مقالاتمقالات مختارة

عين الشمس الثقفية .. شهرة طبقت الآفاق

بقلم محمد فتحي النادي

في العصور الوسطى في أوروبا كانت النظرة الدينية للمرأة نظرة كلها ازدراء؛ إذ “كانت نظريات رجال الكنيسة -بوجه عام- معادية للمرأة؛ فقد غالت بعض قوانين الكنيسة في إخضاعها، لكن كثيرًا من مبادئ المسيحية وشعائرها رفعت من مكانتها.

وكانت المرأة في تلك القرون لا تزال في نظر القساوسة وعلماء الدين كما كانت تبدو لكريستوم (شرًّا لا بد منه، وإغواء طبيعيًّا، وكارثة مرغوبًا فيها، وخطرًا منزليًّا، وفتنة مهلكة، وشرًّا عليه طلاء).

وكانت لا تزال حواء مجسدة في كل مكان، حواء التي خسر بسببها الجنس البشري جنات عدن، وأداة الشيطان المحببة التي يقود بها الرجال إلى الجحيم.

وكان تومس أكويناس -وهو في العادة رسول الرحمة- يتحدث عنها كما يتحدث الرهبان، فينزلها من بعض النواحي منزلة أقل من منزلة الرقيق: (إن المرأة خاضعة للرجل لضعف طبيعتها الجسمية والعقلية معًا)، والرجل مبدأ المرأة ومنتهاها كما أن الله مبدأ كل شيء ومنتهاه، وقد فرض الخضوع على المرأة عملاً بقانون الطبيعة، أما العبد فليس كذلك، ويجب على الأبناء أن يحبوا آباءهم أكثر مما يحبون أمهاتهم”([1]).

أما في نفس الوقت في عالمنا الإسلامي فكانت تشد الرحال طلبًا للعلم على يدي النساء العالمات اللواتي سطع نجمهن في سماء العلم، فقصدهن طلاب العلم للاغتراف من علمهنّ.

ومن هؤلاء عين الشمس الأصبهانية.

الاسم والكنية

هي عين الشمس بنت أحمد بن أبي الفرج محمود. وعين الشمس اسمها، وليس لقبًا لها. وكنيتها أم النور.

وتنتسب إلى قبيلة ثقيف العربية، وهي قبيلة عربية كبيرة انتقل جزء منها من شبه الجزيرة العربية إلى أصفهان الواقعة ببلاد إيران حاليًا.

وكان من هذه القبيلة الحكام والساسة والعلماء الذين استوطنوا هذه البلاد البعيدة عن جذورهم ومضارب خيامهم.

وكذلك تنتسب إلى بلاد أصبهان التي أقامت فيها([2]).

بيت علم

لم أتمكن من تحديد أبيها وجدها، وإن كنت وجدت كثيرين ينتسبون إلى ثقيف في أصبهان، وكانوا من أهل العلم الكبار.

لكن الذهبي رغم عدم تعريجه لذكر ترجمة مقتضبة عن أبيها أو جدها أثناء ترجمته لعين الشمس، إلا أنه قال: “كانت من بيت الرواية والإسناد”([3])، وفي موضع آخر قال: “من بيت رواية وحديث”([4]). توفيت في نصف ربيع الآخر.” [تاريخ الإسلام، (13/246)].

مشايخها

لقد طلبت عين الشمس العلم صغيرة جدًّا، وهذا يعني أنا أسرتها أحضرتها بين يدي العلماء في سنيها الأولى.

فقد ذكر الذهبي أنها قد بدأت السماع سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وذكر أنها عاشت تسعين سنة، وأن وفاتها كانت سنة عشر وستمائة([5])، وهذا يعني أن سماعها كان في الرابعة من عمرها، وهذا السن لا يمكن أن يستوعب الصغير ما يُلقى عليه فيه.

وعلى كلٍّ فهذا يعني الاهتمام المبكر من أهلها لطلبها للعلم، وإحضارها بين يدي العلماء والمشايخ.

فقد سمعت حضورًا في سنة أربع وعشرين من إسماعيل بن الإخشيذ.

وقد وعت السماع وتحملته سنة 526هـ.

وقد سمعت “جزء أبي الشيخ” من محمد بن علي بن أبي ذر الصالحاني، والذي كان مسند وقته وزمانه.

وسمعت عليه كتاب “الديات” لابن أبي عاصم، و”التوبة”، و”عوالي القباب”، و”أحاديث بكر بن بكار”، و”جزء أبي الزبير عن غير جابر” وأشياء.

وكانت آخر أصحابه.

وقد تفردت عين الشمس الثقفية في الدنيا عنهما؛ إذ كانت آخر من حدّث عنهما([6]).

تلامذتها

قد طبقت شهرة عين الشمس بنت الثقفي الآفاق، وجاءها الطلاب من كل مكان في العالم الإسلامي؛ فجاءها التلاميذ من الشام ومصر والمغرب والأندلس، وطلب إجازتها الأشراف من آل البيت، وأبناء الملوك من آل أيوب.

ومن أشهر تلامذتها: الزكي البزرالي([7]) أبو عبد الله محمد بن يوسف الإشبيلي الحافظ الجوال محدث الشام ومفيده، وعين الشمس هي أقدم شيوخه([8]).

ومنهم كذلك الإمام العالم الحافظ البارع محدث العراق مؤرخ العصر محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن حسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، ابن النجار، صاحب مُصَنف تَارِيخ بَغْدَاد الَّذِي ذيل بِهِ على تَارِيخ الْخَطِيب([9]).

“ومن المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الحافظ نجيب الدين أبو محمد عبد العزيز ابن الأمير القائد أبي علي الحسن بن عبد العزيز بن هلال، اللخمي، الأندلسي، ولد سنة 577 تقريبًا، ورحل فسمع بأصبهان من عين الشمس الثقفية وجماعة”([10]).

ومن كبار الساسة سفير الدولة صدر الدين أبو علي الحسن بن محمد بن محمد البكري النيسابوري ثم الدمشقي المحتسب الصوفي([11]).

وبالجملة فقد روى عنها الضياء محمد، والتقي ابن العز، وأبو العباس أحمد بن عثمان بن عبد الرحمن السّلميّ النّظّام، وأبو علي محمد بن أبي الفتوح محمد الوثابي الأصبهاني، والشريف فخر الدين أبو عبد الله العلوي الحسيني المنقذي الدمشقي المعدل، وأَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَبْد الخالق بْن طُرْخان الأُمويّ الإسكندرانيّ، وعامة الرحالة.

وبالإجازة: الفخر علي، والشيخ شمس الدين أَبُو الفَرَج عبد الرحمن المقدسيّ الحنبليّ، والبرهان إبراهيم بن الدرجي، وشمس الدين عبد الواسع الأبهري الشافعي، وشمس الدين أبو الغنائم المسلّم بْن مُحَمَّد بن علاّن القَيْسيّ، وأم محمد حَرَميَّة بنت تمام السّلميّة الدمشقيّة، وأم محمد سيدة بنت موسى بن عثمان بن درباس الماراني، وآخرون([12]).

من مروياتها

قد وقفنا على بعض المرويات عنها التي حكم العلماء بوضعها، فضربنا صفحًا عن ذكرها([13]).

أما مما هو صحيح من روايتها فبسندها عن ابن عباس وعائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخّر طواف الزيارة إلى الليل([14]).

ثناء العلماء عليها

قد جعلها الذهبي في الطبقة السابعة عشرة من طبقات الحفاظ، وقال: إنها مسندة وقتها. وكانت شيخة صالحة عفيفة([15]).

ووصفها ابن العماد الحنبلي بقوله: “عين الشّمس بنت أحمد بن أبي الفرج الفقيهة الأصبهانية”([16]).

وفاتها

كانت عين الشمس من المعمرات؛ إذ امتد عمرها حتى توفاها الله في نصف ربيع الآخر سنة عشر وستمائة عن تسعين سنة([17]).

لكن ابن تغري بردي ذكر في أحداث سنة 610هـ أنها ماتت ولها ست وثمانون سنة([18])، وهذا تقويم غير منضبط؛ إذ سبق وذكرنا أن الذهبي ذكر أنها قد بدأت السماع سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وذكرنا أنها قد وعت السماع وتحملته سنة 526هـ.


([1]) وِل ديورَانت: قصة الحضارة، (16/187).
([2]) انظر: ذيل تاريخ بغداد، (4/89)، وسير أعلام النبلاء، (22/23)، وتاريخ الإسلام، (13/246)، وشذرات الذهب، (7/79).
([3]) سير أعلام النبلاء، (22/23) باختصار.
([4]) تاريخ الإسلام، (13/246).
([5]) سير أعلام النبلاء، (22/23).
([6]) انظر: السابق، (19/585، 22/23-24)، وتاريخ الإسلام، (11/512)، والعبر في خبر من غبر، (2/438)، وشذرات الذهب، (6/157، 7/79).
([7]) “برزالة: قبيلةٌ بالمغرب” [تاريخ الإسلام، (14/225)].
([8]) انظر: العبر في خبر من غبر، (3/228)، وسير أعلام النبلاء، (23/55)، و تذكرة الحفاظ، (4/1423)، وشذرات الذهب، (7/318).
([9]) انظر: سير أعلام النبلاء، (23/131)، وتذكرة الحفاظ، (4/1428)، و تاريخ الإسلام، (14/478) وما بعدها، وطبقات الشافعية الكبرى، (8/99).
([10]) نفح الطيب، (2/626).
([11]) انظر: تذكرة الحفاظ، (4/1444)، وسير أعلام النبلاء، (23/327)، وتاريخ الإسلام، (14/801) وما بعدها.
([12]) انظر: تاريخ الإسلام، (13/246، 789-790، 14/89، 15/402-404، 599، 634، 663، 726-727، 813)، والوافي بالوفيات، (11/265، 16/38-39، 19/190).
([13]) انظر: ذيل تاريخ بغداد، (4/89)، وميزان الاعتدال، (4/174).
([14]) تهذيب الكمال، (25/407)، وانظر: سير أعلام النبلاء، (5/386)، وتاريخ الإسلام، (3/520-521)، وعيون الأثر، (1/107-108).
([15]) انظر: تذكرة الحفاظ، (4/1395)، وسير أعلام النبلاء، (22/23)، وتاريخ الإسلام، (13/246).
([16]) شذرات الذهب، (7/79).
([17]) انظر: سير أعلام النبلاء، (22/23)، وتذكرة الحفاظ، (4/1395)، وشذرات الذهب، (7/79)، ومرآة الجنان، (4/17).
([18]) النجوم الزاهرة، (6/209).

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى