مقالاتمقالات مختارة

فائدة التاريخ في حفظ الدين

فائدة التاريخ في حفظ الدين

بقلم محمد إلهامي

كان حفظ الدين هو الغاية الأولى التي نشأ لأجلها علم التاريخ في الإسلام، ومنه نشأت علومٌ جمَّةٌ في القرآن والسُّنة كالناسخ والمنسوخ الذي نعرف به كيف تدرج شأن الشريعة وأحكامها، وعلم الرجال والجرح والتعديل الذي حُفِظت به السُّنة، فضلاً عن سائر ما نعرفه عن السيرة والمغازي والفتوح الذي هو صلب موضوع التاريخ، وبه صارت سيرة النبي ثم سيرة أصحابه أصحُّ سيرة لرجل في التاريخ، إذ نُقلت إشاراته وحركاته وبسماته وصفة صلاته وحجه على أدق ما هو ممكن.

لهذا، قال خليفة بن خياط (ت 240هـ) في أول عبارة في تاريخه: «هذا كتاب التاريخ، وبالتاريخ عَرَفَ الناسُ أمْرَ حجِّهِم وصومِهم وانقضاء عِدَدِ نسائهم ومحلّ ديونهم»(1)، وقال الطبري (ت 310هـ) في مطلع كتابه: “ليَصِلوا بذلك إلى العلم بأوقات فروضهم التي فرضها عليهم في ساعات الليل والنهار والشهور والسنين من الصلوات والزكوات والحج والصيام وغير ذلك من فروضهم وحين حلّ ديونهم وحقوقهم”(2).

ولما أفرد الصفدي (764هـ) فصلاً لفوائد التاريخ لم يأت فيه بغير أمثلة من التزييف المؤثر في حفظ الدين لولا أن استعمل العلماء التاريخَ لكشفه ودحضه(3)، ووضع السخاوي (ت 902هـ) تعريفه للتاريخ على أنه “الوقت الذي تُضْبَط به الأحوال من مولد الرواة والأئمة، ووفاةٍ وصحةٍ وعقلٍ وبدنٍ ورحلةٍ وحجٍّ وحفظٍ وضبطٍ وتوثيقٍ وتجريحٍ، وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة”(4)، ونلاحظ في تعريف السخاوي أنه اهتم بتواريخ الرواة قبل اهتمامه بالحوادث التاريخية، كما أنه حين تحدث عن فائدة التاريخ ذَكَرَ أوَّلَ ما ذَكَر “معرفة الأمور على وجهها، ومن أجلِّ فوائده: أنه أحد الطرق التي يُعلم بها النسخ في أحد الخبرين المتعارضين المتعذر الجمع بينهما”(5)، وضرب العديد من الأمثلة.

من مقاصد العناية بالتاريخ عند المسلمين فهم الدين وضبطه وحفظه

من هنا يظهر مقصد المسلمين في التاريخ، وأن أول مقاصده فهم الدين وضبطه وحفظه، ولا يفهم أكثر المؤرخين المعاصرين هذا المعنى، إذ يحسبون أن هذا المجال إنما هو مجال بحثٍ دينيٍّ فحسب، بل ربما أدانوه واعتبروا أنه نوعُ من تحقيرٍ للتاريخ عند علماء المسلمين وتضييق لمجاله(6)، وليس الأمر كذلك، ولكن هؤلاء غفلوا عن معنى التاريخ عند المسلمين وعن فائدته في حفظ الدين.

وقد حقق المسلمون هذا المقصد، واستثمروا هذه الفائدة على خير وجه، بل لم تصل أمةٌ من الأمم لمثل ما وصلوا إليه من الحفظ والضبط والدقة، إذ هذه العلوم التي استقلَّتْ -كعلم الرجال والطبقات والعلل والجرح والتعديل- لم توجد عند أمة أخرى، وبذلك كان مجمل التاريخ الإسلامي أصح التواريخ الإنسانية(7)، ولا سيما صدره الأول الذي هو زمن النبوة والخلافة الراشدة والقرون الأولى، إذ تاريخ الصدر الأول هو من الدين، فنحن أمة بعض دينها تاريخ وبعض تاريخها دين! وسنعود إلى الكلام عن أثر هذا الأمر في نشأة وتطور علم التاريخ لدى المسلمين فيما بعد.

ولقد بدأت محاولات تزوير التاريخ للطعن في الدين مبكراً منذ صدر الإسلام، وهي مستمرة حتى اليوم، وكثيراً ما كانت الوسيلة المباشرة لكشف هذه المحاولات والتصدي لها هي معرفة التاريخ كما قال سفيان الثوري: “لما استعمل الرواةُ الكذبَ استعملنا لهم التاريخ”(8)، وكما قال حماد بن زيد: “لم يُسْتَعَن على الكَذَّابين بمثل التاريخ”(9)، ومن أمثلة ذلك(10):

1- أن رواياً اسمه أبو المعلى بن عرفان روى في مجلس أبي نعيم رواية عن معركة “صفين” لفَّق لها إسناداً، فقال فيها: “خرج علينا ابن مسعود بصفين”، فقال أبو نعيم: “أتراه بعث بعد الموت؟!”(11)، وذلك لأن ابن مسعود توفي في خلافة عثمان قبل معركة صفين، فانكشف بذلك كذبه.

2- زَوَّرَ يهودٌ من أحفاد يهود خيبر وثيقة على النبي تقول بأنه يعفيهم من الجزية، وجاؤوا بها إلى الوزير أبي القاسم بن مسلمة، فاستدعى الوزيرُ الحافظَ الخطيبَ البغدادي فنظر فيه “فقال: هذا كذب، فقال له: وما الدليل على كذبه؟ فقال: لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر، وقد كانت خيبر في سنة سبع من الهجرة، وإنما أسلم معاوية يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس”(12).

3- زعم المستشرق اليهودي الشهير “إجناس جولدزيهر” أن حديث “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد” إنما هو من وضع الإمام الزهري، وأنه وضعه لرغبة عبدالملك بن مروان في صرف الناس عن عبدالله بن الزبير ضمن الصراع المحتدم بينهما، إذ كان عبدالملك يحكم الشام وفيها بيت المقدس، وكان ابن الزبير يحكم مكة، وقد ردَّ عليه العلماء المعاصرون بأن الزهري لم يلق عبدالملك إلا عام 80 أو 82هـ؛ أي بعدما انتهى الصراع بينه وبين ابن الزبير، مما يثبت بجلاءٍ كذبَ “جولدزيهر” وتزويره(13).

4- زعم نصر حامد أبو زيد أن الشافعي إنما كان متعصباً للعرب والعربية، وهذه خلاصة مشروعه العلمي الذي أراد به التأسيس للعصبيةِ العربيةِ ورأيِ أهل الحديث ضد أهلِ الرأي، وكان من ضمن ما قاله نصر أبو زيد أن الشافعي كان متعاوناً مع الدولة الأموية المتعصبة للعرب، ولما ردَّ عليه الباحثون المعاصرون ذكَّروه بأن الشافعي وُلِد بعد انهيار الدولة الأموية بثمانية عشر عاماً(14).

إن بعض الأمور تكون أخفى من هذا وتحتاج فحصاً وصبراً، مثلما فعل د. إبراهيم عوض حين أثبت سرقة طه حسين فكرته عن الشعر الجاهلي من المستشرق “صمويل مرجليوث”، فقد تتبع د. إبراهيم إنتاج طه حسين وتناوله لمسألة الشعر الجاهلي فيه، وأثبت أن التحوّل في رأيه لم يحدث إلا بعد صدور دراسة “مرجليوث”(15)، وكانت مسألة الشعر الجاهلي مدخلاً لـ”مرجليوث” ثم لطه حسين للتشكيك في القرآن، لأنهما زعما أن المسلمين اخترعوا الشعر الجاهلي ونحلوه لأسماء الشعراء الجاهليين.

وبعض الأمور تكون مفضوحة للغاية، مثلما فعل إعلامي مصري قبل سنين قليلة من الزعم بأن جماعة الإخوان المسلمين هم من أسقطوا الأندلس! فأهدر بذلك أربعة قرون بين الأندلس وبين نشأة الجماعة!

والخلاصة المقصودة أن الفائدة الأولى لعلم التاريخ كما نشأ ونما في الإسلام كانت حفظ الدين ونقله بالعناية والضبط والدقة التامة، ومن ثَمَّ كان التزوير في تاريخ الإسلام عسيراً ومفضوحاً.

 

 

 

______________________________________________________________________________________

(1) خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق: د. أكرم العمري، ط2 (دمشق – بيروت: مؤسسة الرسالة، 1397هـ)، ص49.

(2) الطبري، تاريخ الطبري، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1407هـ)، 1/12.

(3) الصفدي، الوافي بالوفيات، 1/55، 56.

(4) السخاوي، الإعلان بالتوبيخ، ص18.

(5) السخاوي، الإعلان بالتوبيخ، ص19.

(6) انظر مثلاً: حسين مؤنس، التاريخ والمؤرخون، ص29، 30، 35؛ وجاء مثل ذلك في مقدمة روزنثال للسخاوي (ص8) وهو منه غريب لأن روزنثال فضلا عن رسوخه وسعة علمه فقد كان منتبها للمقصد الديني للتاريخ عند المسلمين وسجَّله بوضوح، وأغلب ظني أن روزنثال تفطن لهذا المقصد أثناء تأليفه كتابه «علم التاريخ عند المسلمين» وليس قبل ذلك، لذا صرَّح به في مواطن وصرَّح –أو ألمح- بعكسه في مواطن عديدة أحسبه لم ينتبه لإصلاحها جميعا.

(7) انظر: ابن حزم، رسالة في مراتب العلوم، ضمن: رسائل ابن حزم، 4/74، 75.

(8) ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال، 1/169.

(9) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، تحقيق: د. بشار عواد معروف، ط1 (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2002م)، 8/339. وفيه أن القائل «حسان بن زيد»، وأغلب الظن أنه «حماد بن زيد» لأمور يضيق المقام عن بيانها.

(10) للمزيد من الأمثلة، انظر: السخاوي، الإعلان بالتوبيخ، ص19 وما بعدها.

(11) صحيح مسلم، المقدمة، 1/26.

(12) ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري، ط1 (بيروت: دار إحياء التراث، 1988م)، 12/124.

(13) مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ط1 (دمشق: المكتب الإسلامي، 2000م)، ص245؛ محمد مصطفى الأعظمي، منهج النقد عند المحدثين، (مكتبة الكوثر، 1990م)، ص127 وما بعدها.

(14) محمد جلال كشك، قراءة في فكر التبعية، ط1 (القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، 1994م)، ص198 وما بعدها.

(15) د. إبراهيم عوض، نظرية طه حسين في الشعر الجاهلي سرقة أم ملكية صحيحة، نسخة إلكترونية، على الرابط:

https://archive.org/details/TAHAHUSSIEN

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى