مقالاتمقالات المنتدى

غزة تحررنا وتبعثنا من جديد

غزة تحررنا وتبعثنا من جديد

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

في ظل الأحداث الملحمية التي نعيشها لحظة بلحظة مشاهدة وحزنا وتعاونا بقدر الطاقة والوسع في زمن التضييق والتطبيع، ويعيشها إخواننا في غزة وعموم فلسطين ولبنان جهادا ومرابطة وصبرا ومصابرة على القتل والجرح والبلاء في الأنفس والأموال والدور والمؤسسات. وبعد مائة عام من سقوط آخر خلافة جامعة للمسلمين؛ على ما كان فيها من أخطاء وما بها من ضعف، وفي ظل تكالب كل قوى الاستعمار والفساد والاستبداد والخيانة على إذلال هذه الأمة وتركيعها  لعلها تترك دينها وترتد عنه إن استطاعوا: ماذا يفعل كل مسلم جدير بهذه الصفة وتلك التسمية وهذه النعمة بعد عام من غزوة طوفان الأقصى، وما أحدثته من آثار وما سيتمخض عنها من نتائج؟

صحيح أن تاريخ العشرية الأخيرة من زمان الأمة العربية المسلمة قد حمل لنا أسوأ أخبار يمكن أن نسمعها، وأبشع واقع نعيش نتائجه فقرا واستبداد وفسادا وتبعية وتطبيعا مع العدو وتتبيعا له، لكن قد آن الأوان لنقرر نحن كما فعل الغزيون جدول الأعمال فيما تبقى من هذا القرن بدلا من أن نترك لسادة الخضوع وقادة الخنوع أن يقرروا لنا مستقبلا  مظلما نفقد فيه ديننا وهويتنا واستقلالنا وكرامتنا بعدما فرضوا علينا حاضرا ذليلا. وهناك الكثير والكثير الذي يمكن لكل عربي مسلم أن يفعله بمفرده أو مجتمعا مع أفراد أسرته أو محيطه القريب والبعيد في الأهل والجيرة والمسجد والعمل والذي علمتنا إياه غزوة طوفان الأقصى.

إن التناقضات الحادة التي كانت يمتلأ بها جوف العالم الإسلامي بدأت تسفر عن وجهها الحقيقي اليوم، حيث نشهد أزمات خطيرة في كل مجال تتجلى في التدهور الاقتصادي والفوضى السياسية والعسكرية، ومع هذا الانحلال الداخلي بدأت الأخطار الخارجية تحيق به؛ وخاصة الخطر الصهيوني المتدثر بالغطاء الغربي. وكل ما كان يقال في السر صار يقال في العلن، وكل من خبأ ضغينة نفسه وخيانته أظهرها، وكل عدو للأمة أظهر عداوته بعد أن ظل عقودا يداريها، وسقطت كل دعاوى الاستعمار التي تغلفت بحقوق الإنسان وتنمية الفقراء وكرامة البشر.

لقد بدأت حماس بغزوة طوفان الأقصى عصر البعث الجديد لهذه الأمة؛ شاء من شاء وأبى من أبى، فكل لحظة بعد السابع من أكتوبر عام 2023م اختلفت عما قبلها، وتميز الخلق إلى فريقين: أولياء الرحمن وأولياء ولا ثالث بينهما إلا منافق عليم.

ولذلك يجب أن نتذكر فلا ننسى أن أيا منا يمكن بل سيؤؤل به الأمر؛ قريبا عاجلا أو آجلا غير بعيد، ليكون مثل إخواننا في غزة وعموم فلسطين ولبنان، ويتعرض لما يتعرضوا له، والنذر كثيرة نراها رأي العين في الغلاء الفحش والاستبداد العاض، وسيؤول به الأمر للنزول إلى ميدان القتال الحربي عندما يواجهنا تحد مصيري من داخلنا أو خارجنا يشعل حياتنا جحيما. فالمجاهدون اليوم في فلسطين، وهم غدا أنا وأنت في القاهرة أو طرابلس أو الخرطوم والحبل على الجرار لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وإننا جميعا؛ مثنى وفرادى وجماعات، نحتاج أن نقوم لله قومة واحدة ونتفكر ونتفهم وندرس ونحلل كيف يمكن أن نتبنى وجهات نظر هؤلاء الأبطال ومشاعرهم وأهدافهم وتصرفاتهم وأعمالهم، ونتدبر في الخيارات التي يقررونها وهم يحاولون الوصول إلى طريقهم نحو تحرير فلسطين. فقد حانت اللحظة التي وجب علينا جميعا فيها التغيير: تغيير أنفسنا وأسرنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا كلها. وأن نجتهد جميعا؛ كل بحسب وسعه وطاقته وما حباه الله به من نعم وقدرات عقلية ونفسية ومالية وجسدية لنوجد بديلا حاضرا يحملنا إلى تحقيق أهدافنا وتحقيق بعثنا الجديد. نحتاج أن نوجد بديلا جديدا مختلفا عن تجربة القرن الماضي، يأخذ منها ايجابياتها ويطرح عنه سلبياتها وأخطائها.

فليست الصهيونية المستعمرة قدر مقدورا، ولا أمريكا هي قوة فوق طبيعية لا يمكن الوقوف بوجهها، فقد رأينا ضعفهما وهزيمتهما، وإخواننا في غزة فعلوا ذلك وما زالوا وسيظلوا يهزمونهم بأقل الأسباب مع الاعتماد الكامل على الله. ونحن أيضا نستطيع ذلك، إننا نملك العقيدة التي لا تهزم، ومعنا رب السموات والأرض إن كنا معه، وعندنا من الموارد والإمكانات الكثير والكثير، لكن  ما ينقصنا هو التنظيم والوحدة التي تمكننا من الانتصار، ونصيبنا من الغد القريب والبعيد وما نأمل ونرجو فيه سيكون بقدر ما نضحي ونعمل ونجاهد في سبيله.

إن الذين صنعوا التاريخ لأي أمة من الأمم، وفي أي عصر من العصور؛ كما يعلمنا القرآن المجيد وتاريخ أمتنا والأمم من قبلنا وتواريخ عصرنا الحديث، لم ولا ينبتوا هكذا من فراغ متجردين من تربية سابقة وتجارب معتبرة وتراكمات عمل وعلم متواصلة يورثها جيل لمن بعده في سلسلة ذهبية من الرجال الذين صدقوا لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة على الأرض.  وأهل فلسطين؛ وفي مقدمتهم أهل غزة العزة أعطونا القدوة وعلمونا الدرس عمليا، فها هم كما نراهم كل لحظة يجاهدون في سبيل الله أشد الناس عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين وللناس أجمعين بما لديهم من عدة وعتاد قليل.

تعلمنا غزوة الطوفان الكثير والكثير ومن ذلك:

أولا: الغزيون كائنات بشرية وواقعية وليسوا قديسين ولا صحابة ممن كنا نقرأ عنهم في كتب التاريخ وتراجم الرجال وفي السير والمناقب، ولم نكن نستطيع استيعاب ما قام به هؤلاء مع إيماننا به، وكان الكثيرون يرون ذلك خاصية اختصهم الله بها في زمن الأنبياء، لكن ذلك لم يكن صحيحا هكذا أثبت أهل غزة الأبرار، فلم يكن فعل هؤلاء المجاهدين خرافيا ولا يمكن إعادته مرة أخرى، لا، لقد تجسد أمامنا بأكثر مما تمثل في الماضي المجيد.

فهاهم رجال ونساء غزة المرابطون المجاهدون، هؤلاء البشر الذين نعرفهم ونعرف بؤسهم وحاجتهم وحصار وحرب الجميع عليهم: القريب قبل البعيد والشقيق قبل العدو، ونعرف تلك البقعة البائسة من الأرض التي تحمل أكبر قدر من البشر على مستوى العالم في مستوى حياة هو الأدنى على الاطلاق، نعرف كلنا هؤلاء البشر العجزة بأي مقياس إنساني شئت أن تقيس العجز، نعرف هؤلاء البشر العاديون جدا والمحتاجون جدا، لكننا نعرف أيضا ونرى ونتعجب ونعجب بما يصنعونه من قرارات وبطولات وما يصوغونه من حياة عزيزة في زمن الذلة والخسة، وما يقومون به من جهاد جدير بالإعجاب وهم كل لحظة قادرون على تحقيق أعمال بطولية في ظل ظرف هو الصعوبة بعينها

إنهم يشبهوننا جميعا، وإن كانوا يفتقرون لأدنى ما يحوزنه الأقل حظا بيننا، فلماذا يأخذون على أنفسهم هذا الجهاد وتلك المرابطة باهظة الثمن والمحفوفة بالمخاطرة والمخاطر المهلكة؟ لماذا يحتضنون الموت ويمسكون بالحياة في نفس الوقت في تجسيد مثالي لمعنى الحياة والشهادة في سبيل الله في آن واحد؟ الإجابة سهلة جدا لا تخفى على أحد، وصعبة جدا لا يقدر عليها أي أحد: إنه الإيمان الصادق بالله والجهاد في سبيله والثقة بوعده وإنجاز عهده.

إن كل واحد منا عليه أن يعيد التفكير في نمط حياته وفي طريقة معاملته مع ربه وأمته من جديد، وغزة تعلمنا الكثير. وغزوة الطوفان تساعدنا في إعادة ترتيب عقولنا وتربية أنفسنا وأولويات حياتنا كما تساعدنا على فهم حقيقة ما نفعله ونياتنا تجاهها: هل هي خالصة لوجه الله أم نشرك فيها غيره؟ فنحن موصولون ببيئاتنا الاجتماعية والنفسية والمادية والروحية من خلال وسائل عديدة منها إحساسنا بالطريق الذي يوصلنا إليها، فعندما انغمسنا في لقمة العيش والوظيفة وهموم الأولاد واحتياجات اليوم ومتطلبات الغد سقطنا في هاوية الاستهلاك والاستملاك، لكن عندما هبت علينا ريح الجهاد المؤمن بالله وفي سبيل الله في غزة العزة بدأت بوصلة حياتنا في التغير كثيرا وتغير استخدامنا لمشاعرنا كأدوات توجيه تهدينا في مسيرتنا، وعلينا أن نثبت على ذلك حتى تستقر بوصلة حياتنا على مراد الله وعهده وميثاقه الذي واثقناه.

وتساعدنا غزوة الطوفان أيضا في استنباط أساليب جديدة في إنجاز العمل وفي معاملة بعضنا بعضا، وفي تخيلنا لأشكال جديدة للمستقبل الذي نتمناه لأنفسنا ولأبنائنا ومجتمعاتنا، ولأشكال جديدة للإلهام والآمال، ولرموز جديدة وسجايا خلقية جديدة نحتاج أن نوجدها لتملأ حياتنا الجديدة بتوجهاتها الجديدة، وغيرها من معالم الطريق التي تمكننا استخدامها على امتداد مسيرتنا إلى المستقبل.

بل يصل الأمر بغزوة الطوفان إلى أن تساعدنا في تطوير أساليب جديدة للعيش داخل أجسامنا وأن نكون بشرا حتى على هذا المستوى الأساسي، فنعيد التفكير في ماذا نأكل؟ وكم نأكل؟ ومن أين نأكل؟ وهكذا في ملبسنا ومشربنا ومتع دنيانا المختلفة في ضوء القيم الجديدة التي اكسبنا إياها إخواننا المرابطين المجاهدين في غزة العزة.

إننا سننتصر معًا على عدونا الخارجي والداخلي عندما نكون معًا، على قلب رجل واحد، كجسد واحد. ولكن كيف يمكننا أن نقول إننا معًا؟

عندما نتوقف عن تبديد أرصدة القوة التي بين أيدينا فيما لا يفيد: القوة المادية والمعنوية، وقوة الاتحاد والتعاون والتكامل التي تهزم أي عدو وأي محنة والتي إن ضاعت فلا تنتظر إلا ما تراه من حالنا البئيس.

إننا سننتصر على كل أعدائنا عندما نوجه كل طاقاتنا لإعداد كوادر جديدة وابتكار سياسات وبرامج ومشروعات تفيد حالتنا وقيمنا الجديدة اللازمة للبعث الجديد.

إننا سننتصر عندما نتقن العمل الميداني المخطط القائم علي رؤية حقيقية للمستقبل، لأنه هو الضمانة والسبيل لعدم الرجوع الي الوراء او الاصطدام اليأس.

إننا سننتصر عندما نقدم الأكفأ والأكثر اخلاصا وتضحية  واحساسا بالمسئولية في كل جانب من جوانب حياتنا.

تعلمنا غزة العزة بعد عام كامل من الصمود وأكثر من سبعمائة وستة وخمسون مرة على مدار احتلال العدو الصهيوني لفلسطين(756) لتدميرها، وهي واقفة صامدة صمود الإيمان الذي لا يهزم، أننا نحتاج تغييرا شاملا لنمط الحياة، لأن هذا هو شرط البعث الجديد.

فليس ثمة قيمة محايدة، ولا توجد سلعة محايدة ولم تنتج بعد، ولا لعبة محايدة ولن توجد، ولا فن محايد ولن يكون، ولا استثمار مالي اقتصادي محايد وليس في وسعه أن يكون، في الحياة كل تصرف له مقصوده، وكل تصرف تقعد عن تحصيل مقصوده، أو أدى إلى عكس المقصود منه فهو باطل وممنوع في أي دين أو عرف، في أي معسكر من معسكري الصراع على الأرض.

هكذا يجب أن نفكر في كل شيء حتى تكون حياتنا ومماتنا وصلاتنا ونسكنا وسكوتنا وكلامنا وقيامنا وقعودنا لله رب العالمين، وفيما يحرر فلسطين وكل فرد مسلم من أي قيد يعوقه عن البعث الجديد؛ سواء كان قيدا مجتمعيا مؤسسيا أو قيدا شخصيا نفسيا.

لم يعد التضامن والعمل للإسلام والعروبة، ولفلسطين خصوصا، يعني المساعدة أو الدعاء أو الإعلام والكلام فقط، لا بل بات يتطلب اكتشاف طاقات مخبأة في داخل واحدنا والآخر بحيث تستطيع قوتنا الإيمانية والعددية وقوة مواردنا وأفكارنا وتضامننا  الإسلامية أن تنتصر على مكامن الضعف فينا وتستثير مواطن القوة بداخلنا حتى تنتصر على كافة أعداءنا.

غزة تحررنا وتبعثنا من جديد فهل من مشمر؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى