الثاني لا يتضح به سببُ عدم ذكر مَنْ قبله. وعلى كلٍّ فالذي بقي للناس بعد الطوفان إنما هو شرع نوح فقط وفي ضمْنِه ما أوحى الله للذين مِنْ قبله، فإنه إنما وصلهم عن طريق ما أوحى الله به إلى نوح. ولهذا خُصّص دون مَنْ كان قبله في قوله تعالى: {شرع لكم من الدِّين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا اليك، وما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى أنْ أقيموا الدِّين ولا تتفرقوا فيه}.
وليس المرادُ بالآية المذكورة في السؤال وجوبَ الإيمان بما أنزل على نوح ومَنْ بعده دون الإيمان بمن قبله، فإنَّ الإيمانَ بالجميع واجبٌ. قال تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل مِنْ قبلك}. وهذا يشمل ما أنزل على نوح ومَنْ بعده كما يشمل ما أنزل على مَنْ كان قبله.
والظاهر مِنْ قوله تعالى {كما أوحينا إلى نوح} هو التشبيه، أي تشبيه الوحي إلى نبيِّنا بالوحي الى نوح ومَنْ بعده من المرسلين صلواتُ الله عليهم أجمعين. ولعل طريقة الوحي إلى نوح ومَنْ بعده لا تشبهُ طريقة الوحي إلى مَنْ قبله، ولم أجدْ مَنْ أشارَ إلى هذا. والله سبحانه أعلم بالصواب.
يتبع
1 ثم أضاف إليها ثلاث فتاوى.
2 الفتاوى الثلاث الأخيرة لم تُنشر.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)