مقالاتمقالات مختارة

عولمة الإسلام أم أسلمة العولمة (الجزء الأول)؟

عولمة الإسلام أم أسلمة العولمة (الجزء الأول)؟

بقلم الطاهر دحماني

في مطلع الألفية الثالثة، بعد انهيار القطب الشرقي الاشتراكي بقيادة الإتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين… برزت القطبية الليبرالية الأحادية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي أضحت اللاعب الكبير، بل اللاعب العولمي الأوحد، وأصبحت الآمر الناهي في توجيه وقيادة سياسات النظام الدولي الجديد. كما أنها تتحدى العالم برمته في سعيها إلى تكريس منطقها الاستكباري المستبد، الذي مفاده (ما أريكم إلا ما أرى).

ظاهرة العولمة الغربية، قد ملأت الدنيا وشغلت الناس، منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. اعتمادا على التطوّر الحاصل في عالم تكنولوجيات الإعلام والاتصال التي أنتجت شبكة الأنترنت العابرة للحدود والثقافات، وأنتجت عصر السماوات المفتوحة، دون رقيب ولا حسيب. وهي تفاخر بالانتصار التاريخي للنظام الغربي الرأسمالي، وتتباهى بسقوط نظيره الشرقي الاشتراكي، وتسعى إلى قولبة العالم، وتنميطه وفق هوى الساسة والمفكرين الأمريكان. بمعنى أن دأبها وديدنها يتجه إلى أمركة العالم، بأوسع المعاني، وأعمق المفاهيم اقتصاديا وثقافيا وحضاريا… والأخطر من كل ذلك، سعيها إلى فرض منظورها المثير والخطير على الكون، وفرض هيمنة عولمتها الدينية. فما هي خلفيات هذه العولمة الدينية؟ وما خطرها الماثل على واقع الأديان السماوية عموما، والديانة الإسلامية على الخصوص؟ وهل للعولمة دين معلوم يسندها وتسنده؟ وما هي ملامح هذا الدين العولمي الجديد؟ وهل نحن حقا أمام صدام حضارات وثقافات وديانات، أم بصدد صدام مصالح ومنافع؟ وما موقف العرب والمسلمين لمواجهة أخطار العولمة الدينية؟

تلكم هي التساؤلات التي نحاول مناقشتها في هذه السانحة، انطلاقا من وصف هذا المصطلح الفكري السياسي، ذي الوزن الثقيل، بأنه يعني تكريس الاستعمار الجديد، وهو المرادف للأمركة. وقد صكّه المفكرون الغربيون، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها بعد. وتركوا الناس يتجاذبون أطراف الحديث حوله، بين مساندين مادحين لمناقبه وإيجابياته، ومعارضين قادحين لمثالبه وسلبياته. وصنف ثالث حائر، متردد، واقف في منتصف الطريق، لا يدري أين يتموقع مع هؤلاء أو مع أولئك؟ فالعولمة تعني إزالة الحواجز الجغرافية، وتقريب المسافات بين الشعوب والمجتمعات. وهي تقصد تعميم الشيء، وتوسيع دائرته ليشمل العالم بأسره. بعد أن أضحت الكرة الأرضية أشبه بالقرية الكونية الصغيرة، حسب تعبير المفكر الكندي مارشال ماكلوهان Marchall Macluhan وهذا المصطلح ظهر في البدء، في عالم المال والاقتصاد في الولايات المتحدة الأمريكية. وليته إكتفى بالوقوف ضمن حدود هذا الطرح المادي الخالص. لكن سرعان ما امتدت الأطماع التوسعية لأصحابه، لتصبح أيديولوجية واضحة المعالم، تدافع عن النظام الليبيرالي، الرأسمالي وتعمل على تعميمه، وفرض نمطه على المستضعفين في مجالات السياسة والثقافة واللغة والدين… وتمثل عدوانا صريحا على قيم وخصوصيات الشعوب الأخرى، وتسلبها حقها الشرعي في التمايز والاختلاف، عن ثقافة الأمريكان ولغتهم وحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم… وتستغل الولايات المتحدة تفوقها العلمي والتكنولوجي والعسكري، لبسط نفوذها، وإحكام قبضتها على المجتمعات المعاصرة، حتى تتفرد بسيادة الدنيا، وتكون دركي هذا العالم الذي يفعل ما يشاء، بل لا أحد يسأله عما يفعل.

خطر داهم على قيم الإيمان ورسالات الأنبياء

يرى المفكر الإسلامي يوسف القرضاوي: (أن العولمة في أجلّ صورها اليوم تعني (تغريب العالم)، أو بعبارة أخرى (أمركة العالم). وهي تسمية مهذبة للاستعمار الجديد الذي ترك لبوسه وأساليبه القديمة، ليمارس عهدا جديدا من الهيمنة تحت مظلة هذا العنوان اللطيف (العولمة)، وهي تعني فرض الهيمنة الأمريكية على العالم. وأي دولة تتمرد أو تنشز، لابد أن تُؤدَّب بالحصار، أو التهديد العسكري، أو الضرب المباشر، كما حصل مع العراق والسودان وإيران وليبيا. إنها تعني فرض السياسات الاقتصادية التي تريدها أمريكا، عن طريق البنوك والمنظمات الدولية التي تتحكم فيها، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية وغيرها. وأكثر من ذلك تعني فرض ثقافتها الخاصة القائمة على الفلسفة المادية البراغماتية، وتبرير الحرية إلى حد الإباحية، وإشاعة كل ما يخالف تعاليم وقيم الأديان السماوية كلها.)

موقف هذا المفكر الإسلامي يلخص انشغال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ويبين لنا مدى خطورة العولمة على القيم الأخلاقية، ومحاولتها قطع صلة البشر بالسماء، والتنكر للوحي الأعلى، والتنصُّل من رسالات الأنبياء. واستدراج البشر للانغماس في أتون المنافع المادية، وإشباع فحيح الغرائز، وإباحة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وتشجيع المثلية الجنسية (زواج الرجل بالرجل، وزواج المرأة بالمرأة). وهو ما ينذر بهدم الأسرة، وتقويض أساسات الإيمان، وتهديد الأمن الأخلاقي، ونسف قلاع الأمن الديني للأفراد والشعوب. ولا يوجد ما هو أخطر من المساس بحصون العقيدة الدينية، التي تعتبر صمام أمان الأمن الهوياتي للبشر، والتعدي عليها خط أحمر فاصل، لا يسمح بتجاوزه تحت أي ذريعة أو قناع. غير أن العولمة الغربية، ما فتئت تمارس عدوانها السافر على كل ما يمتُّ بصلة لرسالات الأديان، ليتسنى لها التمكين لعولمة الدعر والعهر، وتعميم العربدة الأخلاقية… وبذلك تتهيأ لها الأجواء للسيطرة التامة على المستضعَفين في كافة أرجاء القرية الكونية، وهي تستغل تفوقها العلمي والتكنولوجي والإعلامي والنووي والمالي لتركيع ما يسميه المفكر مالك بن نبي: (محور طنجة – جاكرتا)، بمعنى إقدام العولمة على شن حرب ضروس على تدين العالم الإسلامي، لإضعاف طاقاته، وضربه في مقتل.

دينها المال والأعمال والبورنوغرافيا

الفرق كبير والبون شاسع بين خطاب العولمة الذي في ظاهره رحمة حرية العقيدة، لكن ممارساتها على الأرض فيها العذاب والشوك والحنظل بالنسبة للمؤمنين، إذ يتجلى خطابها الخادع، وسلوكها المدمر للتدين، فهي تدفع بكل ثقلها المادي والأدبي لتكون عقيدة بديلة لسكان العالم، وتصبح العقيدة الغالبة للعالم المعاصر، من خلال فرض منطق اللهث وراء بريق الربح المادي، والجري خلف المال، وحياة الرفاه، وإطلاق العنان لإشباع فحيح الغرائز، والثورة على تقاليد الأسرة والزواج الشرعي… وأصبحت النخب المتغربة المتعولمة في عالمنا العربي الإسلامي، تروج لهذا الطرح العولمي الخطير بين ظهرانينا. وبدأت تتعالى صيحات التمرد على القيم الدينية تحت مسميات ماكرة مثل حرية العقيدة، وحرية الفكر، وحرية العهر والدعر. وهي كلها دعوات هدامة، تجاهر علنا بتصويب سهامها القاتلة نحو المواريث الدينية للمستضعفين، وهو ما يثبت أن العولمة الراهنة بقيادة الأمريكان، لا دين لها سوى عبادة الدولار والبترول. وهي تعمل على حمل المجتمع الدولي على اعتناق دين واحد وواحد فقط، وهو اللهث وراء عالم المال والأعمال والبورنوغرافيا. وهي تبذل النفيس والرخيص ليبتعد المؤمنون على أديانهم، ويتخلوا على يسوع المسيح، ويتنكبوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وينسوا كل ما يقربهم من الله تعالى، وتنصب اهتماماتهم على عبادة الأورو والدولار ومشتقاتهما فقط. وبالتالي، فالدين الأوحد للعولمة يتمثل في الدفع لإشباعها الجزء الأسفل للإنسان، وإخلاده للأرض، وإعلانه القطيعة التامة مع عالم القيم الخلقية والدينية. وهل يوجد عدوانٌ اشد خطرا، وأعتى فتكا على الكرامة الإنسانية، مثل العدوان على تجريدها من أهم مقومات هويتها الدينية التي تدعو إلى التآخي والتعاون والتآلف بين الناس. لكن دين العولمة -إذا كان لها دين أصلا- يمكننا توصيفه باللادين. وهو في تصوُّرنا جاهلية جديدة في هذا العصر. ودعوة لبثِّ الإفلاس القيمي للبشرية، والزج بها في أسْر المادة، والغرائز، وكل ما يبعدها عن الإيمان بالله والاستقامة على شرائعه، والالتزام بشعائره.

ترمي العولمة إلى سلخ الشعوب الأخرى عن أصولها الدينية، وتجريدها من قيمها الخلقية، من خلال تعميمها نمط إباحة العري، والترخيص بإنشاء نواد وشواطئ خاصة بالعراة، وعولمة إباحة ممارسة الجنس بين الرجال والنساء دون قيد أو شرط، وإباحة اللواط والسحاق، وإباحة الإجهاض، وقتل الأجنة في البطون. وإقرار ذلك رسميا في المنظومة القانونية لبعض برلمانات الدول الغربية.

هذا ما تريده منا العولمة الدينية العابرة للحدود، والمخترقة للقارات والثقافات والديانات، وتعمل على إرغامنا على التطبيع معه، والإذعان له رغم تعارضه مع قيمنا الدينية التي تعتبره منكرا وردة وكفرا بواحا… ولعل ثقافة التطبيع الديني التي ترومها العولمة الدينية، مفادها محو آثار التدين في نفوس الأفراد والمجتمعات، وتضييق الخناق على مظاهر التعبد الصحيح، ومحاربة المتدينين الجادين، ومحاصرتهم إعلاميا، والتشهير بأخطائهم، والتخطيط لتشويههم، والحط من شأنهم، لمنع تأثيرهم في الناس تحت دعاوى حرية الرأي والتعبير، يتم التطاول على الأنبياء، وسب الأديان، مثل الإساءة المجانية بالرسوم الكاريكاتيرية لرسولنا الكريم.

(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى