غزوة تبوك.. خاتمة المغازي النبوية
بقلم أنس الرهوان
في شهر رجب من السنةِ التاسعة من الهجرة النبويةِ المباركةِ، قصدَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم تبوكَ بأصحابِه غازيًا في سبيلِ الله.
إن العربَ في جاهليَّتهم، والمسلمين في إسلامِهم، خصوصًا أهلَ السبْقِ والصحبةِ القديمةِ، قد عركَتْهم الحروبُ وأنضجَتْهم المعاركُ الطاحنةُ سنينَ عددًا، بل دهرًا طويلًا، وإن كان لِلمعاركِ في الإسلام شأنٌ مختلفٌ قليلًا، إذ كان الإيمانُ وإخلاصُ النيةِ للهِ في القتال عاملًا مؤثرًا تأثيرًا أساسيًّا في مسير المعركة زيادةً ونقصًا، وسلاحًا أمضى من السيوفِ القواطعِ بأيدي الشجعانِ إذا أحسن حمَلتُه القتالَ به، ويكفي تتبُّعُ المغازي والسرايا في عهْد النبوة لتبيُّنِ هذه الإشارةِ العابرة.
ولقد امتدَّ خطُّ الجهادِ في حياةِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّمَ امتدادًا مكثَّفًا في مدةِ عشرِ سنين، وكانت كلُّ مرحلةٍ من مراحل ذلك الامتدادِ تزيدُ المؤمنين قوةً وصلابةَ عودٍ، وتوهِنُ الكفْرَ والضلالَ في نفوسِ خصومِ الإسلام، الذين توافَدوا للدخول في دين اللهِ أفواجًا بعد أن فتَحَ الله على المسلمين مكةَ، حتى اجتمعَ جيشٌ قوامُه ثلاثون ألفَ مقاتلٍ، خرجَ بهم النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم إلى تبوكَ لقتالِ الرومِ ومَن شايَعَهم من نصارى العرب.
فكانت تلك الوجهةُ كأنها صدمةٌ لأفرادِ ذلك الجيشِ الهائلِ عددًا، الذي طالما صالوا في ميادينِ القتالِ وارتوتْ من جراحاتِهم أراضي الحروبِ، لم تكن تنقصُهم شجاعةٌ أو بسالةٌ، وليسوا بالأغرارِ الذين لم يَبهرْهم لمعُ بوارقِ السيوف فوق رؤوس الرجالِ زمانا طويلا، وقد كان فيهم السابقون الأولونَ من المهاجرين والأنصارِ، الذين كانوا وقْفًا لله ولرسولِه، يبذلون أنفسَهم وأموالَهم طيِّعةً بها نفوسُهم، والذين طالما عُقِدت لهم ألويةُ الجهاد في بقاعِ الجزيرةِ الفَساحِ، ولاقوا في أيامِهم من الشدائدِ وظلفِ العيشِ ما بِهِ مرَنوا على ما يصيبُهم من الأهوالِ مهما عظُم أمرُه.
لقد كانت تستلزمُ استعدادًا تامًّا وجَهازًا كاملًا، فالشقةُ بعيدةٌ والعدوُّ كثيفٌ، والحرُّ شديدٌ والثمارُ نضيجةٌ والظلالُ طيبةٌ رغيبةٌ، لذا لم يوَرِّ النبي صلى الله عليه وسلم عن وِجهتها كعادتِه في غزواتِه، بل صارحَ للناسِ ليكونوا على بيِّنةٍ من أمرِهم، ويُعدُّوا للأمرِ عُدتَه.
كان لكلِّ غزوةٍ من المغازي النبويةِ شكلُها وميْزاتُها، ولم تكنْ قط أكبرَ مشكلاتِ غزوةٍ من الغزواتِ أو سريةٍ من السرايا: جَهازُ الجيشِ وعُدتُه الحربيةُ والماديةُ، كما كانت في غزوة تبوك، التي سُميَتْ غزوةَ العسرةِ من جرَّاء ذلك، فكان الحثُّ على الإنفاقِ لتجهيز الجيش ملحًّا، وكان الثوابُ عليه جزيلًا، فأسهَمَ كلٌّ بما عندهُ، يأتي الرجلُ بأواقي الذهب، ويقدُمُ الآخر بنصف مالِه، والثالثُ بمالِه كله، ويحملُ أحدهم نصفَ الجيشِ من ماله، وينفق رجلٌ صاعًا من تمرٍ، بل إن أحدَهم لم يجدْ نفقةً إلا العفوَ عمَّن نالَ منه يومًا، فكُتِبتْ في الزكاة المتقبَّلة، وبقيَ قومٌ تفيضُ أعينهم من الدمع حزنًا ألَّا يجدوا ما ينفقون.
