بقلم د. عطية عدلان – رابطة علماء أهل السنة
لعل من أعظم ما يميز الجهاد الإسلاميَّ أنَّ الشريعة حددت بِدِقَّةٍ مُنْطَلَقاته وغاياته والقواعد والأحكام التي تضبط مساره، إضافة إلى الأخلاق والآداب التي تسهم في تحقيق الغايات النبيلة، دون أن يقع الخلط بين غايات الشرع وأهواء النفوس ومطامعها.
وتحديد الغايات يسهم بعمق في ضبط (البوصلة) وحماية المسار كله، كما أنّه يكشف عن عظمة الجهاد الإسلامي ونظافته وانتفاء منافاته لحقوق الإنسان وحريات الشعوب، ولهذا كان الحديث عن هذه الغايات غاية في الأهمية، لاسيما مع كثرة الخلط في الجانبين النظريّ والعمليّ؛ الأمر الذي عاد بالضرر على هذه الفريضة العظيمة، وأعطى الفرصة لتشويهها لدى الشعوب التي شربت من قبل كأس الموت حتى الثمالة؛ من جراء حروب مدخولة الغايات سيئة السمعة.
فما هي غايات الجهاد الإسلاميِّ، التي تنجلي بجلائها الصورة العامة، ويتضح باتضاحها السبيل السويُّ، وتقوم بظهورها الحجة على الغالي المستهين بالدماء والجافي المستكين للأعداء؟
لقد بينت الآيات القرآنية غايات الجهاد ومقاصده بياناً لا يدع للَّبْس مدخلاً، ثمَّ جاءت السنّة -قولية وعملية -فتطابقت في ذلك مع ما جاء به القرآن؛ حتى تركتنا فيه على المحجة البيضاء، غير أنَّ الخلل جاء من جهة التقدم بين يدي الكتاب والسنة بمشاريع غلب عليها الاستجابة لضغط الواقع، الذي يختلف الناس في التعاطي معه باختلاف ظروفهم وأحوالهم ومواقعهم منه؛ ومن ثمَّ خضعت النصوص والسير لتأويلات وتنزيلات كادت تبلغ مبلغ التحريف، لولا حفظ الله لكتابه ولشريعته.
ولقد تعددت النصوص التي تعرضت لغايات الجهاد، ولكنها تنوعت بتنوع الغايات، فهناك غايات مقاصدية، تكشف عن الحكمة من تشريع الجهاد، وتُبين المقاصد العلية من وراء وجوبه، فهناك غايات عِلِّيَّةٍ، تبرز العلّة الظاهرة المنضبطة المحققة للحكمة والمعللة للحكم، وهناك غايات إجرائية أكثر تحديداً وألصق بالتطبيق العمليِّ، إضافة إلى الغاية الزمانية التي ينتهي عندها الجهاد ويتوقف.
فأمّا الغايات المقاصدية فتتلخص فيما صرحت به النصوص العديدة، من إعلاء كلمة الله، وإظهار دينه، وتحقيق سيادة شريعته، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن النصوص التي كشفت عن هذه الغايات المقاصدية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «… فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، وَاللَّهِ إِنِّي لَا أزالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ …»(2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»(3). وقوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»(4)، وقد استدل العلماء بهذا الحديث على الهدف والغاية من قتال الكفار قال: ابن رشد: «وإنما يقاتل الكفار على الدين ليدخلوا من الكفر إلى الإسلام لا على الغلبة، قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»(5).
وكل هذه الأحاديث وغيرها من السنة القولية والعملية تدور في الفلك الذي رسمته آيات قرآنية كثيرة، مثل قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وقوله تبارك وتعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وغيرها من الآيات.
أمَّا الغاية العِلِّيَّة التي يناط بها حكم مشروعية الجهاد ووجوبه، ويدور معها وجوداً وعدماً، فهي غاية واحدة تتمتع بالظهور والانضباط، قد بينها الحق تبارك وتعالى في قوله من سورة البقرة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ ﴾ وقوله في سورة الأنفال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ ومعنى “حتى لا تكون فتنة” أي: حتى لا يكون شرك أو كفر، وهذا المعنى مروي عن السلف(6)، والمقصود: حتى لا يكون للكفر والشرك فتنة، ومعنى: “ويكون الدين لله” أي: يكون الخضوع والدينونة في الأرض لسيادة الله، إمَّا بدخول الناس في الإسلام، وهو معنى مروي عن السلف(7) وإمّا بالدخول في الطاعة لشريعة الإسلام ودولته بأن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وهذا المعنى دلت عليه الآية من سورة التوبة التي سوف نتعرض لها بعض قليل.
فالغاية التي يناط بها حكم وجوب الجهاد ويعلل بها، ويدور معها وجوداً وعدماً هي إماطة الفتنة الناجمة عن وجود الشرك والكفر في الأرض، إما بإنهاء وجودهما بأن يدخل الناس في الإسلام، وإما بإنهاء سيادتهما وسلطانهما بأن يدخلوا في مظلة سيادة الشريعة الإسلامية بدفع الجزية والتزام الصغار، وقد وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته على طريق تحقيق هذه الغاية؛ حيث «صار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب»(8)، وهذه هي بداية تحقيق السيادة التي تزول بها فتنة الشرك ويتحقق بها المعنى المقصود من قوله تعالى: “ويكون الدين لله”.
ولكي تكون هذه الغاية أكثر تحديداً وألصق بدور العلة الظاهرة المنضبطة التي يناط بها الحكم فيقوم بقيامها وينتفي بانتفائها جاءت الغاية الإجرائية التي تصلح أن تكون بذاتها غاية عِلِّية أو علة للحكم، غير أنّها تتخلف عن هذه الرتبة – في نظري – لكونها إن انفردت بذلك كانت مبتوتة عن الحكمة في ظاهر الأمر، لذلك أرى أنّها غاية إجرائية تابعة للغاية العلية تزيد من ظهورها وانضباطها بإجراءات واضحة بارزة تتمثل في دفع الجزية والتزام الصغار بالدخول في الطاعة للقانون العام للدولة التي تطبق الشريعة، وهذه الغاية منصوصة في قول الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
وقد جلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغاية الإجرائية بتصرفاته العملية؛ فعن سليمان ابن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ …»(9)
والراجح من أقوال العلماء أنَّ الجزية تؤخذ من جميع الكفار، سواء كانوا أهل كتاب أو مجوساً أو مشركين، وهو مذهب مالك والأوزاعي وبعض العلماء، ويدعمه الحديث السابق إذ صرح بذكر المشركين في معرض التخيير بين الجزية والإسلام، والجزية مبلغ مالي زهيد يبلغ في أرجح الأقوال ثمانية وأربعين درهما في العام كله على الغني، وأربعة وعشرين على المتوسط واثني عشر على الفقير، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وبعض العلماء، ويدفعها الكافر الذي أعطي عقد الجزية إسهاماً منه في الدولة التي يتمتع برعايتها وحمايتها والانتساب إليها، وتسميتها جزية من قبيل الاصطلاح المستقر في عرف الخلق، كما أنَّ الراجح في الصغار أنَّه يتحقق بالتزام دستور وقانون الدولة الإسلاميّة وعدم الخروج عليه، وما زاد عن ذلك المقدار من الصغار لم يكن سوى اجتهادات لملابسات واقعية آنذاك، بعضها صواب وبعضها خطأ.
ومن هنا ندرك خطأ الفريقين من الغالين والجافين، فأمّا الغلاة المتشددون فمنهم من اعتبر القتال غاية، ومنهم من خلط بين موجب القتال وموجب القتل، فَمُوجب القتال هو الكفر باتفاق؛ لِمَا يَنْشَأُ عنه من فتنة، أمّا مُوجِب القتل فمختلف فيه، والراجح أنّه الكفر مع الحرابة وليس الكفر وحده، بدليل نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والشيوخ والولدان والرهبان مالم يشاركوا في القتال والحرابة ولو بالمساعدة، ولذلك علل رسول الله نهيه عن قتل النساء فقال عندما رأى امرأة مقتولة: “مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ” (10)، ومنهم من أضاف إلى هذه الكوارث سوء التنزيل لأحكام الكفر والإيمان؛ مما كان له أثره في تشويه صورة الجهاد الإسلاميّ لدى المسلمين وغير المسلمين.
وأمَّا الجفاة المتميعون فقد وقعوا فيما وقع فيه الكثيرون من قبل في خدعة انحصار الجهاد الإسلاميّ في جهاد الدفع فقط، وهذا مما لا نجد له في دين الله مستنداً، والآيات الدالة على وجوب جهاد الطلب والابتداء أكثر من أن تحصى، منها ما ذكرناه آنفاً، بل إن إجماع العلماء منعقد على ذلك، نقل الإجماع ابن عطية في تفسيره، حيث قال: «والذي استمر عليه الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد فرض كفاية فإذا قام به من قام من المسلمين يسقط عن الباقين إلا أن ينزل العدو بساحةٍ للإسلام فهو حينئذ فرض عين»(11)، ومنهم من اتسع خطاب نبذ العنف عنده لينبذ فريضة من فرائض الله تعالى، دون أن يفرق بين العنف المشروع والعنف الممنوع.
وبهذا أيضا يتبين أن الجهاد الإسلاميّ لا ينافي حرية العقيدة، إذ إنّ النهاية التي يتوقف عندها الجهاد هي زوال فتنة الشرك والكفر وليس دخول الناس في الإسلام، فلو رفض شخص الدخول في الإسلام، ولكنه لم يرفض الدخول في الطاعة لدولة الإسلام بدفع الجزية، فإنه يخلى بينه وبين ما يعتقد وما يمارس من شعائر يرضاها، والصحيح الراجح أنّ آيات الصفح والمجادلة بالتي هي أحسن والدعوة بالحسنى لم تنسخ، وكذلك الآيات التي تكفل حرية الاعتقاد وتضع الإنسان أمام مسئوليته، كقول الله تعالى: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيِّ” وقوله عزَّ وجل: “وما أنت عليهم بجبار” وقوله سبحانه: “لست عليهم بمسيطر”.
ولو كان الجهاد مفروضا لإرغام الناس على العقيدة لما أخذت الجزية من أهل الذمة، ولكان التخيير فقط بين الإسلام أو السيف، ولما بقي في ديار الإسلام أحد على غير دين الإسلام، ولقد شهد التاريخ بتحقق الحرية الدينية على أكمل وجه طوال مراحل الأمة الإسلامية، ونسوق هنا شهادة أحد المنصفين من أعلام الغرب الكبار وهو “غوستاف لوبون” يقول في كتابه المشهور حضارة العرب- وذلك بعد أن ساق عدداً من آيات القرآن الكريم- يقول: “رأينا من آي القرآن، التي ذكرناها آنفاً أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة للغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله، كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته”(12).
ثم قال: “وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا والعبارات الآتية التي اقتطفها من كتب الكثيرين منهم تثبت أن رأينا في هذه المسألة ليس خاصاً بنا”(13)
أمّا الغاية الزمانية الوقتية التي ينتهي عندها الجهاد فقد جاء بيانها في قول الله تعالى من سورة القتال: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ أي تضع الحرب آثامها أو أحمالها، وهذه الغاية سوف تتحقق زماناً مع قرب الساعة، وذلك لكون الواقع البشريّ مستمر على حالة الصراع بين الحق والباطل، فعن جبير بن نفير عن سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلي الله عليه وسلم)، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا: لَا جِهَادَ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وسلم) بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: “كَذَبُوا الْآنَ الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَّثٍ، وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِي أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ»(14) .
تلك هي غايات الجهاد سقتها بين يدي القارئ؛ لتكون ميزانا يزن به ما يستجد على الساحة دون أن يحيد به الميزان إلى ذات اليمين أو ذات الشمال (15).
—————————————
الهامش
(1) متفق عليه: رواه البخاري ك الجهاد والسير باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا برقم”2613″(ج5ص2181)، ومسلم ك الإمارة باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله برقم “3531” (ج5ص2482).
(2) رواه الإمام أحمد في المسند برقم”18528″(ج16ص7608)، قال شعيب الأرناؤوط إسناده حسن محمد بن إسحاق وإن كان مدلسا وقد عنعن إلا أنه قد صرح بالتحديث في بعض فقرات هذا الحديث فانتفت شبهة تدليسه.
(3) متفق عليه: رواه البخاري ك الإيمان باب ((فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)) برقم”24″(ج1ص26)، ومسلم ك الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله … برقم “36” (ج1ص77).
(4) صحيح: رواه البخاري ك الصلاة باب إستقبال القبلة برقم”382″(ج1ص322).
(5) المقدمات لابن رشد (1/369)، وانظر التاج والإكليل (4/536).
(6) تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 265).
(7) تفسير ابن كثير (2/298).
(8) زاد المعاد (3/160).
(9) صحيح: رواه مسلم ك الجهاد والسير باب تأمير الإمام الأمراء على البعوس…. برقم “3267” (ج5ص2267)، والترمذي فىالسنن ك السيرباب ما جاء في وصيته في القتال برقم”1541″(ج3ص1482)، والنسائي في الصغرى ك السير باب إلى ما يدعون برقم”8276″(ج11ص5321)، وابن ماجة في السنن ك الجهاد باب وصية الإمام”2853″(ج3ص1493)، والإمام أحمد في المسند برقم”22428″ (ج20ص9532)، وابن أبى شيبة في المصنف ك باب برقم”32359″ (ج19ص2974)، والبزار في مسنده برقم”249″(ج1ص178)، وأبو يعلى في مسنده برقم “1408” (ج2ص684).
(10) مسند أحمد ط الرسالة (25/ 371)
(11) نقلاً عن تفسير القرطبي لقوله تعالى (كتب عليكم القتال) 3/38
(12) حضارة العرب لغوستاف لوبون (ص128).
(13) السابق (ص128).
(14) صحيح: رواه النسائي في الصغرى ك الخيل باب الخيل معقود في نواصيها الخير… برقم”3523″(ج5ص2390)، والإمام أحمد في المسند برقم”16622″(ج14ص6644)، وابن سعد في الطبقات برقم”9426″(ج16ص7811)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم “1935”.
(15) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.