عوامل سقوط الأرض المقدَّسة في أيدي الاحتلال: رؤية معاصرة 5 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
دور الأردن في حرب 1948م
يتطرَّق المؤرّخ الأمريكي ايوجين روجان في الدّراسة الَّتي يشارك بها في محتوى كتابه حرب فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948 (2001م)، والَّتي تحمل عنوان “Jordan and 1948: the persistence of an official history-الأردن وحرب فلسطين: سيادة التَّاريخ الرَّسمي”، إلى مشاركة الفيلق العربي في حرب فلسطين عام 1948م، استجابةً للضَّغط الجماهيري المنادي بمساندة فلسطين وحماية مقدّساتها. والفيلق العربي، وهو الجيش النّظامي التَّابع للمملكة الأردنيَّة الهاشميَّة الَّذي أسَّسته بريطانيا خلال سنوات انتدابها على إمارة شرق الأردن وعنيت بتدريب ضبَّاطه، وتمويله. لن ننسى أنَّ العاهل الأردني، عبد الله بن الحسين، كان يسعى إلى ضمّ القسم العربي لفلسطين إلى مملكته؛ وقد أسفرت مشاركة جيشه في المعركة عن ضمّ الضَّفَّة الغربيَّة لنهر الأردن، وفي ذلك ما يبرّر إعادة تسمية الدَّولة من إمارة شرق الأردن، الإمارة الَّتي تبسط سلطانها على الضَّفَّة الشَّرقيَّة لنهر الأردن، إلى المملكة الأردنيَّة، المسيطرة على نهر الأردن بضفَّتيه. لم يسلم عبد الله بن الحسين بتعاونه مع اليهود في سبيل تحقيق مصالحه الشَّخصيَّة، وإن امتصّ بعض الغضب من خلال إيواء نصف مليون لاجئ فلسطيني، وكانت النَّتيجة أن اتُّهم بالخيانة وأُقصي عن السّياسة العربيَّة، حتَّى اغتيل في ساحة المسجد الأقصى عام 1951م. يعيد روجان سرْد الوقائع التَّاريخيَّة المتعلّقة بدور عبد الله الأوَّل في احتلال فلسطين، بعد دحْض مزاعم المؤرّخين المعاصرين للأحداث، ممَّن دأبوا على تبرير مواقف عبد الله ومنحها الشَّرعيَّة، وكذلك اتّهامات فلسطينيين وأردنيين معارضين اتَّهموا الملك بعدم المبالاة بحقوق الفلسطينيين وعدم احترام المشروع القومي العربي، خاصَّة مع وجود وثائق تثبت تواصُل بن الحسين مع الوكالة اليهوديَّة وتفاوضه معها منذ تأسيس إمارة مطلع العشرينات، كما أشار آفي شليم في كتابه آنف الذّكر (1988م).
قبل الإفراج عن الوثائق السّريَّة للحرب بعد مرور 30 عامًا، أي عام 1978م، لم يُتح من الشّهادات على دور الأردن وملكها في حرب فلسطين سوى شهادتي جلوب بك وعبد الله التَّل، وكلاهما من ضُبَّاط الفيلق العربي. أمَّا عن جلوب بك، فهو جنرال عسكري بريطاني، شغل منصب قائد الفيلق العربي، وقد كتب مذكّراته، A Soldier with the Arabs-جندي مع العرب (1957م)، فور طرده من منصبه من قِبل الحسين بن طلال، حفيد عبد الله الأوَّل وخليفته، وحاول من خلالها تبرئة نفسه ودرء اتّهامات الخيانة عن الملك عبد الله. وأمَّا عن التَّل، فقد كان ضابطًا مجتهدًا تحت قيادة جلوب بك، عُيّن حاكمًا عسكريًّا على القُدس عام 1948م، أثناء مواجهة قوَّات الاحتلال اليهودي. يكشف التَّل في كتابه كارثة فلسطين: مذكّرات عبد الله التَّل، قائد معركة القُدس (1959م) عن خيانة جلوب بك لصالح بلاده، بريطانيا، مشيرًا إلى أنَّه طالما كشف خيانة القائد البريطاني للفيلق العربي للملك وحاشيته، لكنَّهم لم يستمعوا له. كان بين يدي التَّل وثائق تثبت خيانة جلوب بك كان من شأنها الحيلولة دون كارثة احتلال فلسطين، لكنَّ العاهل الأردني لم يلتفت إليها. انشقَّ عبد الله التَّل عن الفيلق العربي عام 1949م، وانتقل إلى العمل مع الحكومة المصريَّة، بعد مشاركته في المفاوضات بين بلاده وإسرائيل لفترة قصيرة كانت وراء موقفه من السُّلطة الحاكمة في الأردن.
كما يوضح روجان، اجتهد جلوب بك في تبرير استحواذ شرق الأردن على الضَّفَّة الغربيَّة، بادّعاء أنَّه كان لمصلحة الفلسطينيين، وأنَّ الفيلق العربي لم يدخل فلسطين لتحقيق أهداف شخصيَّة، إنَّما لمساندة الشَّعب الفلسطيني في نكبته. تتعارض شهادة جلوب مع واقع الأحداث، ولا يمكن تجاهُل حقيقة أنَّ الفيلق العربي، بقيادته البريطانيَّة، كان أداة للاستعمار سهَّلت تأسيس دولة إسرائيل، وإن زعم جلوب أنَّ الفيلق لم يتراجع عن مواقعه برغم التَّفوُّق العددي للخصم، وبرغم نفاد المئونة العسكريَّة. وكانت شهادة عبد الله التَّل أكبر داحض لرواية القائد البريطاني للفيلق العربي، حيث أصرَّ على تواطؤ جلوب بك مع القوى الاستعماريَّة لصالح الكيان الصُّهيوني، وإن ادُّعي أنَّ بريطانيا كانت على خلاف مع الزَّعامات اليهوديَّة قبيل انتهاء الانتداب وإعلان إسرائيل في 15 مايو 1948م، ولذلك امتنعت عن التَّصويت على قرار الجمعيَّة العامَّة لتقسيم فلسطين. أولى ايوجين روجان بكتابي جلوب والتَّل اهتمامًا كبيرًا، في محاولة لتبيان الصَّحيح والخاطئ فيما أدلى به كلٌّ منهما، في ضوء ما كشفت عنه الوثائق الَّتي أفرجت عنها إسرائيل والمملكة المتَّحدة.
من بين الوثائق الهامَّة في سياق بحث روجان مذكّرات الملك عبد الله الأوَّل نفسه، الَّتي كتبها قبيل وفاته، وركَّز فيها على تبرير تصرُّفاته، وبخاصَّة في تعاملاته مع اليهود، مع سرْد الأحداث بأسلوب تحيط به السّريَّة؛ حتَّى أنَّه قال فيها “ليس من اللائق بالنّسبة لي أن أخوض في موضوعات معيَّنة سريَّة يجب أن تظلَّ في طيّ الكتمان لمصلحة العرب ولمصلحة الأخوَّة العربيَّة”، نقلًا عن روجان (ص116). تعمَّد عبد الله بن الحسين عدم التَّطرُّق إلى علاقته بالوكالة اليهوديَّة، سواءً قبل حرب 1948م أو أثناء اندلاعها وبعد انتهائها بانتصار اليهود، الأمر الَّذي “يظلُّ من المحرَّمات الكبرى لدى المؤرّخين الأردنيين” (ص116). قد يُبرَّر تعاوُن عبد الله بن الحسين مع الحركة الصُّهيونيَّة بأنَّه استهدف فتْح آفاق للتَّنمية الاقتصاديَّة في إمارة شرق الأردن، الفقيرة من حيث الموارد الطَّبيعيَّة، على عكس مملكة العراق الَّتي وُلي عليها فيصل، الأخ الأصغر لعبد الله، وكأنَّما اختيرت الأردن، الملاصقة لأرض فلسطين، لعبد الله لكي يُضمن ولاؤه التَّام لليهود، الَّذين دأب على تشجيعهم للاستثمار في مجالي التَّعدين والكهرباء، وكذلك لتأجير أراضي إمارته لاستصلاحها وزراعتها.
بدأت علاقة عبد الله بن الحسين باليهود منذ بداية تأسيس إمارته، مطلع العشرينات من القرن الماضي، حيث قابل حاييم وايزمان، زعيم الصُّهيونيَّة الأهم بعد تيودور هرتزل، في لندن عام 1922م، كما التقى فريدريك كيش، رئيس المكتب التَّنفيذي الصُّهيوني في عمَّان في 1924م. غير أنَّ التَّقارب بين عبد الله واليهود ازداد خلال سنوات الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)، مع تفجُّر الأوضاع داخل فلسطين بسبب ازدياد الهجرة اليهوديَّة، وبخاصَّة من ألمانيا النَّازيَّة، حيث كان عبد الله الحاكم العربي الوحيد المؤيّد لمقترَح لجنة بيل لعام 1937م لتقسيم فلسطين، برغم أنَّه “من النَّاحية الظَّاهريَّة كان يتبع الجامعة العربيَّة في معارضتها للتَّقسيم” (ص117). يشير روجان إلى واقعة لقاء عبد الله بن الحسين بجولدا مائير، رئيس القسم السّياسي في الوكالة اليهوديَّة، في 17 نوفمبر 1947م، أي قبل 12 يومًا من صدور القرار 181 للجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة لتقسيم فلسطين، وإلى عرضه مشروع تأسيس مملكة سوريا الكبرى، في فيدراليَّة رباعيَّة تضمُّ إلى الأردن كلًّا من سوريا ولبنان والقسم العربي من فلسطين، بدافع الطَّمس على الهويَّة الفلسطينيَّة وإحباط مساعي تأسيس دولة عربيَّة على أرض فلسطين. كان عبد الله يرحّب بالتَّقسيم، أملًا في تحقيق حُلمه التَّوسعي، مع خدمة مصالح اليهود المتناغمة مع مصلحته، وفي ذلك يقول روجان (ص117):
وكان التَّقسيم يحمل في طيَّاته بشائر قيام الدَّولة اليهوديَّة بالنّسبة للمجتمع اليهودي، والتَّوسُّع الإقليمي بالنّسبة للأردن وإجهاض قيام دولة فلسطينيَّة عربيَّة، حيث إنَّه كان من المحتَّم أن يرأسها عدوُّهم المشترك مفتي القدس الحاج أمين الحسيني.
لم يكن الطَّرفان ينقصهما سوى الموافقة البريطانيَّة، كما يشير روجان، وإن كانت مائير قد وعدت بالنَّظر في عرْض بن الحسين، ولم تمنحه موافقة نهائيَّة، ولكن يبدو أنَّ العاهل الأردني صدَّق وعود اليهود، واعتقد أنَّ عرضه هو الحلُّ الوحيد للصّراع. والتماسًا للمباركة البريطانيَّة، فقد أرسل عبد الله رئيس وزرائه، توفيق أبو الهدى، إلى لندن ليلتقي بارنست بيفن، وزير الخارجيَّة البريطاني، في وجود جلوب بك، وزعم أبو الهدى أنَّ تدخُّل الفيلق العربي في فلسطين بعد انسحاب الانتداب البريطاني مطلب فلسطيني. اقتنع بيفن بعرض عبد الله بن الحسين، ولكن بشرط عدم المساس بالمناطق المخصَّصة لليهود، وفق خارطة التَّقسيم. أصرَّ العاهل الأردني حتَّى مطلع عام 1948م على أنَّ الحلَّ الدّبلوماسي هو الخيار الأفضل، رافضًا المشاركة في أيّ مقاومة مسلَّحة ضدَّ الاحتلال، ليفي بالوعد الَّذي قطعه على نفسه خلال لقائه بجولدا مائير في بلدة نهاريم. غير أنَّ عبد الله أُجبر على الإسهام في إعداد جيش الإنقاذ، وهو جيش تطوُّعي لدعم المقاومة الفلسطينيَّة، بـ 1000 بندقيَّة ونصف مليون رصاصة و350 مقاتل، وذلك بعد إثارة الشُّكوك حول تواطؤه السّرّي مع اليهود. كما سبقت الإشارة، اضطرت جامعة الدُّول العربيَّة إلى الموافقة على إرسال الجيوش العربيَّة النّظاميَّة إلى فلسطين بعد مذبحة دير ياسين في أبريل 1948م، وكان في ذلك القرار تعارُض كبير مع مشروع عبد الله التَّوسُّعي. ومع تلك النَّوايا الخبيثة للعاهل الأردني، فقد كان الأمير العام للقوَّات العربيَّة!
كان الانسحاب البريطاني من فلسطين بعد انتهاء الانتداب في 15 مايو 1948م بمثابة الضَّوء الأخر للتَّدخُّل الأردني من خلال الفيلق العربي، الَّذي كانت مهمَّته الاستحواذ على “أكبر مساحة ممكنة من فلسطين المخصَّصة للعرب في اقتراح التَّقسيم عام 1947” (ص119). أراد جلوب بك، القائد الميداني البريطاني للفيلق، الَّذي اعتُبر قائده الأعلى أميرًا لقوَّات المقاومة العربيَّة، السَّيطرة على جنين ونابلس ورام الله، مع السَّيطرة على الضَّفَّة الغربيَّة لنهر الأردن، والسَّعي كذلك إلى احتلال القُدس، الَّتي نصَّ القرار 181 الخاص بالتَّقسيم على أن تبقى منطقة دوليَّة، أسوةً بمحاولة اليهود السَّيطرة عليها. بالفعل، دخل الفيلق العربي إلى القُدس في 19 مايو 1948م، بأمر من عبد الله بن الحسين، وواصل التَّقدُّم وإحراز المكاسب حتَّى انتهاء الجولة الأولى من الحرب في 11 يونيو. حافَظ الفيلق العربي على مواقعه في القُدس، وكذلك في اللطرون، برغم تناقُص الذَّخيرة والمؤن، خلال الجولة الثَّانية للحرب (9-18 يوليو 1948م)، وحتَّى نهاية الهدنة الممتدَّة إلى 15 أكتوبر 1948م.
تضاعَف عدد المقاتلين اليهود خلال فترة الهدنة، ليفوق ضِعف عدد القوَّات العربيَّة، وبدأ موقف القوَّات المصريَّة يسوء، وسط إحجام، لا يُعرف إن كان متعمَّدًا أم لا، من القوَّات الأردنيَّة عن تقديم المساعدة. لم يطلب فاروق الأوَّل، ملك مصر (1936-1952م)، من عبد الله بن الحسين المساعدة، برغم حساسيَّة موقف قوَّاته، وبخاصَّة بعد واقعة مصادرة مؤونة عسكريَّة مُرسلة للفيلق العربي اتُّهم الأردنيون بالوقوف وراءها، واكتفى رئيس الوزراء المصري في اجتماعه بعاهل الأردن في عمَّان في 23 أكتوبر بتعليقه “إنَّ الحكومة المصريَّة ليست في حاجة إلى مساعدة أحد، ولكن أين القوَّات الملكيَّة الأردنيَّة والعراقيَّة؟” (ص123). توتَّرت الأجواء بين القوَّات المصريَّة والقوَّات الأردنيَّة، ورفض المقاتلون المصريون الخضوع لإمرة عبد الله بالحسين، باعتباره أميرًا عامًّا للقوَّات العربيَّة، بينما ادَّعى الأردنيون العجز عن توصيل الإمدادات إلى المصريين، الَّذين كان مصيرهم إمَّا القتل أو الحصار. وقد قيل إنَّ القوَّات الأردنيَّة قد انسحبت من اللد والرَّملة لتسهيل عمليَّة الهجوم على الجبهة المصريَّة للجانب الإسرائيلي. في حين انسحبت القوَّات اللبنانيَّة، بل وسلَّمت مدنًا من الَّتي سيطروا عليها لليهود.
بادر العاهل الأردني بعقد مؤتمر في مدينة أريحا، بحضور زعامات فلسطينيَّة، في 1 ديسمبر 1948م، وطالَب الحضور بضمّ الضَّفَّة الغربيَّة إلى المملكة الأردنيَّة. أرسل عبد الله بدوره إلى الاحتلال طلبه ضمَّ القسم العربي من فلسطين إلى الأردن، ويشمل ذلك الضَّفَّة واللد والرَّملة، هذا بالإضافة إلى تقسيم القُدس بين طرفي النّزاع. وتجدر الإشارة إلى أنَّ الضَّفَّة الغربيَّة لنهر الأردن ضُمَّت إلى المملكة الأردنيَّة بالفعل عام 1950م، وسط رفْض عربي لهذا الضَّمّ، الَّذي اعتُبر احتلالًا أردنيًّا لجزء من أرض فلسطين، وبقي الوضع على ذلك حتَّى احتلَّت إسرائيل الضَّفَّة خلال حرب الأيَّام السّتَّة، في 5 يونيو 1967م، وإن اعترفت بالعلاقة بين الضَّفَّتين وبالجنسيَّة الأردنيَّة لأبناء الضَّفَّة الغربيَّة. جدير بالذّكر أنَّ الحسين بن طلال بن عبد الله، حفيد عبد الله الأوَّل، أبرم في 11 أبريل 1987م مع شمعون بيرس، وزير الخارجيَّة الإسرائيلي وقتها، اتّفاقيَّة سريَّة عُرفت باسم اتَفاقيَّة لندن، نصَّت على إعادة السّيادة الأردنيَّة إلى الضَّفَّة الغربيَّة، لكنَّ رفْض إسحاق شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، نسختها النّهائيَّة أدَّى إلى تجميدها. اضطرَّ الحسين بن طلال في العام التَّالي إلى فك الارتباط بين الضَّفَّتين، استجابة لطلب منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة وتنفيذًا لقرار مؤتمر القمَّة العربيَّة لعام 1974م.
يواصل روجان سرْد موقف الأردن المتخاذل تجاه القوَّات المصريَّة المشاركة في مقاومة الاحتلال، فبعد التَّخلّي عن المحاصَرين في الفالوجا بحجَّة قطْع طريق توصيل الإمدادات، تجاهَل الأردنيون الهجوم الَّذي تعرَّضت إليها القوَّات المصريَّة وأدَّى إلى ضياع مساحات من الأراضي الَّتي كانت تسيطر عليها، أثناء انشغالهم بالتَّفاوض مع اليهود لتحقيق مكاسب من تلك الهزيمة. وممَّا أدلى به عبد الله التَّل في شهادته على موقف الأردن من القوَّات المصريَّة في ديسمبر 1948م، وبعد مؤتمر أريحا والتَّفاوض مع اليهود للاعتراف بالسّيادة الأردنيَّة على الضَّفَّة الغربيَّة، أنَّه لما سأله إلياهو ساسون، عضو المكتب السّياسي الوكالة اليهوديَّة، عن ردّ فعْل الأردن في حال تجدُّد الهجوم على القوَّات المصريَّة، ردَّ قائلًا “اضرب المصريين قدر ما تستطيع فسوف يكون محايدًا تمامًا“، نقلًا عن روجان (ص126). أشار التَّل في كتابه (1959م) آنف الذّكر إلى شعوره بالخزي لما أبداه الملك عبد الله بن الحسين من “ذُل ومسكنة” خلال تفاوضه مع إلياهو ساسون وموشيه ديان، القائد العسكري والسّياسي الإسرائيلي البارز، في 16 يناير 1949م، حيث كان همُّ عبد الله الحفاظ على مكتسبات الحرب، الَّتي حصَّلها نتيجة تخاذله عن نجدة القوَّات العربيَّة المهزومة وانتصار جيش الاحتلال (ص127).
ومع بداية مباحثات الهدنة بين إسرائيل والأردن في رودس في 4 مارس 1949م، أصرَّ جيش الاحتلال على الاستحواذ على صحراء النَّقب، الواقعة شكليًّا تحت سيطرة الفيلق العربي، الَّذي ما كان منه إلَّا أن انسحب من مواقعه، “وبعد اللد والرَّملة، كانت تلك المرَّة الثَّانية الَّتي يقوم فيها الفيلق العربي بالتَّنازل عن الأرض دون قتال” (ص128). أصرَّ الجانب الإسرائيلي على حيازة مساحة من الأراضي الزّراعيَّة في وادي نهر الأردن تبلغ مساحتها 300 كيلومتر، برغم إشغال 35 ألف فلسطيني لتلك المساحة، ممَّا كان يعني تشريد هؤلاء؛ لأنَّ الإسرائيليين ما كانوا ليفوا بوعدهم بتعويض المشرَّدين. ومع توقيع هدنة بين الطَّرفين في 3 أبريل 1949م، وبرغم الانتقادات الدُّوليَّة، وبخاصَّة الفلسطينيَّة، لذلك التَّفريط في الأراضي العربيَّة لتحقيق منافع شخصيَّة، أقدم عبد الله بن الحسين على تسليم الأراضي الَّتي أرادها اليهود، لتكون تلك المرَّة الثَّالثة الَّتي تُسلَّم فيها أراضٍ فلسطينيَّة دون قتال. لم يأبه عبد الله الأوَّل بالمصير المظلم الَّذي كان يواجه الشَّعب الفلسطيني، ما بين التَّشرُّد والهلاك والشَّتات في مختلف بقاع الأرض، مقدّمًا توسعة أراضيه على مصلحة مئات الآلاف من أصحاب الأرض (ص129):
وخلال المفاوضات المتوتّرة، كان على الملك عبد الله أن يحصل على الضَّفَّة الغربيَّة، ولكن في سبيل ذلك كان يجب أن يتسبب في تشريد عدد كبير من الفلسطينيين والَّذين لم يكن أمام الكثير منهم كثير سوى اللجوء إلى المملكة الهاشميَّة، ولأنَّهم دائمًا كانوا مهتمّين بالخيانة والبحث عن مصلحتهم الشَّخصيَّة، لم يستطع الأردنيون أبدًا التَّصالح مع ماضيهم.
(المصدر: رسالة بوست)