فكانت هذه الخطوةُ المهمةُ صورةً من أعظمِ صوَر التكافلِ الاجتماعيِّ ومدًّا لأواصرِ الأخوَّة الإسلامية في أحلكِ الظروفِ.
لقد كانت هذه الغزوةُ موطنَ سبْقٍ إلى الخير وتنافُسٍ فيه، وظهَرَتْ فيها نوازعُ النفوسِ وخطَراتُ القلوبِ ومقاماتُ الإيمانِ أوضحَ ما تكون، كما ظهَرَ فيها واحتفَّ بها من ضروبِ الامتحانِ ما ينمازُ به المنافقُ الدعيُّ مِن المؤمن الصادقِ التقيِّ، إما ممن ارتحلَ مع جيش المسلمين غازيًا، وإما ممن قعَدَتْ به همَّتُه وركونُه إلى الدعة، ثم ذاقَ مرارةَ الندمِ وثابَ إلى رشدهِ.
ولقد فُضِح أهلُ النفاقِ في هذه الغزاةِ وعلى أثرِها كما لم يُفضَحوا من قبلُ، حتى لَكأنَّها لم تكنْ قصدًا إلى قتالٍ ولا رغبةً في نزالٍ، ولم تكن إلا لبَحْثِ أقذارِ أولئك الرهط وإبرازِ قبيحِ طواياهم وخبيثِ سجاياهم، وكشْفِ الستْرِ عنهم، وإشهارِهم بين المسلمين، إما بأعيانِهم آنذاك، وإما بصفاتهم لِيعرفَهم المسلمون ما دامَت السماواتُ والأرض.
ومِن أعجَبِ ما ظهَر في هذه الغزوةِ: كراماتٌ نبويةٌ باهرةٌ، وخصالٌ مصطفوِيَّةٌ رفيعةٌ، ولا غرْوَ، إنه رحمةُ اللهِ بالناسِ وللناس، يحبُّ الخيرَ لهم ويهتمُّ لأمرِهم، يحتفي بشاهِدِهم ويفتقدُ غائبَهم، ويعذِلُ القادرينَ على التمامِ إذا نقَصوا، ويرفَعُ شأنَ محسِنِيهم إذا جهدوا، ويسألُ اللهَ لهمُ الغوثَ إذ قحطوا، وما شئتَ بعدُ أن تصفَ من رحمتِه وعظمتِه وجمالِه، صلوات الله وسلامُه عليه.
لقد ازَّينَتْ لأبي خيثمةَ الدنيا برونقِها، وخادَعَتْه عن المطالبِ العالية، فكاد أن ينخدعَ لها، ثمَّ ارعوى وانطلقَ مجاهدًا، فلامَه الحبيبُ عليه الصلاةُ والسلام: “أولى لكَ يا أبا خيثمة”، فاجتهدَ في الاعتذارِ وتبيان أمرِه، فقُبِل منه.. ولقد بطَأتْ راحلةُ أبي ذرٍّ به، فتركها ومضى، فأبصرَه النبيُّ من بعيدٍ، فقال: “كن أبا ذرٍّ”، فلما عرَفه قال كلمَتَه الخالدة: “يرحم اللهُ أبا ذر، يمشي وحدَه، ويموتُ وحدَه، ويُبعث يوم القيامةِ وحدَه”!
ولكنَّ نفرًا ثلاثةً قعَدوا عن القتالِ وما بهم من علَّةٍ، ولا وقعَ في نفوسِهم شكٌّ ولا ريبٌ، ولكن لم تنهضْ بهم نيَّتُهم إلى القتالِ حتى أفلتَتِ الفرصةُ من أيديهم، وكانوا يدورونَ في المدينةِ فلا يروْن إلا منافقًا، أو معذورًا عن القتال، فيتلهَّفون على ما فاتَهم من الخيرِ والأجرِ.
وكان الركْبُ الميمونُ قد مرَّ على وادي القرى، فأمرَهم الحبيبُ صلى اللهُ عليه وسلم ألا يستقوا منها، وأن يجعلوا ما صنعوا مِن طعامٍ علَفًا لرواحلِهم، وألا يدخلوا على هؤلاءِ القومِ إلا في حالِ البكاءِ، لئلا يصيبَهم ما أصابَ أولئك.. يا لها من رحمةٍ لا نظيرَ لها في دنيا الناسِ!
ولم يتخلَّ المنافقونَ عن طبائعهمُ الردِيَّة، فقد أرجَفوا بالمسلمين، وزعَموا أنْ لا طاقةَ للنبي وأصحابِه بقتال بني الأصفرِ، وجعلوا باللهِ وآياتِه ورسولِه يستهزؤون، فكان من أمرِهم ما كان.. ومِن الطريف أن أحدَ المنافقينَ لم يكن ينصاعُ لشيءٍ من الآياتِ البينات، حتى أن النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم دعا اللهَ تعالى، فمُطِرَ الناس، فقالَ لهذا الرجلِ أصحابُه: ويحك، هل بعدَ هذا من شيءٍ؟! فقال: سحابةٌ مارَّةٌ!!
وضلَّتْ ناقةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجعَلَ يسأل عنها، فقال رجلٌ منافق: يزعمُ هذا أنه يأتيه خبرُ السماءِ وهو لا يدري أينَ ناقتُه، فجاء الوحيُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بموضِعِ الناقةِ وبكلمةِ الرجلِ، فقرَّعَ الناسُ ذلكَ المنافقَ وطردوهُ شرَّ مطرَّدٍ.
وجاءتْ ريحٌ شديدةٌ نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الناسَ أن يقومَ فيها رجلٌ وحدَهُ، فقامَ رجلانِ، فخُنِقَ أحدُهما، وحملَتِ الريحُ الآخرَ فألقتْهُ بعيدًا، جزاءً لِما خالفَا أمرَ نبيِّهما!
وكفى اللهُ المؤمنينَ القتالَ، فإنهم بلغوا وِجهَتَهم فلم يلاقوا أحدًا، لا من الرومِ ولا مِن أشياعِهم من العرب، فانتهزَها النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ سانحةً لِبعضِ الإنجازاتِ، فأرسَل خالدَ بنَ الوليد إلى دومةِ الجندل، وأمَرَهُ بأمْرِه، ففعَل خالدٌ ما أُمِرَ به، وعادَ ومعَه قباءٌ من حريرٍ كان لِأُكيْدرِ بن عبد الملك، فجعل المسلمونَ يعجبون من حسنِه ونعومتِه، فأخبرَهم نبيُّهم أن مناديلَ سعد بن معاذٍ في الجنة أحسنُ منه!
وقد كان يُحَنَّةُ بنُ رؤبةَ حاكمُ أيلاتِ صالَحَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الجزيةِ، وأقرَّهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أرضهم.
وفي طريقِ العودةِ، ظهرَ أقبحُ وجوهِ النفاقِ، ففي بعضِ المواضعِ، همَّ المنافقونَ أن يزاحموا النبيَّ على عقبةٍ فيطرحوه من فوقها، وحين قال لأصحابِه: “إنا سنمُرُّ على وشلٍ -عينٍ تنبضُ بماءٍ قليلٍ -، فمَن أتاهُ فلا يمسَّ منه شيئا”، سبَقه رجلان منهم فأخذا من مائه، بل وفي المدينةِ المنورة، بنوْا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لِمَن حارب اللهَ ورسولَه من قبل، لكن اللهَ لم يُنجِح من مساعيهِمْ شيئًا، بل أبطلَ كيدَهم وفضحَ سرَّهم وجعلَهم عبرةً لكلِّ معتبِرٍ.
