بقلم صديق زعطوط
بعد أكثر من 15 سنة منذ تخليه عن السلطة طواعية (سنة 2003)، عاد المخضرم مهاتير محمد رئيسا للوزراء في ماليزيا بعد فوز التحالف الذي يترأسه في الانتخابات العامة بعد منافسة شرسة ضد سلفه نجيب عبد الرزاق، ليصبح بذلك مهاتير محمد أكبر سياسي منتخب في العالم (93 سنة)، ليخط بذلك تاريخا جديدا من نجاحات ماليزيا بعدما كان له الفضل الكبير في النهضة الاقتصادية للبلاد خلال ثمانينيات القرن الماضي.
خلال برنامج المقابلة الذي تبثه قناة الجزيرة خاطب المقدم علي الظفيري الدكتور مهاتير محمد قائلا: “أنا مصدوم، لقد توقعت أن أجد هذا التسعيني متقاعدا وبعيدا عن العمل السياسي المرهق والثقيل”، فأسهب الدكتور مهاتير يشرح في تعقد وضع البلاد وانتشار الفساد أعلى هرم السلطة وضعف المؤسسات وتراجع الاقتصاد، كان الدكتور مهاتير يتحدث عن ماليزيا وكأنها قلبه النابض ويشرح الوضع وكأنه الدم الذي يسري في عروقه، نعم كذلك هم صناع النهضة فمهاتير الذي تنازل عن السلطة في 2003، كان قد وضع خارطة طريق لماليزيا 2020 حتى تصبح رابع أقوى اقتصاد في آسيا، وبقي يتابع الوضع ويراقب، ولما تطلب الأمر تدخله تناسى سنه وعاد محملا بآمال شعب يصبو لتصحيح الأوضاع.
بالرغم من الرصيد الحافل لحزب “أمنو” وتقديمه الكثير لماليزيا خاصة وأن مهاتير محمد يعتبر واحدا من أعضائه، إلا أن ذلك لم يشفع له بعد تفشي الفساد فيه وسطوة أصحاب المال الفاسد عليه |
اعتاد مهاتير على خوض الصراعات منذ صغره فقد تم عزله من البرلمان سنة 1969 بسبب خطاب وجهه إلى رئيس الوزراء آنذاك تنكو عبد الرحمن انتقد فيه بشدة طريقته في إدارة البلاد، ليعود بعد ذلك سنة 1970 ويكتب الكتاب الذي تم منعه من التداول المُعنون بــ “معضلة الملايو” انتقد فيه بشدة الأغلبية العرقية الملايوية التي ينتمي إليها على كسلها في تطوير البلاد وركونها إلى الفلاحة. لكن المميز في مهاتير محمد أنه لا يحمل الصراعات معه بل هي عابرة وصراعات تحكمها المبادئ وليس النزعات الفردية والاعتبارات الشخصية، فها هو يتحالف اليوم مع عدوّه بالأمس أنور إبراهيم الذي كان سببا في سجنه، وقد كان قبلها رفيقه في النهضة ونائبا في رئاسة الوزراء، ليس هذا فقط بل نافس مهاتير في هذه الانتخابات من زكّاه هو بنفسه لقيادة البلاد نجيب عبد الرزاق وقد كان يُدعى ربيبه، ومباشرة بعد فوزه منعه من السفر وأمر بمداهمة منزله.
تحتوي ماليزيا واحدة من أكثر التركيبات الديموغرافية تعقيدا في العالم حيث تتكون من العديد من الديانات والأعراق. من ناحية الإثنيات هناك ثلاث رئيسية هي أغلبية ملايوية تمثل نصف السكان، تأتي بعدها الصينية تمثل ربع السكان، وأكثر من 7 بالمائة هنود بالإضافة إلى أقليات عرقية أخرى. من ناحية الديانات يمثل الإسلام الأغلبية ولكن هناك حضور كثيف للبوذية، المسيحية، الهندوسية وطوائف أخرى. بعد التصادم الذي حصل سنة 1969 بين الملايو والصينيين، تبنت الدولة الماليزية إدارة راشدة للتعدد الهُوياتي أثمرت انسجاما اجتماعيا وامتزاجا عرقيا وتسامحا دينيا وتعززت الثقة بين مكونات المجتمع، وهو ما ظهر جليا في الانتخابات، حيث احتوت تشكيلة تحالف “الأمل” أربعة أحزاب وهي “عدالة الشعب” بزعامة أنور إبراهيم، و”العمل الديمقراطي” (الذي يهيمن عليه الصينيون في المعارضة)، و”الأمانة الوطنية” الذي انشق عن الحزب الإسلامي، و”وحدة أبناء الأرض” الذي شكله مهاتير بعد انشقاقه عن حزب “أمنو” الذي يمثل المالايو. فيما احتوت تشكيلة تحالف الجبهة الوطنية 14 حزبا، أبرزها المنظمة القومية المالايوية المتحدة التي تعرف اختصارا بـ “أمنو” و”الجمعية الصينية الماليزية” و”حزب المؤتمر الهندي الماليزي”.
بالرغم من الرصيد الحافل للحزب وتقديمه الكثير لماليزيا خاصة وأن مهاتير محمد يعتبر واحدا من أعضائه، إلا أن ذلك لم يشفع له بعد تفشي الفساد فيه وسطوة أصحاب المال الفاسد عليه، وبالرغم من استعمال نجيب عبد الرزاق العبارات الجذابة المخاطبة لعواطف الشعوب من قبيل الخطاب التحرري والقضية الفلسطينية، إلا أنه فشل في مواجهة صانع النهضة الاقتصادية الماليزية الذي رفع دخل الفرد من ألف دولار سنويا إلى 16 ألف دولار، والذي كان يتكلم بلغة اقتصادية رصينة يفهمها الشباب المتطلع لنهضة اقتصادية جديدة في ماليزيا خاصة بعد تراكم الدين العام والتضخم الذي أضر بالمواطنين، في عالم أصبح الاقتصاد هو المعيار الحقيقي لسياسات الدول اليوم وليس كما كان الحال قبل 60 سنة.
كان جرس الإنذار الذي أطلق كل هذه الجلبة هو فضيحة صندوق التنمية الحكومي الماليزي (MDB1)، وذلك بعد وجود ثغرات بمليارات الدولارات تورط فيها رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق حيث استفاد من عدة تحويلات مالية بضلوع كل من السعودية والإمارات. هذه الفضيحة التي ظهرت للعلن سنة 2015 ساهمت في تغيير جذري للخارطة السياسية في البلاد، حيث عاد مهاتير من تقاعده وانشق العديد من إطارات حزب “أمنو” وتوحدت المعارضة المنقسمة (لا تزال كذلك) لأول مرة من أجل غاية واحدة وهي إسقاط نجيب عبد الرزاق، بل حتى شقيقه سعى للإطاحة به وكتب على الشبكات الاجتماعية: “تحتاج ماليزيا إلى إعادة تقويم كبيرة، لكن كل المحاولات في ظل النظام القديم فشلت. يمكنكم تحقيق ذلك الآن”، وكتبت آزرين أحمد ابنة زوجته قائلةً: “اليوم يمثل نهاية يوم الاستبداد التي صلَّى الكثيرون من أجلها”، لتنتهي فصول الحكاية بهزيمة مدوية للإتلاف الحاكم منذ ستة عقود بعد سقوط كبير في شعبيته بسبب هذه الفضيحة عكس كل التوقعات، وبعد فوز مهاتير صدر عفو ملكي عن أكبر معارض سياسي في البلاد أنور إبراهيم، ويجري التحقيق مع رئيس الوزراء المنتهية صلاحيته.
قد تكون شخصية مهاتير محمد لا تحقق الإجماع في ماليزيا وهو حال كل الشخصيات السياسية في العالم، لكن التجربة الماليزية تبقى نموذجا خصبا لاستخلاص الدروس الاقتصادية والسياسية خاصة للنخب العربية التي ترنو إلى دول مدنية متقدمة.
(المصدر: مدونات الجزيرة)