مقالاتمقالات مختارة

عودة القدس للواجهة .. هل تعيد المواجهة؟

بقلم د. عبد العزيز التركي

تصريحات المسئولين الأمريكيين الأخيرة – وعلى رأسهم رئيسهم ترمب – بقرب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ مقدمة مقصودة لإضفاء الصفة اليهودية الرسمية على المدينة، ومن ثَم تقريب الخطر الوجودي إليها، تعجيلاً بتنفيذ الخطط التلمودية التوراتية؛ وهو ما سيخلط الأوراق وربما يقلب الطاولات؛ ليعيد قضية بيت المقدس – إسلامياً – إلى واجهة الأحداث الأمامية، بعد أن حولتها تداعيات الثورات العربية إلى مسألة هامشية.

لقد عودت تلك المدينة المقدسة دورات التاريخ ألا تتجاوزها حتى تقف عندها.. ربما لتغير مسارها. فقد كانت القدس عبر تاريخها الطويل محط أنظار الموحدين ومهوى أفئدة الصالحين من أتباع الرسل في سائر الأمم، وظلت محوراً لالتقاء أجناس البشر وأصنافهم؛ سواء في ظروف تلاقح الحضارات في أزمنة السلام، أو في خطوب تصادمها أوقات الحروب.

ولأن القدس – التي تعد أقدم مدن العالم – كانت خلال قسم كبير من عمر البشرية مهبطاً للوحي وموطناً  للنبوات؛ فقد تناوبت الأمم السيطرة عليها، وتبادلت الجيوش المتصارعة احتلالها أو تحريرها، ذلك لأن أصحاب الديانات السماوية الحقة كانوا دائماً يصطدمون بأصحاب الديانات الأرضية الباطلة، بغرض إنقاذ القدس وإعادة فتحها، فكانت تنشأ عن ذلك موجات الغزو وحملات الاجتياح؛ التي كانت مدينة القدس مسرحاً دائماً لها، بما يشهد لسنة الدفع القدرية الكونية التي يقول الله تعالى عنها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، وقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، والمعنى كما قال المفسرون: لولا إرادة الله في مدافعة المؤمنين من أهل كل ملة كفار أمتهم بالجهاد والقتال؛ لهدمت الأماكن التي يعبد الله تعالى فيها على ما شرعه الرسل، ولمنع الكفار المؤمنين من تعظيم شعائر الله تعالى فيها.

ظل بيت المقدس طوال تاريخه – وسيظل – عامل جذب للأُباة الموحدين والأحرار الذائدين عن الدين، كي يواجهوا أنواع الغزاة والطغاة الذين يريدون انتهاك حرمته وتدنيس طهارته بأنواع الانحرافات الشركية والكفرية، التي يريد أولياء الشيطان في كل زمان أن يخرجوا بها الأراضي المقدسة من قدسيتها وينزعوا عنها بركتها.

إطلالة ضرورية على المسيرة التاريخية:

معلوم أن بيت المقدس اكتسب قدسيته من البيت المقدس والمسجد العظيم فيه، وهو «المسجد الأقصى» الذي صلى فيه عشرات أو مئات الأنبياء، حيث بناه أبو الأنبياء؛ إبراهيم – عليه السلام – بعد بنائه المسجد الحرام بأربعين عاماً، وقد جدده من بعده بعض الأنبياء من ذريته، ولكن سليمان – عليه السلام – بناه بناءً عظيماً يليق بنبي ملك، آتاه الله من كل شيء، ولهذا نُسب إليه هذا المسجد – الذي يسميه أهل الكتاب بـ«الهيكل»، فقيل «هيكل سليمان». وتتابعت على هذا المسجد أحداث تاريخية كبرى، انعكست على تاريخ المدينة التي كان وجود المسجد بها سبباً في جذب الأنظار إليها.

ولن يستطيع فَهْم حاضر القدس، ومستقبلها وتاريخها القابل؛ من لم يُلِم – ولو بالخطوط العريضة – من ماضيها الحافل وتاريخها العجيب. فالقدس التي تناوبت على غزوها عشرات الجيوش في مئات المعارك؛ مرت بمحطات تاريخية حرجة، كانت تمثل مفترق طرق في مسارات التاريخ، وقد تناوبت الأمم والشعوب على سكناها، إما فاتحين بالدين الحق، أو مسلطين من الله على من لم يقيموا أو يستقيموا فيها على الدين الحق.

• يرجع  تاريخ القدس إلى أكثر من خمسة آلاف سنة؛ وأطلقت عليها الأمم التي سكنتها أسماء مختلفة، فقد أطلق الكنعانيون الذين هاجروا إليها في الألف الثالثة قبل الميلاد اسم «أورساليم»، وتعني مدينة السلام أو مدينة إله السلام. وهي الكلمة التي اشتقت منها كلمة «أورشاليم»، التي تنطق بالعبرية «يروشاليم»، ومعناها بيت السلام المقدس، وتذكر التوراة التي ذكرت فيها هذه الكلمة 680 مرة؛ أن «ساليم» هو اسم ملك عربي، كان صديقاً لإبراهيم. ولا شك أن تاريخها الديني التوحيدي يبدأ مع هجرة إبراهيم عليه السلام من العراق إلى الشام. وظلت ذريته تتعاقب بها حتى نزل حفيده يعقوب (المسمى أيضاً إسرائيل) مع بنيه إلى مصر في عهد حكم يوسف عليه السلام لها. وتتابعت عليها بعد ذلك عهود حكم الموحدين وعصور سيطرة المشركين الوثنيين، لتكون تلك المدينة هي الشاهد على كل عصر؛ بمنظار ومعيار الدين في الهزيمة والنصر.

• سكنت تلك المدينة قبيلة «اليبوسيين» من البطون الكنعانية العربية، قبل ميلاد عيسى عليه السلام، بألفين وخمسمئة عام وأطلقوا عليها اسم «يبوس».

• ثم خضعت لحكم الفراعنة بدءاً من القرن السادس عشر قبل الميلاد، وحتى القرن الرابع عشر، مع فترات انقطاع قليلة كان المصريون القدماء يخرجون منها ثم يعودون إليها.

• ثم أذن الله للمؤمنين من بني إسرائيل في عهد داود عليه السلام أن يعودوا إليها بعد الخروج، في حكم توحيدي خالص منذ عام 977 أو 1000 ق.م، وسميت وقتها مدينة داود، ودام حكمه لها أربعين عاماً، ثم خلفه ولده سليمان – عليه السلام – فحكمها ثلاثة وثلاثين عاماً.

• استولى العراقيون القدماء على القدس، وأخذوها من بني إسرائيل لما بالغوا في الانحرافات والخروج عن الصراط، فقد احتلها الملك البابلي «نبوخذ نصر الثاني» بعد أن هزم آخر ملوك اليهود (صدقيا بن يوشيا) عام 586 ق.م، وأقدم هذا الطاغية على تدمير المسجد الأقصى أو «الهيكل» عام 587 ق.م، وأعمل في بني إسرائيل القتل والأسر والسبي، ونفاهم إلى مدينة بابل، بمن فيهم الملك صدقيا نفسه، وهي الفترة التي أُطلق عليها تاريخياً «السبي البابلي».

• شاء الله تعالى أن يرحم بني إسرائيل بعد طول ابتلاء؛ فقد كانوا لا يزالون على التوحيد، ولكن مع انحرافات وشذوذات عن أحكام الشريعة التي جاءتهم بها أنبياؤهم، وذلك في مدة كانت بلاد الفرس خاضعة فيها لحكم ملك صالح وموحد – وهو قورش الإخميني – حيث انتصر ذلك الملك على البابليين الوثنيين، وسمح لبني إسرائيل بالعودة للقدس عام 538 ق.م وأعاد بناء المسجد الأقصى.

• بعد ذلك بنحو مئتي عام استولى القائد اليوناني الوثني الإسكندر الأكبر على فلسطين والقدس عام 333 ق.م، وبعد وفاته واصل خلفاؤه المقدونيون والبطالمة والسلوقيون السيطرة على المدينة، فكانت تلك المدة تحت سيطرة الحضارة الإغريقية الوثنية التي ظلت بها حتى عام 63 ق.م.

• بعد الإغريقيين اليونان استولى الرومان على القدس عام 63 ق.م وضموها إلى الإمبراطورية الرومانية، واستمر حكمهم لها حتى عام 636م، لكن اليهود قاوموا الرومان، وقاموا بثورات في الفترة من 66 إلى 70م فقمعها الحاكم الروماني «تيطس» بقوة باطشة، فأحرق المدينة وأسر آلاف اليهود، ودمر المسجد الأقصى للمرة الثانية.

• أجبر الوثنيون الروم بني إسرائيل على العيش رغماً عنهم تحت هيمنة الحكم الروماني، إلى أن عاود اليهود الثورة والعصيان مرة أخرى في عامي 115 و132م وتمكنوا بالفعل من السيطرة على المدينة، إلا أن الإمبراطور الروماني «هدريان» قمعهم بعنف مرة ثانية، وأخرج اليهود من القدس، ولم يُبق إلا النصارى، ثم أمر بتغيير اسم المدينة إلى «إيلياء» واشترط ألا يسكنها يهودي.

• دخل الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول في دين النصارى، وأجرى فيه تحولات شركية كبيرة، ونقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى بيزنطة، وأعلن النصرانية ديانة رسمية للدولة، فكانت نقطة تحول بالنسبة للنصارى في القدس حيث بُنيت كنيسة القيامة عام 326م، فكان ذلك مدخلاً لتثبيت النصارى حقاً دينياً لهم في القدس، يفوق دعوى اليهود بالحقوق الدينية والتاريخية فيها.

• بنيت تلك الكنيسة داخل أسوار البلدة القديمة في القدس. فوق «الجلجلة» أو «الجلجثة» أو«الجمجمة»، وهي مكان الصخرة التي يعتقد النصارى زوراً أن المسيح صُلب عليها. وتعد تلك الكنيسة هي الأقدس والأكثر أهمية لدى النصارى منذ بُنيت، وهي تحوي – وفق معتقد النصارى – المكان الذي دُفن فيه المسيح، ولهذا سُمّيت كنيسة القيامة، نسبة إلى قيام عيسى من بين الأموات في اليوم الثالث من الأحداث التي أدت إلى موته على الصليب بحسب اعتقاد النصارى.

• تناحر الروم فيما بينهم، وانقسمت الإمبراطورية الرومانية عام 395م إلى قسمين متناحرين مما شجع الفُرس على العودة لاحتلال القدس، فأغاروا عليها ونجحوا في احتلالها؛ في الفترة من 614 إلى 628م، ثم استعادها الرومان مرة أخرى وظلت بأيديهم حتى الفتح الإسلامي في العام السادس عشر للهجرة، الموافق لعام 636 للميلاد.

أكناف بيت المقدس تحت حكم المسلمين:

آل مصير القدس إلى حكم التوحيد، بعد عصور تناوب فيها الأبرار والفجار حكمها، تبعاً لجريان السنن الإلهية القدرية على أرضها، فقبل الهجرة النبوية بعام، وفيما يوافق عام 621م تقريباً؛ شهدت القدس زيارة سيد الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فصلى بجميع الأنبياء الذين جمعهم الله للقائه هناك؛ إيذاناً بأن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة للبشر، ثم صُعد به إلى السماوات العلا.

• بعد عشر سنوات من الإسراء والمعراج؛ دخل الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مدينة القدس سنة 15هـ – 638م، بعد انتصار الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح على الروم، واشترط البطريرك «صفرونيوس» راعي المدينة أن يتسلم عُمر المدينة بنفسه، فقدم إليها، وكتب مع أهلها «العهدة العمرية»، وهي وثيقة منحتهم حرية العبادة مقابل دفع الجزية. وغير الفاروق اسم المدينة من إيلياء إلى بيت المقدس، ونصت الوثيقة ألا يساكن النصارى فيها أحد من اليهود، فهم لم يكتفوا بجحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل كانوا على رأس أشد الناس عداوة له ولأمته من بعده.

• اصطبغت المدينة منذ ذلك الفتح بصبغة الإسلام، فبعد عهد الخلافة الرشدة، ظلت تحت حكم الخلافة الأموية من عام 41 إلى 132 للهجرة، الموافق لأعوام 661 – 750م، وبنى عبد الملك بن مروان مسجد الصخرة وأعاد بناء المسجد الأقصى بناء عظيماً.

• برغم هيمنة الحكم الإسلامي على القدس طيلة عهد العباسيين (132 – 656هـ)، ومع حمايته للمدينة المقدسة؛ إلا أنها وقعت لمدد محدودة في أيدي المبتدعة الزنادقة من الفاطميين العبيديين والقرامطة، الذين تسببوا في إضعاف قبضة المسلمين في حكمها.

سقوط القدس ثم عودتها:

• سقطت القدس في أيدي النصارى الصليبيين عام 492هـ الموافق لعام 1099م، وذلك بعد خمسة قرون من الحكم الإسلامي، وكان سقوطها بسبب الصراعات التي دارت بين السلاجقة وأدعياء التشيع من الفاطميين، وبين السلاجقة أنفسهم. وقتل النصارى عباد الصليب فور دخولهم القدس قرابة 70 ألفاً من المسلمين وانتهكوا المقدسات الإسلامية. وأقاموا في المدينة المقدسة منذ دخولهم مملكة صليبية لاتينية يحكمها ملك كاثوليكي، وفرضوا الطقوس الكاثوليكية على النصارى الأرثوذكس من سكان المدينة.

• قيض الله القائد صلاح الدين الأيوبي لاسترداد القدس من الصليبيين عام 583هـ الموافق لعام 1187م بعد معركة حطين، فعامل أهلها معاملة طيبة وأزال الصليب. من قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها لكن الصليبيين استطاعوا السيطرة على المدينة بعد وفاة صلاح الدين في عهد الملك فريدريك ملك صقلية، وظلت بأيديهم أحد عشر عاماً إلى أن استردها نهائياً الملك الصالح نجم الدين أيوب.

• في عام 642هـ الموافق 1244م، غزا المغول القدس، ضمن اجتياحهم للمشرق الإسلامي، لكن المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت عام 658هـ، وضُمت فلسطين بما فيها القدس إلى دولة المماليك الذين حكموا مصر والشام بعد الدولة الأيوبية.

• بعد زوال حكم المماليك؛ دخل العثمانيون فلسطين بقيادة السلطان سليم الأول بعد معركة مرج دابق عام 922هـ (1615 – 1616م). وأصبحت القدس مدينة تابعة للخلافة العثمانية، وأعاد السلطان سليمان القانوني بناء أسوار المدينة وقبة الصخرة، لكن «محمد علي» والي مصر ضمها للدولة المصرية التي أقامها منشقاً على العثمانيين، ثم عادت إلى الحكم العثماني مرة أخرى.

• برغم محافظة العثمانيين على القدس طوال قرون حكمهم؛ فقد عزم النصارى على استعادة السيطرة عليها كي يسلموها لليهود، تحت دعاوى دينية أخروية خرافية، تدعي أن زمان عودة المسيح عيسى قد أزف، وأن من أهم أسباب التعجيل بعودته أن يعود اليهود إلى القدس، ويتخذوا من القدس عاصمة، ومن المسجد الأقصى بعد هدمه هيكلاً ثالثاً. ولم يكن تحقيق هذا الهدف ممكناً إلا بإسقاط دولة الخلافة العثمانية التي كانت حامية لديار المسلمين ومقدساتهم، ومن ضمنها بيت المقدس.

وقعت الحرب العالمية الأولى التي أُقحمت فيها تركيا، لتخرج منها مهزومة، ولاحت لليهود لأول مرة بعد غياب ألفي عام الفرصة أن يعودوا لأكناف القدس على أكتاف النصارى، وسقطت القدس بيد الجيش الصليبي البريطاني في 8 – 9/12/1917م بعد البيان الذي أذاعه الجنرال البريطاني اللنبي، ومنحت عصبة الأمم للإنجليز حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين ولكن تحت حكم البريطانيين لمدة ثلاثين عاماً، وعملت بريطانيا مدة انتدابها على مضاعفة أعداد المهاجرين اليهود، خاصة بعد وعد بلفور عام 1917م.

