فتاوى التطبيع
يناقش هذا المقال: طبيعة فتاوى التطبيع مع الكيان الصهيوني، والمؤسسة الدينية الصادرة عنها مثل هذه الفتوى..
وشرعية نظم الحكم في بلادنا الإسلامية، والقيمة السياسية للفتوى، ومقومات الفتوى الصحيحة، وكيف تستقيم الفتوى؟
في تاريخ تَطبيع العلاقات مع دولة بني إسرائيل (الكيان الصهيوني) كانت تظهر فتاوى تُجيز هذا التطبيع، تحت مسميات شرعية كـ “الصلح” وتبحث في الشريعة الإسلامية عن مسوغات لهذه الفتوى.. ومن الفتاوى التي ظهرت تُجيز هذا التطبيع (الصلح) ـ أو يُفهم منها هذا المعنى أو تحوم حوله ـ فتوى:
- مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر حسن مأمون بتاريخ ( 08 / 01 / 1956م) حيث كان يُعد لخطة سلام بوساطة أمريكية بين مصر وإسرائيل نهاية عام (1955م).
- مفتي الديار المصرية جاد الحق علي جاد الحق بتاريخ (26 / 11 / 1979م) بعد توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل.
- مفتي عام المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز عام (1995م) إبان اتفاقيات أوسلو.
وعندما يتغير مزاج النظام الحاكم كنت تظهر فتاوى أخرى تُحرّم هذا التطبيع، تحت مسميات “المقاومة والجهاد” ومن ثم تبحث في الشريعة الإسلامية عن مسوغات لهذه الفتوى.
فالتحليل والتحريم في مثل هذه الأمور كان ـ ومازال ـ يتحكم فيه النظام الحاكم، وحسب طبيعة العلاقات الدولية، وحسابات السياسة، فإن كان المزاج مزاج سلام، وتُحضر له القوى العظمى، وتشارك فيه دولة ما.. فستتحرك “المؤسسة الدينية” لإسباغ “شرعية دينية” على فتوى التطبيع مع (الكيان الصهيوني)، وإذا كان المزاج مزاج مقاومة وغضب، ويريد النظام السياسي كسب شعبية، وشرعية؛ فستتحرك المؤسسة الدينية لإسباغ شرعية دينية على المقاومة وتحريم التطبيع!
طبيعة المؤسسة الدينية في بلادنا
المؤسسة الدينية في بلادنا مؤسسة غير مستقلة، وغير حرة الرأي، وهي جزء ـ لا يتجزأ من النظام الحاكم ـ وهي كجهاز الأمن والشرطة، تتحرك وفق التوجيهات والأوامر الصادرة من النظام الحاكم، ولا تملك الاختلاف عنها، أو حتى مجرد الحياد.. فلا بد أن تكون “خادماً مطيعاً” يؤدي دوره الديني، وتدور مع رغبات النظام الحاكم حيث دار، وكل دورها يتلخص في مهاراتها في استخراج أدلة التحليل والتحريم، وإضفاء الطابع الديني الرسمي عليها، فإذا جاء الأمر من النظام بتحليل شيء ما؛ يكون دور المؤسسة الدينية هو استخراج أدلة لتحليل هذا الشيء، وإمضاء العلماء الرسميين عليه، وإذا جاء تحريم شيء؛ يكون دور المؤسسة الدينية هو استخراج أدلة لتحريم هذا الشيء، وإمضاء العلماء الرسميين عليه!
فالفتوى الرسمية ـ خاصة فيما يتعلق بالأمور السياسية أو التي تأخذ طابعاً سياسياً ـ تابعة للنظام الحاكم، وليس العكس.
ومن العلماء الدينيين من يسلك السبيل العلماني في مناقشة قضايا الأمة المصيرية؛ ففي سؤال التطبيع ـ مثلاً ـ يكون الجواب: لا يحق لك أن تسأل مثل هذا السؤال؛ فهو موكول لولي الأمر! في فصلٍ واضح بين الدين والسياسة؛ وتخدير الأمة عن القيام بمهمتها وتعبِيدها بشكل تام لكل طاغية جبار عنيد!
ولا عذر لهذه المؤسسة لسقوط وعيها السياسي، وغفلتها وسذاجتها عن رؤية الواقع الحقيقي، وتورطها لتكون المُحلل للباطل والبغي والعدوان. ولا ننكر وجود الصادقين الأمناء فرادى بينهم.
طبيعة النظم الحاكمة في بلادنا
النظم الحاكمة في بلادنا ساقطة الشرعية.. سواء الشرعية الإسلامية، أو الشرعية الوطنية، فهي أنظمة خائنة لدينها ولأوطانها، وهي تابعة للمُحتل الذي أنشأ هذه الدول، وقسمها ووضع لها دستورها وأعلامها ونظم حكمها وقوانينها.. وتحولت هذه الأنظمة إلى “عصابات مافيا” ـ أو هي هكذا منذ اليوم الأول ـ تسترق الشعوب وتستعبدهم.. فتسرق حقوقهم وثرواتهم، وتُهين كرامتهم وإنسانيتهم..
فلا هي تكتسب شرعيتها (الإسلامية) من الدفاع عن الدين والأمة، ولا هي تكتسب شرعيتها (الوطنية) من الدفاع عن الوطن والحفاظ على ثرواته وتحقيق رفاهية وحقوق مواطنيه.. بلا على العكس من ذلك، فهي “أنظمة مُعادية” على كل الأصعدة، مُعادية للدين ـ الذي يَلعن ويُعلن الحرب على ظلمها وبغيها وعدوانها ـ ومُعادية للوطن الذي تسرق ثرواته، وتَستعبد مواطنيه.
وهذه الأنظمة جمعت كل صفات المنافقين المذكورة في القرآن الكريم، ومنها:
- الإفساد في الأرض: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة (11)]
- الاستكبار والغرور: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة (13)]
- الدجل والرياء والكذب: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة (14)]
- التولي عن الدفاع عن الأمة ومجاهدة أعدائها: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران (167)]
- موالاة الكافرين والتماهي معهم: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَۚ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء (138، 139)]. ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌۚ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة (52)]
- إرادة الفتنة وإفساد صفوف المؤمنين وخيانتهم: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة (47)]
- الفرح في مُصاب المؤمنين: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْۖ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ [التوبة (50)]
- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْۚ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة (67)]
- الشح والبخل على المؤمنين ونقض العهود: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة (76، 77)]
- انغلاق قلوبهم عن تدبر آيات الله والاهتداء بها: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًاۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة (124، 125)]
***
فتاوى التطبيع والمقاومة
وإذا كانت هذه طبيعة نظم الحكم، وطبيعة المؤسسة الدينية (الذليل التابع للنظام) فلا قيمة شرعية لما يصدر عنهما.. سواء جواز التطبيع (الصلح) أو جواز المقاومة! لأنها بلا شرعية ابتداء؛ ولأن الفتوى صدرت بالأساس ليس من أجل رضى الله واتباع سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتزاماً بأحكام الشريعة.. بل من أجل “رغبة سياسية” للنظام الحاكم.. والنظام يَمضي فيما اختاره لنفسه.. ثم ـ للترتيب ـ يتصل بالمؤسسة الدينية.. (يأمرها) باستخراج الفتوى المناسبة لمزاجه السياسي الحالي! وترويض المتدينين من الشعب عليها.
***
الكيان الصهيوني اليهودي
الكيان الصهيوني: هو كيان معادِ للأمة والدين، وقد أنشأه المحتل البريطاني، ووضعه في بلادنا لغاية إفسادها وإضعافها.. وتم ذلك بمساعدة بعض “الجيوش العربية” التي خانت دينها وأوطانها، وسلّمت نفسها للمحتل المعادي الغاصب..
يتمثل في هذا الكيان كل معاني الشرور والإفساد والعدوان؛ فهم أشد الناس عداوة للمسلمين.. ويبغونهم الفتنة ونشر الفساد والإباحية والربا والخراب، من أجل استحمار الشعوب وتسخيرها لخدمتهم، كما تقول كتبهم المقدسة!
وتقوم الأنظمة الحاكمة في بلادنا بخدمة هذا الكيان بكل إحسان وإخلاص وحب! ويعتبر الصهاينة اليهود إنَّ حكام بلادنا هم “كنزهم الاستراتيجي” بل صرّح أحد كبراء الصهاينة إن مِن حكام بلادنا من هو صهيوني أكثر منهم، ومُخلص لدولة بني إسرائيل أكثر من الإسرائيليين أنفسهم! بل هناك من حكام بلادنا من تبرع بمئات الملايين من الدولارات دعماً للصهاينة ودولتهم ـ كما جاء في بعض الوثائق المسربة ـ ويتقرب الحكام إلى القوى العظمى بحب وخدمة الكيان الصهيوني، فمنهم يستمدون شرعية الحكم والبقاء!
ومن هذا البيان تبدأ عملية استقامة الفتوى، وتتشكل مقوماتها الصحيحة:
- قبل السؤال عن جواز التطبيع من عدمه، أو حتى المقاومة.. لا بد من بيان شرعية نظم الحكم في بلادنا، وبيان إنها جزء لا يتجزأ من الكيان الصهيوني، ولو لم تكن جزءاً منه، فليست هي أمينة على التعاطي معه سلماً أو حرباً! فمثلاً: عندما اختارت مصر قرار الحرب مع الكيان الصهيوني في حرب (1973م) وحققت نصراً مبدئياً في بداية الحرب.. تحول النصر إلى هزيمة عسكرية بـ (موقعة الثغرة) وهزيمة سياسية بـ(اتفاقية كامب ديفيد) التي استسلمت فيها مصر، وقبِلت بشروط لا يقبل بها المنهزم!
ولما حصل السلم: تنازلت مصر عن حقوقها في الغاز وباعته للكيان الصهيوني بأبخس الأثمان، ثم اشترته منه بأغلى الأثمان.. وسعى الصهاينة في مصر واقتصادها وزراعتها فساداً من كل نوع، فهي خيانة ـ مِن نظم الحكم ـ في السلم والحرب سواء. - الشرع هو القائد وليس العكس: فالشرع هو الذي يُستفتى أولاً ثم تكون الحركة ثانياً.. هو الذي يوضح لنا الطريق، ويُنير لنا الظلمات، ويضع لنا المعالم والإشارات، وليس هو خادم لأحد، بل الجميع في خدمة الدين والشرع.. النظام والمجتمع، الفرد والدولة.
والعلماء الذين ينتسبون إلى الشريعة، والمؤسسة التي تخدم هذا الشرع، هي مؤسسة مستقلة تماماً لا تتبع النظام الحاكم، ولا تدور معه حيث دار.. بل هدفها الأوحد الانتصار للدين والشرع وحده، والتبليغ الصادق لرسالة الله، والانتصار لحقوق المسلمين جميعهم. - الشرع يُفرق بين الجماعات الدينية، والجماعات المحاربة المحاداة لله ورسوله بالعدوان على دينه وأمته.. فالجماعات الدينية أياً كان انتمائها وملتها ومذهبها مكفولة الحقوق والحريات، والإسلام لا يُعادي أبداً ما يُسالمه من الملل المختلفة، بل هو يدعو إلى السلم ويجنح له.. أما الجماعات المحاربة المعادية لنا في الدين، وفي الأرض، وفي الحقوق كـ (الكيان الصهيوني) فالإسلام يدعو إلى محاربته بكل صور الحرب، ودفعه بكل صور الدفاع، وتحريم موالاته وحبه والتعاون معه، ويجعل هذه الموالاة من “أعمال الكفر” فهذا الفعل يستحيل أن يخرج من قلب يُحب الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعتبر ذلك “خيانة عظمى” للدين وللأمة.
- الهدنة والصلح والجهاد: كل هذه الأحوال جائزة ومُمكنة في الشرع الحنيف.. شرط أن تصدر أولاً عن أنظمة لها شرعية إسلامية، وتدافع عن الدين بحق، وتنتصر للأمة وحقوقها بصدق، وليس عن أنظمة مجرمة خائنة تبغي الفساد في الأرض، وأشد وحشية وبغي وعدوان من الصهاينة اليهود أنفسهم!
مع التأكيد على إنَّ هذا الكيان الصهيوني منذ اليوم الأول لقدومه بلادنا لا يريد هدنة ولا صلحاً ولا سلاماً.. بل يريد الاستسلام التام والخضوع وخدمة بني إسرائيل هكذا يعتقد، وهكذا يمارس السياسة والحرب، فلو كان لنا رغبة في السلام والصلح والهدنة فهو لا يريدها ولا يقبل بها، بل يريد الهيمنة التامة على الشعوب. وما يجري من التطبيع الآن، هو من أجل: محو رغبة الشعوب في مقاومة دولة بني إسرائيل، وتذويب أي حواجز نفسية وتاريخية معه؛ من أجل مزيد من الإفساد وتدمير الأخلاق واستحمار الشعوب. - الإسلام يرفض الضعف والاستسلام: فهو يريد العزة والريادة لدينه ولأمته: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد (35)] فالسلام مع الإهانة والذلة والضعف غير مقبول، بل يدعو الإسلام إلى إعداد العدة، وتجهيز القوة، والاستنفار العام، والتحفز لما سيظهر ـ بكل تأكيد ـ من عدوان المعتدين، والبدء بهم عند مظنة النصر، والصلح والهدنة إن كان فيه خير للإسلام والمسلمين، مع ضمان الردع، فالتفاوض السياسي والمصالحات تتشكل بناءً على قوتك العسكرية والاقتصادية وليس بناء على الحقوق والعدالة.. فأي تفاوض بدون قوة عسكرية، هو أوضح معاني الاستسلام والانهزام.
وحتى هذا الصلح ـ إن تهيئت أسبابه ولا أظنها ممكنة مع كيان شديد العداء والإفساد ـ لا يعني “التطبيع” الذي هو ذوبان “الشخصية المسلمة” وضياع هويتها وصبغتها.. وإعانة المعتدي ـ الراسخ العدوان ـ على الدين والأمة، وكشف عوراتها وتسليمها له! وهذا ما يقصده اليهود ومن والاهم.. وهم يرفضون الصلح الذي فيه نِدية، وعزة، وقوة.
إنَّ الكيان الصهيوني يستهدف هذا التطبيع منذ مجيئه، وهو في عرفهم يعني (الخدمة والدفاع عن دولة الصهاينة، وحبهم، والإحسان إليهم)، وقد نجحوا في التطبيع مع الأنظمة الحاكمة في بلادنا سراً وعلناً من قديم..
وأم الهدف الجديد هو: التطبيع مع الشعوب؛ من أجل خدمتهم لبني إسرائيل واستحمارهم، وإذ تمضي بعض الأنظمة الخليجية والعربية في ذلك.. فستظهر نوعية الفتاوى التي تُجيز التطبيع، ووضع إمضاء وتوقيع العلماء الرسميين المشهورين عليها، ويجب علينا أن لا ننشغل كثيراً بفحوى الفتوى وأدلتها، ونجهد أنفسنا في نقاشها، وبيان عوارها.. لأنها ابتداء لا قيمة حقيقية لها، والأولى بالبيان والجهاد هو: تلك الأنظمة الفاسدة المتجبرة العنيدة، التي تخدم بني إسرائيل بحب، وتعينهم بقوة، وتتودد لهم بإخلاص.. وتُسلم لهم الدين والأمة.
***
ونختم بكلمات الباحث اليهودي الإسرائيلي إسحاق رايتر.. فيقول في خلاصة بحثه في (فتاوى السلام مع إسرائيل): “منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية ونشوء الدول الوطنية العربية (وغير العربية- تركيا وإيران) في القرن العشرين، لم تعد الديانة الإسلامية تلعب دور المحرك المركزي للوعي، وفُرض عليها التنافس مع الأيديولوجيات القومية العلمانية على ساحتها الداخلية. حافظت دساتير الدول العربية التي قامت في القرن العشرين على مكانة محترمة للشريعة الإسلامية كمصدر تشريعي أو كمصدر للإلهام. إلا أن مشروع الدولة الوطنية المدنية والتشريعات البرلمانية آخذة بالابتعاد شيئاً فشيئا عن الشريعة التقليدية. ظل البند الذي يتناول الشريعة في الدستور، في بعض الدول وليس في جميعها، ليس أكثر من ضريبة كلامية…
يمكن تعريف الخطاب الرائج اليوم في العالم الإسلامي، ومواقف رجال الدين، كعملية فصل بين التيار الإسلامي المتشدد، الذي يسعى إلى تغيير قواعد اللعبة وإلى تبديل الحكام في الدول التي يقودها زعماء واقعيون، والتيار الواقعي، الذي يسمى أحيانا بالليبرالي، وهو يعرض مواقف أكثر اعتدالا، تأثرت بالثقافة الغربية…
ولكن على الرغم من تراجع مكانة الشريعة الإسلامية، كمركز للحياة العامة في العالم الإسلامي المعاصر، ما زال من المبكر تأبينها، فثمة قطاعات واسعة من الناس في كثير من الدول العربية تتعاطف مع حركات “الإخوان المسلمين”، ومع حركات الإسلام الأصولي، ضد النخب الحاكمة. ولهذا السبب تُستخدم الشريعة الإسلامية من كل من المعارضة والسلطة، التي تسعى إلى تقليص حجم القانون الديني كمصدر لإضفاء الشرعية على نشاطاتها وأيديولوجياتها…
الوثيقة الأكثر أهمية التي تبرر السلام مع إسرائيل في ظروف معينة، هي الفتوى التي أصدرها مفتي الديار المصرية، جاد الحق علي جاد الحق، الذي قدم دعائم شرعية لمعاهدة السلام التي عقدتها مصر مع إسرائيل في شهر آذار عام 1979…
وفي النهاية يُطرح السؤال: ما الحاجة إلى فتوى تدعم عقد اتفاقية السلام بين الدول العربية الإسلامية ودولة إسرائيل؟ بكلمات أخرى: لماذا يحتاج الحكام المسلمون إلى مفتين في الشريعة الإسلامية من أجل التأكيد على مشروعية سياساتهم، في حين أقرتها الهيئات السيادية الشرعية للدولة؟ الرئيس المصري أنور السادات، والحسين ملك الأردن، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، الذين وقعوا، كل بدوره، على اتفاقيات سلام مع إسرائيل، بادروا إلى خطوة سياسية حازت على مصادقة هيئاتهم السياسية. لم يكن الدعم الرسمي عن طريق فتوى يصدرها علماء الدين مطلوبا في حينه من الناحية القانونية الشرعية، ولكنه تبين على الرغم من ذلك أنه بسبب الهجوم الذي شنته أوساط الإسلام الأصولي بالذات، ثمة حاجة ماسة لفتوى شرعية تدعم أعمال الحاكم. تعتبر الشريعة الإسلامية قاعدة ثقافية مقبولة في المجتمع العربي الإسلامي. لذلك، ومن أجل مواجهة الأطراف المتشددة الأصولية، يتعين على الحاكم “التحدث بلغتهم”، وهي لغة الشريعة. في هذا السياق، ثمة أهمية كبيرة، على المستوى الإعلامي، للفتوى التي تقدم الدعم لموقف الحاكم وتضفي الشرعية على سياسته، وقد أريد منها أن تليّن وتقلص معارضة الجماهير لعقد معاهدات السلام مع إسرائيل، ولكي يصبح بالإمكان إقامة علاقات طبيعية معها بعد التوقيع على الاتفاقية.” [الحرب والسلام والعلاقات الدولية في الإسلام المعاصر: فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل – إسحاق رايتر – معهد القدس لأبحاث إسرائيل، 2014، ص172: 177].
(المصدر: موقع البوصلة)