وفي الطريق توفِّيَ ذو البجادين، فدفَنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيَدِه، وقامَ على دفْنِه معه أبو بكرٍ وعمَرَ، فكانت تلك الموتةُ غبطةً يُغبَطُ عليها!
ولمَّا تدانتْ طيْبةُ، ثارَ الشوقُ في صدرِ الحبيبِ عليه الصلاة والسلام، فأسرَعَ السيرَ حتى لاحتْ له علائمُها، فلما أبصرَها قال: “هذه طيبةُ، وهذا أحدٌ، جبلٌ يحبُّنا ونحبُّهُ”.. هذا هو الحبُّ النبوي، الذي يسطعُ نورُهُ في قلوبِ الناسِ وفي أرجاءِ الدنيا، حتى تحيا بهِ الصُّمُّ الصلابِ، فتسري فيها الحياةُ وينبضُ في دواخلِها الحبُّ، فتسديهِ إلى الحبيبِ المحبوب صلوات الله وسلامُه عليه.
فألقتْ عصاها واستقرَّ بها النوى
“وقد” قرَّ عينًا بالإيابِ المسافرُ!
وجاءَ المنافقونَ وأصحابُ الأعذارِ بأعذارهم إلى النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، فكان يعذرهم ويكِلُ سرائرَهم إلى اللهِ، أما ثلاثةُ النفَرِ الذين خُلِّفوا: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فإنهم حملوا صدقَهم وألقوهُ على مسمعَيْه عليه الصلاة والسلام، فكانت ثمرةُ ذلكَ مريرةَ المطلَعِ، لكنَّها لمَّا نضجتْ وتتامَّ استواؤها، كانت أحلى الثمارِ وألذِّها في النفوس: توبةً يخلِّدُ اللهُ ذكْرَها ما دام يُتلى في الأرضِ كتابُه، كما تابَ على النبيِّ والمهاجرينَ والأنصارِ الذين اتبعوه في ساعةِ العسرة.
{والسابقون الأوَّلونَ من المهاجرينَ والأنصارِ والذين اتَّبعوهم بإحسانٍ رضي اللهُ عنهم ورَضوا عنه وأعدَّ لهم جناتٍ تجري تحتَها الأنهارُ خالدينَ فيها أبدًا ذلك الفوزُ العظيم}
وبعدُ، فهنا حطَّ الحبيبُ صلى الله عليه وسلم لأمةَ الحربِ ثم لمْ يلبِسْها أبدًا، وكانت تلك الغزوةُ خاتمةَ مسيرَتِهِ في الجهادِ، وخاتمًا يحولُ بين المنافقين وبين الخروجِ معه أبدًا، ونهايةً باهرةً لقصَّةِ جهادٍ طالتْ فصولُها وتعدَّدَت أجزاؤها.
ولكنْ هل تموتُ الدعوةُ بموت صاحبِها؟ وهل يوضَعُ سيفُ الجهادِ فلا يُرفَعُ بعدَه؟ وهل وضعَتِ الحربُ أوزارَها؟ كلا، فلقدْ مدَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آصرةَ الجهادِ بين عهْدِهِ والعهد الذي بعدَه وهو في أُخريَاتِ حياتِه، وعقَدَ رايةً يسيرُ تحتها جندُ اللهِ بقيادةِ مولاهُ وحِبِّهِ أسامةِ بن زيدٍ، الذي كان أبوهُ أوَّلِ قائد جيشٍ إسلاميٍّ يواجهُ الرومَ.
فكان عقْدُ الرايةِ بيدِه الشريفةِ، وإنفاذُ الجيشِ بأمرِ خليفتِهِ مِن بعدِه، أبي بكرٍ الصدِّيقِ، فكان الجهادُ في سبيلِ اللهِ ملتقى العهْديْن الشريفيْن، اللذَيْن كادت تَمزَّقُ الوشائجُ بينهما باختلافِ المسلمين في الخلافةِ، فانتظمَ أمرُهم، واستمرَّتْ مسيرتُهم، وبقيَ علمُ الجهادِ مرفوعًا وسيفُه ماضيًا إلى قيام الساعة، مهما امتدَّتْ إليهما أيدي العابثين، وادَّعتْهما ألسنةُ المدَّعين!
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)