وكانت بقية دول النصارى المتحكمة في القرارات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، عن طريق منظمة الأمم المتحدة؛ قد أحالت قضية القدس إلى الأمم المتحدة بعد الحرب فأصدرت تلك الهيئة الدولية قرارها في 29 نوفمبر 1947م بتدويل القدس، أي جعلها تحت إدارة دولية.

القدس.. ومئة عام من الضياع:

 في عام 1948م أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب في فلسطين وسحبت قواتها تاركة للعصابات الصهيونية فرصة ملء الفراغ، فاستغلت قطعانها حالة الفراغ السياسي والعسكري وأعلنت قيام الدولة اليهودية. وفي 3 ديسمبر 1948م أعلن ديفيد بن غوريون رئيس وزراء الكيان الصهيوني أن القدس الغربية عاصمة «للدولة الإسرائيلية» الوليدة، في حين خضعت القدس الشرقية للإدارة الأردنية، حتى هزيمة الجيوش العربية في حرب يونيو 1967م التي أسفرت عن ضم القدس بأكملها لسلطة الاحتلال الصهيوني.

وإذا كانت فلسطين قد مر عليها نحو سبعين عاماً من الاغتصاب اليهودي، والقدس قد مضى عليها خمسون عاماً من الاحتلال الصهيوني؛ فإن تلك الأرض المقدسة على هذا قد قضت مئة عام من الضياع، باعتبار أن نصارى الإنجليز الذين سلموها لليهود؛ قد احتلوها لهذا الغرض منذ عام 1917م، ففي عامنا هذا (2017م) تكون فلسطين قد أتمت قرناً من الزمان تحت أيدي غير المسلمين، قتل فيها وعذب وأسر وشرد الملايين من فلسطين وحول فلسطين.

أمريكا وصراع المستقبل على القدس:

إذا كانت بريطانيا تحمل أوزار جلب الأشرار من اليهود إلى الأرض المقدسة؛ فقد ورثت أمريكا منها ومن بقية دول الاستعمار الأوربي الصليبي كل تبعات ونتائج الغارة على العالم الإسلامي بعامة، والأرض المقدسة في الشام بخاصة، حيث تسلمت الولايات المتحدة حمل حبل الحماية والرعاية لكيان اليهود ضد مجموع المسلمين، فخلال كل الحروب التي شنتها الدولة الصهيونية على الأراضي العربية؛ كانت أمريكا تقف بلا حدود وتؤيد بلا تحفظ أي خطوة يقدم عليها اليهود للمزيد من إهانة المسلمين والهيمنة على مقدساتهم، وذلك خلال سني ما كان يسمى بالصراع «العربي – الإسرائيلي»، بمراحله العسكرية الحربية، ومحطاته التفاوضية الاستسلامية.

ولأن الحديث يطول في ذلك؛ فسوف نقتصر في هذا المقال على المشهد الأخير من الموقف الأمريكي من القدس وقضيتها المزمنة والراهنة، وكيف أنه هذا الموقف أعاد نكأ الجراح، وكرر التحذير من خطر التوجهات الأمريكية الحالية، التي تغلب عليها المسحة اليهودية والخلفية التوراتية، مهما اكتست بصيغ الدبلوماسية، أو اكتسبت صبغة العلمانية الحيادية. فمنذ صدر قانون الكونغرس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والذي صدر في 8 نوفمبر 1995م؛ والرؤساء الأمريكيون المتعاقبون يؤجلون تنفيذه خوفاً من عواقبه وتداعياته المحتملة وغير المحسوبة على اليهود، وعلى الأمن القومي الأمريكي نفسه، لكن الرئيس الأمريكي الحالي (دونالد ترمب) الذي جعل نقل السفارة للقدس أحد وعوده الانتخابية، ظل يكرر هذا الوعد؛ وقد ألمح – بل صرح – بأن المستوطنات الصهيونية في القدس لا تشكل عقبة في طريق السلام، وهو يلح على أن الواجب على الفلسطينيين ليس محاربة الاحتلال اليهودي لفلسطين؛ بل عليهم التعهد بالاستمرار في محاربة ما أسماه «الإرهاب الإسلامي» داخل فلسطين، قبل مناقشة أي اتفاقية للسلام. وكان قد عارض الإجراءات التي عرضت على مجلس الأمن بشأن الحد من بناء المستوطنات قبل تسلم منصبه، محاولاً الضغط على إدارة أوباما لاستخدام حق الفيتو لرفضها.

ترمب لم يكتف بإظهار عواطفه الحارة تجاه اليهود؛ بل عين فريقاً من ناشطي الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية لتولي ترتيبات عملية السلام التي يراها، ومن ضمن هؤلاء زوج ابنته اليهودي، الذي تهودت ابنة ترمب بناء على رغبته؛ حيث قال له: «إذا لم تستطع تقديم السلام في الشرق الأوسط، فلن يفعل أحد ذلك».

ورشح ترمب صديقه المشهور بصهيونيته «ديفيد فريدمان» سفيراً لدى الكيان الصهيوني، وهو معروف بحماسه لنقل السفارة للقدس ودعمه القوي لبناء المستوطنات فيها، إلى الحد الذي جعله يتبرع سنوياً لدعمها وتوسيعها، وقد طلب ديفيد الإقامة في القنصلية الأمريكية بالقدس، حتى قبل نقل السفارة! في نوع من التحايل الماكر، لأن المكان الذي يعمل به السفير يعد هو السفارة، وليس المبنى نفسه.

تدل الشواهد الظاهرة على أن ترمب يريد تغيير قواعد اللعبة فيما يسمى عملية السلام بنقل السفارة من تل أبيب، وقد ينقلها للقدس الغربية، تاركاً لحكومة الاحتلال تدبير نقلها فيما بعد إلى القدس الشرقية، وفق إستراتيجيتها المعلنة في توحيد شطري المدينة لتكون عاصمة موحدة أبدية للكيان الصهيوني كما يردد زعماء اليهود المتعاقبون! وهو بهذا يريد لـ«وعد ترمب» في العام 2017م أن يحقق الهدف الذي صدر من أجله «وعد بلفور» في عام 1917م!

ماذا يعني تحويل القدس إلى عاصمة لليهود؟

سيعني ذلك أولاً أن اليهود – وبخاصة المتدينين – سيدخلون مرحلة من الانتعاش الديني، والهوس التلمودي والحُمى الخلاصية المسيحانية، لأنهم عندما تصبح القدس عاصمة رسمية لدولتهم التوراتية؛ يكونون قد دخلوا على أعتاب تاريخ النهاية الذي يمهد لخروج مسيحهم المخلِّص، الذي تواتر في أدبيات الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية معاً؛ أنه لن يخرج إلا بعد إنجاز منتظريه خطوات عملية محددة:

أولها: أن تصبح «إسرائيل» دولة.

ثانيها: أن تكون القدس عاصمة لها.

ثالثها: أن يُعاد بناء هيكل سليمان الثالث مكان المسجد الأقصى.

وسيكون نقل السفارة الأمريكية بمثابة إعطاء ضوء أخضر للإصرار اليهودي على التشدد في الملفات ذات البُعد الديني، لأنه سيُتوِّج في النهاية سياسة الأمر الواقع التي فرضها اليهود ولا يزالون يفرضونها على ما يُسمى بالشرعية الدولية.

ستكون مسألة التوقيع على اتفاق سلام بين الفلسطينيين والصهاينة في حكم الملغى، لأنه لن يبقى للفلسطينيين عندها ما يتفاوضون لأجله، كما قال إسحاق شامير رئيس الوزراء الاحتلال الأسبق قبل ربع قرن. فعملية السلام القائمة على حل الدولتين؛ قامت في نظر العرب على افتراض أن تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.

سيزيد هذا القرار الطائش المتوقع من التغول اليهودي الاستيطاني فيما تبقى من أراضي الفلسطينيين في القدس، حيث بلغت نسبة تهويد مدينة القدس بنزع الملكية والاستيلاء الحكومي وغير الحكومي إلى حد كارثي، حيث أصبح عرب فلسطين لا يسيطرون إلا على نحو 13% من مساحة القدس، ويهدف الكيان الصهيوني إلى تخفيض نسبة السكان العرب الحالية من 34% إلى 12% بحلول عام 2020م.

ستقضي توجهات ترمب الحالية على المعارضة الدولية – الشكلية في معظمها – لتحويل القدس إلى عاصمة للكيان  الصهيوني، للأن ذلك سيدمر الاتفاقية الدولية بشأنها، والمتمثلة في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، الصادر عام 1947م، والذي يؤكد على بقاء القدس كياناً منفصلاً عن «إسرائيل»، وستصبح الولاية الأردنية على المقدسات الإسلامية عند نقل السفارة حبراً على ورق، وهو ما سيُعد أيضاً إلغاءً عملياً للمادة التاسعة من معاهدة السلام «الأردنية – الإسرائيلية» عام 1994م.

ستضاعف الولايات المتحدة بهذه الخطوة العداء المتنامي ضدها بين شعوب العالم الإسلامي، الذي يمثل كتلة بشرية تساوي ربع سكان العالم. وستصبح الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في الصراع الديني على بيت المقدس، بعد أن حرصت طويلاً على الظهور بمظهر الحياد، وتمسكت دائماً بدور الوسيط.

قضايا «الوضع النهائي» المؤجلة في مفوضات السلام بين العرب و«إسرائيل» وعلى رأسها مصير القدس؛ والتي تجري منذ ثلاثة عقود؛ سيكون «الوضع النهائي» لها منتهياً لحساب اليهود، تماماً كما كان مخططاً للمفاوضات، التي رُسمت مساراتها لخداع الأجيال وتضييع الأعمار وقضاء الأوقات.

ستثبّت هذه الخطوة وضعاً رسمياً يهودياً للقدس باعتبارها عاصمةً لدولة معترف بها دولياً، وهو ما سيجعل كل إجراء يقوم به اليهود في تلك المدينة مشروعاً قانوناً، بما في ذلك هدم الأقصى وبناء الهيكل الثالث مكانه.

«خريطة طريق السلام» التي تولت أمريكا إدارة مساراتها منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م سيطويها اليهود انشغالاً بخرائط حرائق أخرى نحو الحرب مع العرب والمسلمين.

سيزيد هذا الإجراء – في حال تنفيذه – من تنامي روح التعصب الديني العنيف لدى شباب الجماعات الدينية اليهودية المسلحة، وهو ما سيقابَل بمزيد من التحاق الشباب المسلم بطريق الجماعات الإسلامية المسلحة، حيث لن يرى هؤلاء أفقاً مؤثراً لتغيير مسار الغارة اليهودية الصليبية إلا من خلال ذلك الطريق.

هذا، ويحتفل اليهود كل عام بما يسمى «عيد استعادة القدس»، وكثير من المراقبين يتوقعون أن يلقي ترمب بقنبلة نقل السفارة في هذا اليوم الذي سيكون فيه ضيفاً على صديقه الحميم نتنياهو، في زيارة رسمية تعد الأولى، من راعي الحملة الصليبية على الديار المقدسة الشامية!

قد تصدق التوقعات كلها حرفياً؛ أو قد يؤجل بعضها ويعجل ببعضها جزئياً.. لحسابات أو تداعيات غير متوقعة؛ لكن المؤكد أن اليهود عازمون في حقبة إفسادهم الثاني؛ أن يستكملوا مسيرة العلو الكبير لأحفاد وبقايا بني إسرائيل، التي أخبر عنها التنزيل الإلهي الحكيم في قول الله سبحانه: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: ٤]، ولكن الذي أخبر بعلوهم الكبير وإفسادهم الثاني؛ هو أعلمنا بعلمه الغيب أنه سيخرجهم من الأرض المقدسة كلها بلا ريب، وإلى غير عودة إلا إلى الدمار والجوس خلال الديار، قال تعالى: {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:٧]، وهو سبحانه الذي توعدهم بأن يعود عليهم بالعقوبة والنكال على أيدي الرجال كلما عادوا إلى الفساد والعناد فقال عز من قائل: {وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: ٨].

قد تكون نهاية الكيان الصهيوني لا تزال آجلة، لكن بداية العودة الصحيحة لمجابهتهم ومجاهدتهم تبدو – بتقريب الأباعد لها – قريبة عاجلة، فاللهم نصرك الذي وعدت بجندك الذين أيدت.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى