مقالاتمقالات مختارة

عيد القدس المبارك

عيد القدس المبارك

بقلم د. محمد الصغير

قوات الاحتلال تعتبر شهر رمضان فرصة سنوية لشن حربها على أهل فلسطين، أو على الأقل تعكر صفو العبادة في الشهر الفضيل، من خلال الاقتحامات والاستفزازات التي تقع في جنبات القدس الشريف. وفي هذا العام قرر المغتصبون تهجير أهل حي الشيخ جراح أحد الأحياء الهامة في نطاق المسجد الأقصى المبارك، والاستيلاء على منازلهم وهو ما تصدى له المقدسيون ببسالة، ثم جاءهم الإسناد المباشر من غزة المرابطة التي قصفت في عمق عسقلان وأسدود وتل أبيب ومطار بن جوريون، في رسالة واضحة أن عمق الأرض المحتلة في مرمى صواريخ المقاومة، وأن تطور سلاحها على قلة الإمكانات مستمر، بل دخلت على خط الطائرات المسيرة، وهذا كله يدحض فرية أن الفلسطيني تنازل عن أرضه التي سربها إعلام العدو وتبناها إعلام أصدقائه، فلو أراد أهل حي الشيخ جراح التفريط والتنازل لحصلوا على مقابل يكفل لهم السكن في أرقى الحواضر العالمية، لكن العالم كله شاهد دفاعهم وثباتهم، كما أعادت هذه الهبة المقدسية التي آزرتها كل المكونات الفلسطينية قضية القدس والمسرى إلى صدارة المشهد، وفضحت الذين هرولوا إلى التطبيع الرخيص متذرعين بأن التقارب لوقف الاستيطان والتمكن من مساعدة الأشقاء، ثم ظهر أنهم فعلوا ذلك خوفا وطمعا، وأكد ذلك منعهم أهل الخير في بلادهم من دعم المشاريع والهيئات الخيرية التي كان لها  باع طويل في تخفيف المعاناة على أصحاب الحاجات، وليس ميدان التطبيع فقط هو الذي أحرز فيه الاحتلال تقدما وحقق فيه مكاسب، بل أظهر كتيبة من الصهاينة العرب من جلدتنا لكن يعبرون عنهم ويتحدثون بألسنتهم، ووصل الأمر ببعضهم إلى الشماتة بالمسلمين وتحميل اللائمة على أهل فلسطين، وهذا انتقال من خيانة التطبيع إلى الوقوف على باب من أبواب الردة كبير، على صاحبه أن يراجع إيمانه بعد فقده ضميره وإنسانيته، ولا يمل هؤلاء من التخذيل والتهوين من أمر المقاومة وسلاحها، ولم يختلف استهجانهم لانتفاضة أطفال الحجارة عن استنكارهم لزخات الصواريخ، التي أثبتت أن الطفل الذي قاوم بالحجارة يافعا، هو الذي طور سلاحه عندما صار شابا، وأن العنصر البشري النفيس هو أغلى ما يملكه المسلمون في مواجهة المحتلين، ولو أصغى أسلافهم من شباب الجزائر لأصوات المخذلين والمتخاذلين ما تحررت من احتلال فرنسا بعد أكثر من خمس عشرة ثورة على مدار مائة وثلاثين سنة، وإذا كان في ميدان اللعب وقوانين الرياضة أن الأرض تلعب مع أصحابها، فإن الأمر في ميدان الجد أكبر وأشد، والأرض لأصحابها ولو بعد حين.

ما يحدث الآن على أرض فلسطين هو بشارة النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاس). رواه مسلم، في رواية أحمد في مسنده: “قالوا أين هم رسول الله؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.

وقد وعد الله عباده بالنصر مع الصبر، وأمرهم بالإعداد والاستعداد في حدود المستطاع (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهَ وَعَدُوَّكُمْ).

عليكم واجب الإعداد وما بعده فمن الله وإليه، (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

فإن عدوكم أجبن من المواجهة الصريحة، ولن تكون لهم الغلبة على المؤمنين (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ).

وقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وكما أن الأمة ارتفعت معنوياتها برباط المقدسيين وصمود الفلسطينيين، فإنهم تأكدوا أيضا من التفاف إخوانهم حول قضيتهم التي هي قضية المسلمين المركزية، وأن سوس التطبيع لم يتجاوز طبقة الحكام، وأن الشعوب بقيت على عهدها ووفائها، لذا تحاول قوى الختل والمكر التقليل من هذا الدعم المعنوي الشعبي والجهاد بالكلمة، لأنهم يدركون أثره في جعل القضية حية في نفوس أصحابها، وما نراه الآن من صور البطولات ما هو إلا أثر لكلمات غرسها الأباء الصالحون والدعاة المصلحون، فآتت أكلها كل حين بإذن ربها.

ما يدفعه الحر من ضريبة الحرية يدفع أمثاله أهل الباطل في دعم الغصب والاستبداد قال تعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

ومن ذلك ما جاء في مذكرات وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “جون كيري” في صفحة 533 و534 عن اجتماعه مع نتنياهو خلال حرب 2014: “تلك المرة من المرات القليلة التي رأيت فيها نتنياهو مقهورا للغاية.. تأثرت برؤية قائد إسرائيل محاصرا بهذا الشكل. ضعيفا بشكل لم أعهده فيه.” أما أهل فلسطين فمازالوا يرفعون شعار: “كل ما نقدمه للأقصى قليل” ورحم الله أمير الشعراء إذ يقول:

بلادٌ مات فِتْيتُها   لِتَحْيَا ** وزالوا دُونَ قَوْمِهُمُ لِيَبْقُوا

ففي القتلى لأجيالٍ حياةٌ ** وفي الأسرى فِدًا لهمُ وعِتْقُ

وللحُرّيةِ   الحمراءِ   بابٌ ** بِكُلِّ يدٍ مُضرّجَةٍ يُدَّقُ.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى