بقلم د فتحي أبو الورد
على غرار ما عرف فى الحياة الاقتصادية والمالية بغسيل الأموال، أو تبييضها وهي جريمة اقتصادية تهدف إلى إضفاء المشروعية على أموال محرمة -أو ما يسمى بالأموال القذرة- جاءت من طريق فاسد مثل الغش والتزوير والتهريب ، وتجارة المخدرات والرقيق والأسلحة وغيرها، على غرار ذلك هناك من ينحو نفس النحو في المجال العلمي والتاريخي والإعلامي لتبييض الوجوه السوداء، أو لغسيل الشخصيات، فيعمد إلى شخصيات مستبدة جائرة ساءت سمعتها، وانتشرت سيرتها بالظلم والفساد، ليعيد تدويرها، ولتبدو كما لو كانت شخصيات إصلاحية، سعت للنهضة، وخطت نحو التقدم، وأسدت لشعوبها معروفا، أو العكس يفعل بالنسبة للشخصيات الإصلاحية بحق، فتسود الوجوه البيضاء، وتشوه الصفحات الناصعة، والمحصلة هى تخوين الأمين، ورفع الوضيع، وانقلاب المعتدل، واستقامة المقلوب، ولكن هيهات ، متى يستقيم الظل والعود أعوج؟
ويستخدم أصحاب هذه الأغراض الوضيعة لهذا الدور بعض المؤرخين والأذرع الإعلامية، أو ما اصطلح عليه فى الإعلام بالبلاك ميديا، أو ما أطلق عليهم قديما سحرة فرعون، لتسويق الأوهام ،وتصدير الأحلام، وترويج المعدوم، لغسل الأدمغة، والاستخفاف بالعقول، ومحو ذاكرة الأمة.
وقد يذكر بعضهم أن الدافع إلى ذلك هو الإنصاف والعدل، وسواء كانت سيرة هذه الشخصيات بعيدة الزمن أمثال الحجاج، أو قريبة حديثة أمثال مصطفى كمال أتاتورك، أو معاصرة تتربع على سدة الحكم على أنقاض جماجم المغدورين، وأجساد المقهورين.
يؤسفنى أننى رأيت من يحاول جاهدا تبييض وجه الحجاج تحت عنوان مستفز يقول فيه صاحبه: “الحجاج المفترى عليه ” وكأن أمثال الحسن البصري، وإبراهيم النخعى، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعاصم بن أبى النجود، وطاووس، وأبى عمرو بن العلاء، الذين اكتووا بنار الحجاج، وكذا شهادة عمر بن عبد العزيز فيه وغيرهم، كأن هؤلاء جميعا قد ظلموه، وافتروا عليه كذبا، حين أجمعوا على ظلمه، وجبروته، وسفكه للدماء، وإرهاب العلماء قبل العامة، وفرارهم منه ومن جنده خشية ملاحقتهم، وإذا لم نصدق معاصريه الذين عايشوا الأحداث، وشهدوا عليه، ممن اشتهروا بالعلم والدين والصلاح، من فقهاء الأمة، ومفسريها، ومحدثيه، وقرائها، وحكامها العادلين، فمن نصدق؟
وذكر بعضهم من محاسنه أنه قام بجهود إصلاحية عظيمة فى العراق، شملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية وغيرها؛ فأمر بمنع بيع الخمور، وإنشاء الجسور وحفر الآبار، وأنشأ صهاريج لتخزين مياه الأمطار، وأنجز بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واعتبر من أهم إنجازات الحجاج تعريبه للدواوين، ونجاحه في إصدار الدراهم العربية وضبط معيارها، وقيامه بإصلاح حال الزراعة في العراق، ويعتبر كذلك من أجلِّ الأعمال التي قام بها أمره بتشكيل المصاحف.
وبعض من ينتصرون للحجاج يقارنونه بحكام اليوم؛ فالحجاج كان أفصح الناس، حريصاً على اللغة العربية ، بينما بعض الحكام اليوم لا يستطيع أن يقرأ صفحة من ورقة مشكولة! والحجاج فتح البلاد الواسعة، وبعض الحكام اليوم يبيعها للكفار. والحجاج كان يقرأ القرآن كل ثلاث ليالٍ،، فيما يُحارب اليوم من يُعلم القرآن في بعض بلاد المسلمين، والحجاج مات ولم يترك إلا ثلاث مائة درهما، وبعض حكام اليوم يملك المليارات، والحجاج لم تتلطخ سمعته بالنساء والخمور، وأما في عصرنا فحدث ولا حرج.
وهذا خطأ منهجي في الاحتجاج، إنما نحتكم إلى قيم الإسلام وتعاليمه، ومدى التزام الشخصيات التي تنتمي إلى الإسلام به، وتطبيقها له، أما إذا كان هؤلاء يريدون أن يثبتوا بمقارنة الحجاج بحكام اليوم أنه أقل ظلما منهم، وأنه أفضل المستبدين، وأروع السفاكين للدماء، فأنا أتفق معهم، ولا حاجة للاسترسال في الاحتجاج.
ماذا استفادت الأمة من صلاح الحجاج المدعى، ومن قراءته للقرآن، ومن مواعظه على المنبر؟ يا ليته كان فاسدا فى نفسه، عادلا مع الرعية ! لكان الحال غير ذلك.
وماذا يقول هؤلاء عن العدل الذي تحياه شعوب الدول الأوربية، والحقوق التى يتمتع بها أفرادها ، فى ظل حكومات غير مسلمة، ورؤساء بعضها ملحدون، سيرتهم الذاتية زكمت الأنوف فجرا وسكرا وعربدة وانغماسا في الملذات؟
وما قيمة ما فعله الحجاج من إصلاحات مادية، إذا كان لا يعظم حرمة الإنسان، التي هي عند الله أعظم من حرمة الكعبة المشرفة؟
وما قيمة ما فعله بجوار سفكه للدماء البريئة، وقيام دولته على الإرهاب للرعية، وتكميم الأفواه، واختباء المعارضين له في السراديب؟
وما قيمة ما فعله بجوار غياب الحرية والعدل والأمن، إلا لمن والاه أو هادنه ، وارتضى سيرته، وأذعن لسيفه؟
وما نصيب الفتوحات التي ذكرت في عهده، من الإسلام الذي سينشره بينهم ويعرفهم به؟ هل هو دين الاستكانة والذل والتسليم للظالم؟
وماذا سيصدره للدول المفتوحة؟ وماذا سيعلمه للشعوب الداخلة في دين الله أفواجا؟
ولمن يشيد العمران؟ أليس للإنسان وسعادته وتكريمه؟ فماذا استفاد الذين عذبوا وقتلوا وسجنوا وهجروا بدون جريرة؟
وما الفرق بينه وبين زعيم إحدى الدول الشيوعية اليوم، الذي يناور مع أكبر دولة عسكرية فى العالم، وتمتلك دولته الكثير من القوة العسكرية عددا وعدة، وأحرزت تقدما علميا وحضاريا لا تخطئه عين، ولكنها دولة قامت على أنقاض حريات الناس ودمائهم، ونشر الرعب فى الشعب بين جنبات الأزقة والحوارى، ما الفرق بينه وبين مثل هذا الزعيم؟
لا أرى فرقا سوى أن الأول مارس الاستبداد والظلم وهو يقرأ القرآن، والثاني مارسه وهو يقرأ تعاليم ماركس وإنجلز.
كفانا تبييضا للوجوه السوداء!
المصدر: موقع الأمة.