عوامل سقوط الأرض المقدَّسة في أيدي الاحتلال: رؤية معاصرة 4 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
نشأة العلاقات الهاشميَّة-الصُّهيونيَّة
تعدُّ علاقة عبد الله بن الحسين بالحركة الصُّهيونيَّة من أكثر الأمور الَّتي كانت تؤثّر على سمعته، لدرجة اتّهام البعض له بالخيانة والتَّواطؤ مع الصَّهاينة على حساب أهل فلسطين. ينقل آفي شليم عن الحسين بن طلال بن عبد الله، العاهل الأردني (1952-1999م) وحفيد عبد الله، دفاعه عن جدّه في تعاونه مع الصَّهاينة، بقوله أنَّ ذلك كان اتّقاءً لمكرهم بالأردن، يقينًا منه بأنَّ سطوة الحركة الصُّهيونيَّة ما كان من الممكن القضاء عليها. يضيف الحسين أنَّ “الأخلاق وسياسة القوَّة لا يتَّفقان دائمًا”، معتبرًا أنَّ مأساة الفلسطينيين، الَّتي كان لزعمائهم دورٌ فيها، ربَّما ترجع إلى عجزهم عن إدراك تلك الحقيقة (ص41). يؤيّد شليم الحسين بن طلال في زعمه أنَّ عبد الله بن الحسين كان على دراية تامَّة بالقوَّة الكامنة خلف الحركة الصُّهيونيَّة، فهو “لم يسئ أبدًا تقدير القوَّة والمهارة والالتزام المحرّك للقوميَّة اليهوديَّة في فلسطين” (ص42). غير أنَّ دافعًا آخر كان وراء تعاوُن عبد الله مع الصَّهاينة، وهو تحقيق منافع شخصيَّة كانت على حساب الفلسطينيين، وإن كان تبرير ذلك هو حياديَّة عبد الله في التَّعامل مع اليهود، دون إبداء كراهية أو نفور تجاههم، وذلك من متطلَّبات ممارسة السّياسة. وتجدر الإشارة إلى أنَّ فيصل بن الحسين، باعتبار ممثّلًا عن المملكة العربيَّة الحجازيَّة، قد أبرم في يناير 1919م مع حاييم وايزمان، رئيس المنظَّمة الصهيونيَّة العالميَّة، اتّفاقيَّة تسمح بالاستيطان اليهودي لأرض فلسطين، فيما عُرف بـ “اتّفاقيَّة فيصل-وايزمان”. وبرغم عدم وجود نتائج ملموسة لتلك الاتّفاقيَّة، فقد كانت بداية للتَّعاون بين الهاشميين والصَّهاينة في إحكام السَّيطرة اليهوديَّة على فلسطين والالتفاف على الغضب الشَّعبي.
لم يخفِ عبد الله بن الحسين ميله إلى التَّعاون الرَّسمي مع اليهود والسَّماح بدخولهم إلى إمارة شرق الأردن، كما أنَّه لم يكن الوحيد المرحّب بذلك التَّعاون؛ فقد كان شيوخ القبائل يريدون تأجير أراضيهم للمزارعين اليهود. أسَّس مثقال الفايز، شيخ قبيلة بني صخر، وهي إحدى أهمّ القبائل الأردنيَّة، عام 1933م حزبًا سياسيًّا أطلق عليه حزب الوحدة، طالب من خلاله بإنهاء الوجود الأجنبي في الإمارة، كما روَّج لفكرة أنَّ الاستيطان اليهودي وحده يمكنه حماية شرق الأردن من المجاعة. وكان من بين أكبر المشجّعين على التَّعاون الاقتصادي مع اليهود رفيفان المجالي، زعيم الحزب الحاكم في المجلس التَّشريعي وشيخ إحدى أهمّ القبائل الأردنيَّة، في محاولة لإيجاد وسيلة للاستفادة من الأراضي القاحلة. غير أنَّ الانتداب البريطاني هو الَّذي وقف في وجه مساعي أمير شرق الأردن وشيوخ كبرى القبائل تلك من خلال إصدار قانون الجنسيَّة، الَّذي حظر على غير الأردنيين استئجار الأراضي. لم تردع تلك الخطوة الَّتي اتَّخذها الانتداب الأمير عبد الله أو تثنه عن التَّعاون مع اليهود، متَّخذًا من القضيَّة الفلسطينيَّة ذريعته في التَّواصل مع زعماء الحركة الصُّهيونيَّة، حتَّى أنَّه ادَّعى مطلع الثَّلاثينات أنَّه أوَّل زعيم ديني وسياسي عربي ينصّب نفسه متّحدثًا باسم عرب فلسطين. يذكر شليم أنَّ هدف عبد الله بن الحسين كان ضمّ فلسطين إلى إمارته، وقد طلب من الوكالة اليهوديَّة أن تقنع الانتداب البريطاني بذلك، متقدّمًا بخطَّة من 4 أركان من شأنها إنهاء الصّراع العربي-اليهودي في فلسطين. أمَّا عن أركان تلك الخطَّة، فهي: ضمّ فلسطين إلى إمارة شرق الأردن تحت حُكم عبد الله بن الحسين؛ واعتراف العرب بالانتداب البريطاني، مع ضمان حقوق اليهود؛ وتأسيس حكومة ومجلس تشريعي لكلّ من شرق الأردن وفلسطين، مع خضوع رئيس الحكومة في الإمارتين لتوجيهات عبد الله؛ وإبرام اتّفاقيَّة بين العرب واليهود بشأن الهجرة اليهوديَّة وشراء الأراضي بمنأى عن المجلس التَّشريعي. وبرغم كلّ التَّنازلات الَّتي كان بن الحسين على استعداد لتقديمها، لم تقبل الوكالة اليهوديَّة خطَّته، بحجَّة معارضة آل الحسيني، وعلى رأسهم الحاج أمين الحسيني، مفتي القُدس، لتلك الخطَّة.
يتعمَّد آفي شليم تصوير الصّراع بين الحاج أمين الحسيني وعبد الله بن الحسين بأنَّه كان صراعًا سياسيًّا على الزَّعامة، وكأنَّما كان سبب معارضة الحسيني ضمّ فلسطين إلى شرق الأردن هو خشيته على نفوذه الشَّخصي ونفوذه أتباعه. استخدم الحسيني الآلة الدّعائيَّة في التَّنديد بعلاقة الأمير عبد الله بالوكالة اليهوديَّة، ووصفه بـ “صديق اليهود”، كما اتَّهم القبائل المساندة له بالخيانة. وفي عام 1936م، ازدادت العلاقة بين الخصمين توتُرًا مع ازدياد الهجرة اليهوديَّة من ألمانيا إلى أرض فلسطين، هربًا من مطرقة الجيش النَّازي، حيث أعلنت اللجنة العربيَّة العليا، برئاسة الحسيني، إضرابًا للمطالبة بإيقاف الهجرة اليهوديَّة ومنْع بيع الأراضي للمستوطنين اليهود. وكان عبد الله بن الحسين، كما اعترف في مذكّراته، قد أرسل رسالة إلى المندوب السَّامي البريطاني، حذَّره فيها من تداعيات الهجرة اليهوديَّة المتزايدة، مشيرًا إلى اقتناع العرب بأنَّ الوجود اليهودي في فلسطين ليس لمجرَّد العيش، إنَّما لتأسيس وطن قومي هناك. لم يؤيّد عبد الله الإضراب، كما منع شعب شرق الأردن من المشاركة فيه، ودعا حُكَّام العرب إلى اتّخاذ موقف موحَّد من الإضراب، وهو الرَّفض والتَّشديد على أولويَّة التَّفاوض السَّلمي على المواجهة المسلَّحة. ويذكر شليم أنَّ جهود عبد الله بن الحسين كانت بتحريض من الوكالة اليهوديَّة على أن يستغلَّ نفوذه في إنهاء الإضراب، ولكن “لا يعني ذلك أنَّه كان يعمل نيابة عن الوكالة اليهوديَّة”، كما يدَّعي المؤرّخ اليهودي (ص55)! كان عبد الله بن الحسين يجتهد في الحفاظ على سمعته من خلال تعامله الحذر مع الصَّهاينة خلال فترة الإضراب، وقد آثر لعب دور الوسيط بين الانتداب البريطاني وزعماء المقاومة الفلسطينيَّة، ومنهم الحاج أمين الحسيني. أعاد بن الحسين التَّقدُّم بعرضه ضمّ فلسطين إلى شرق الأردن لإنهاء القضيَّة الفلسطينيَّة بعد دمج الفلسطينيين مع أفراد شعبه، وكذلك تكرَّر الرَّفض.
تواطؤ عبد الله بن الحسين مع الصَّهاينة ضدَّ فلسطين
كما سبقت الإشارة، تطوَّر الإضراب الَّذي نظَّمته اللجنة العربيَّة العليا إلى ثورة عارمة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، عُرفت بالثَّورة الكبرى (1936-1939م)، وما كان من الانتداب البريطاني إلَّا أن شكَّل لجنة، عُرفت باسم لجنة بيل، لدراسة الأوضاع في فلسطين، وما كان من تلك اللجنة إلَّا أن أوصت بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب، يقينًا منها بعدم جدوى استمرار الانتداب. ومع فشل الثَّورة الكبرى في تحقيق أهدافها، وتضاعُف عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين خلال سنوات الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م) وفي أعقابها، أصبح التَّقسيم هو الحلُّ الأمثل، كما ادَّعى زعماء الصُّهيونيَّة، ليصدر قرار الجمعيَّة العامَّة التَّابعة للأمم المتَّحدة رقم 181 في 29 نوفمبر 1947م مؤيّدًا لتقرير لجنة بيل لعام 1937م، وموصيًا بالتَّقسيم. اقتُرح في أعقاب صدور تقرير لجنة بيل تولية عبد الله بن الحسين على القسم العربي من فلسطين، أيّ ضمُّ ذلك القسم إلى شرق الأردن، ولكن لم يقدم الانتداب البريطاني على تنفيذ المقترَح، لمحدوديَّة التَّأثير الَّذي كان يلعبه بن الحسين في حلّ النّزاع، ولضآلة شعبيَّته بين أفراد الشَّعب الفلسطيني. غير أنَّ عبد الله حينها لم ييأس من السَّعي إلى ضمّ القسم العربي من فلسطين، خاصَّة وأنَّ تقرير لجنة بيل أوصى للقسم العربي بـ 80 بالمائة من مساحة فلسطين، ويشمل ذلك الضَّفَّة الغربيَّة والنَّقب ويافا والقُدس القديمة، وبمنحة ماليَّة من الدَّولة اليهوديَّة مقدارها 2 مليون جنيه إسترليني، وبأخرى من بريطانيا قيمتها 10 ملايين إسترليني. غير أنَّ اندلاع الحرب العالميَّة الثَّانية عطَّل مساعي عبد الله التَّوسُّعيَّة، وإن لم ينهها بالكامل. كان خروج الحاج أمين الحسيني من المشهد بنفيه إلى ألمانيا النَّازيَّة عام 1939م من أكبر المحفّزات لاستمرار تعلُّق عبد الله بن الحسين بأمل تأسيس مملكة سوريا الكبرى، بعد ضمّ سوريا إلى شرق الأردن وفلسطين العربيَّة؛ فاستمرَّ تواصله مع الصَّهاينة خلال سنوات الحرب، منتظرًا الوقت المناسب لإعادة طرْح عرضه القديم.
يعيد شليم اللعب على وتر تعاوُن الحاج أمين الحسيني مع أدولف هتلر، زعيم النَّازيَّة صريح العداء تجاه اليهود، خلال فترة نفيه إلى ألمانيا، في محاولة لتبرير تواطؤ عبد الله بن الحسين خلال سنوات الحرب العالميَّة الثَّانية مع اليهود في مواجهة الخطر النَّازي، بما في ذلك التَّنسيق الأمني بين شرق الأردن واليشوف؛ وكأنَّما اضطرَّ بن الحسين إلى التَّعاون مع الصَّهاينة خشية عودة أمين الحسيني إلى المشهد على ظهر دبَّابة الجيش النَّازي. تبدَّدت مخاوف عبد الله بن الحسين بعد هزيمة ألمانيا في الحرب، الَّتي وضعت أوزارها عام 1945م، وكوفئ أمير شرق الأردن من قِبل بريطانيا على ولائه لها خلال سنوات الحرب بمنحه الاستقلال التَّام في مارس 1946م، وقد وافقت الأمم المتَّحدة في 25 مايو 1946م على الاعتراف باستقلال الأردن تحت اسم المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة. اعتقد عبد الله الأوَّل أنَّ الفرصة واتته لتأسيس فيدراليَّة رباعيَّة تضمُّ الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين العربيَّة، ولكن، وكما يشير شليم، ربُمَّا مُنح مؤسّس المملكة الهاشميَّة الاستقلال والاعتراف بمملكته لإرضاء غروره مع كبْح طموحه في الوقت ذاته.
عرَض عبد الله بن الحسين خطَّته لتأسيس فيدراليَّة رباعيَّة تشمل الشَّام بأكمله خلال اجتماع له مع السَياسي والمفاوض اليهودي إلياهو ساسون في بريطانيا في 12 أغسطس 1946م، معلنًا تأييده لمشروع التَّقسيم، ومقترحًا خطَّة تأسيس الفيدراليَّة الرُّباعيَّة بوصفها “أفضل لليهود من خطَّة بيل للتَّقسيم”، برغم درايته بأنَّ عرب فلسطين ما كانوا ليقبلوا ذلك الأمر (ص76). لم يرد عبد الله على سؤال ساسون عن خطَّته لفرض خطَّة تأسيس الفيدراليَّة على الفلسطينيين، وكان كلُّ همّه هو معرفة موقف الوكالة اليهوديَّة من خطَّته، ومدى استعدادها لتأييدها. انتهت المقابلة بتعليق أخير من الملك الهاشمي قال فيه “أنا الآن في السَّادسة والسّتّين من العمر، وأيَّامي صارت معدودة، ولن تجدوا حاكمًا عربيًّا واقعيًّا أكثر منّي في العالم بأسره. أمامكم خياران: إمَّا التَّعاون معي أو الافتراق عني”، مضيفًا أنَّه من مصلحة الصَّهاينة أن يتعاونوا معه لضمان تحقيق أهدافهم (ص77). لم يكن من المستهجن، برغم حقيقة نوايا عبد الله بن الحسين، أن يدَّعي العاهل الأردني أمام وسائل الإعلام أنَّه يعارض مخطَّط التَّقسيم، وأن يزعم رئيس وزراء بلاده خلال اجتماع سرّي لجامعة الدُّول العربيَّة في مارس 1947م أنَّ الأردن على استعداد للتَّدخُّل في فلسطين للحفاظ على هويَّتها العربيَّة، لكنَّ المشاركين في الاجتماع وعوا إلى أنَّ ادّعاءات عبد الله بن الحسين ورئيس وزرائه كانت محاولة لإيجاد تبرير للتَّدخُّل العسكري في فلسطين بهدف التَّوسُّع وضمّ أراضيها إلى الأردن.
تأكيدًا على اهتمام الحصري بمصالحه الشَّخصيَّة واستعداده للتَّعاون مع العدو الصُّهيوني، ولو على حساب مئات الآلاف من الأبرياء، وافق عبد الله بن الحسين على مقابلة جولدا مائير، رئيس القسم السّياسي في الوكالة اليهوديَّة، في 17 نوفمبر 1947م، الَّتي ذهبت لمقابلته بصحبة اثنين من رجال الوكالة، إلياهو ساسون وعزرا دانين. أخبر دانين مائير أنَّ عبد الله بن الحسين كان يعلي من قدْر اليهود، ويعتبر أنَّ شتاتهم في الغرب كان لحكمة إلهيَّة أرادت أن ينقلوا تجربة النَّهضة الغربيَّة إلى الشَّرق الأوسط. تمَّ اللقاء في بلدة الباقورة، والَّتي يطلق عليها الإسرائيليون نهاريم، وهي بلدة حدوديَّة بين الأردن وإسرائيل كانت محلّ نزاع بين البلدين. أوضح عبد الله بن الحسين في بداية النّقاش أنَّه كان يؤيّد التَّقسيم، وأنَّه كان يواجه معارضة من عاهلي مصر والسَّعوديَّة ومعهما رئيس سوريا بسبب تغاضيه عن مساعي التَّقسيم، الَّتي برَّرها بأنَّها تستهدف تفادي الصّراع المسلَّح. أعاد بن الحسين عرْض خطَّته لتأسيس مملكة سوريا الكبرى على ضفَّتي نهر الأردن، إلى جانب الدَّولة العبريَّة المزمع تأسيسها حينها، وحينها علَّق مائير بأنَّ الأمر سيُنظر فيه، إن لم يتدخَّل عبد الله في تأسيس الدَّولة اليهوديَّة أو يعرقله بأيَّة تصرُّف أو يشتبك مع قوَّات الجيش اليهودي، وطالما سيعلن أنَّ هدفه هو الحفاظ على القانون والنّظام حتَّى تؤسّس الأمم المتَّحدة حكومة في تلك المنطقة.
أصيب عبد الله الأوَّل بصدمة من إمكانيَّة تأسيس دولة عربيَّة تقضي على حُلم مملكة سوريا الكبرى وتوجِد زعامة عربيَّة منافسة تعطّل مصالحه. أبدى العاهل الأردني استعداده لاستقبال قوَّات دوليَّة للإشراف على المنطقة الحدوديَّة مع فلسطين، وإن لم يرَ لها ضرورة، مضيفًا أنَّه أخطر الزَّعماء العرب بعدم موافقته إلى استخدام أراضيه في العبور إلى فلسطين، في حال اندلاع حرب، ومشدّدًا على تقديمه خيار التَّفاوض على الحرب. أراد عبد الله بن الحسين إبعاد المفتي إلى مكان بعيد، خشية تأجيجه الصّراع بين أفراد الشَّعب الفلسطيني وجيش الاحتلال، وقد أيَّد الممثّلون اليهود ذلك الرَّأي علمًا منهم بأنَّ المفتي كان يخطّط إثارة صدام بين الهاغانا والفيلق العربي، ليعد بن الحسين بتدارُك الأمر. أخبر اليهود عبد الله الأوَّل خلال الاجتماع ذاته بأنَّ الكثير من خصوم المفتي كانوا على استعداد للاصطفاف معه ضدَّه، وقد وعد مؤسّس المملكة الهاشميَّة بأنَّ قوَّات الفيلق العربي لم تشتبك مع القوَّات اليهوديَّة، أو تنضمَّ إلى القوَّات العربيَّة الأخرى المعادية لها، مضيفًا أنَّ الفيلق العربي لن يتدخَّل في فلسطين إلَّا في المناطق العربيَّة لضبط الأمن وإيقاف سفك الدّماء.
لم يمنح قرار الجمعيَّة العامَّة 181 الصَّادر في 29 نوفمبر 1947م، الخاص بتقسيم فلسطين، الضَّوء الأخضر لتأسيس دولة يهوديَّة على حساب الوجود العربي هناك فحسب، بل كان القرار بمثابة إيذان ببدء مواجهة عسكريَّة طاحنة تضاعف من معاناة الفلسطينيين وتجور على حقّهم المتوارث؛ وكأنَّما أُشعلت حرب 1948م لتسهيل تهجير الفلسطينيين بعد تقتيل الآلاف منهم. وكان التَّقسيم السُّكَّاني لفلسطين، وفق قرار الجمعيَّة العامَّة، كما يلي (ص117):
المنطقة | اليهود | العرب وغيرهم | الإجمالي |
الدَّولة اليهوديَّة | 498 ألفًا | 407 آلاف | 905 آلاف |
الدَّولة العربيَّة | 10 آلاف | 725 ألفًا | 735 ألفًا |
مدينة القُدس | 100 ألف | 105 آلاف | 205 آلاف |
يشير آفي شليم إلى أنَّ مع صدور قرار التَّقسيم، وصلت علاقة عبد الله بن الحسين مع الفلسطينيين إلى مفترق الطُّرق، وإن تظاهَر العاهل الأردني برفضه للتَّقسيم، وأرسل قوَّاته إلى فلسطين مدعيًا أنَّ جيشه هو الجيش العربي الوحيد القادر على حماية القسم العربي، وإن كان هدفه الحقيقي حينها هو فرْض السَّيطرة على تلك المنطقة وضمُّها إلى مملكته. يعلّق المؤرّخ اليهودي بقوله إنَّ مع نهاية عام 1947م، كانت هناك خطَّتان للتَّقسيم؛ إحداهما وُلدت في أروقة الأمم المتَّحدة في مدينة نيويورك الأمريكيَّة وادَّعت تأسيس دولة عربيَّة إلى جانب اليهوديَّة في فلسطين؛ والأخرى حيكت في الخفاء في بلدة نهاريم وأرادت ضمَّ القسم العربي إلى مملكة شرق الأردن، وكانت “ثمرة التَّحالف المدنَّس بين الصَّهاينة والهاشميين” (ص121). قوبلت الخطَّتان برفض من اللجنة العربيَّة العليا، ومن الجماهير العربيَّة؛ نظرًا لأنَّ المستفيد من الخطَّتين هم اليهود على حساب الفلسطينيين. من هنا، وفي ظلّ الرَّفض العربي لفكرة التَّقسيم من حيث المبدأ، باتت المواجهة المسلَّحة ضرورة لا يمكن تفاديها. من ناحية، نفَّذ عبد الله بن الحسين ما اتَّفق عليه مع اليهود خلال لقائه بجولدا مائير في بلدة نهاريم، بأن أصرَّ على ضرورة الحلّ الدّبلوماسي ومنْع الحاج أمين الحسيني من تنفيذ مخطَّطته لشنّ حرب لمقاومة الاحتلال. أمَّا رأي الأمين العام لجامعة الدُّول العربيَّة ورئيس وزراء مصر فكان عدم تحريك الجيوش النّظاميَّة العربيَّة والاكتفاء بالعمليَّات الفدائيَّة للمقاومة الفلسطينيَّة لتحميل الاحتلال خسائر مادّيَّة وبشريَّة رادعة. لم يكن الحسيني، في الأساس، يرحّب بالتَّدخُّل العسكري العربي في فلسطين، خشية أن يستهدف احتلال القسم العربي وضمَّه إلى سُلطة عبد الله بن الحسين، الَّذي كان بدوره يخشى أن تؤسَّس دولة عربيَّة في القسم ذاته تحت رئاسة الحسيني. اشترطت الدُّول العربيَّة أن يكون تدخُّل الفيلق العربي في فلسطين لتحدّي قرار الجمعيَّة العامَّة الخاص بالتَّقسيم، رافضةً خطَّة ضمّ القسم العربي من فلسطين إلى الأردن.
من المفارقات الدَّاعية إلى السُّخرية ادّعاء أنَّ مجتمع اليهود في فلسطين المحتلَّة كان يخشى تواطؤ بريطانيا مع العرب لإعاقة تأسيس دولة يهوديَّة، من خلال عدم انسحاب قوَّات في 15 مايو 1948م، كما وعدت. ما أراد آفي شليم إشاعته عن موقف بريطانيا من التَّقسيم بعد سنوات من الانتداب أُحطبت فيها كافَّة مساعيها لإنهاء الصّراع بين المستوطنين اليهود والفلسطينيين، هو أنَّ القَّوة الاستعماريَّة الكبرى رأت أنَّ الأفضل أن تأتمن الملك الأردني على القسم العربي من فلسطين، مع عجز العرب عن إدارة شؤونهم بأنفسهم، في ظلّ حالة التَّفكُّك الاجتماعي الَّتي عانى منها المجتمع الفلسطيني. وجد عبد الله بن الحسين المبرّر للتَّدخُّل في فلسطين بعد مذبحة دير ياسين في 9 أبريل 1948م؛ ودير ياسين هي قرية تقع غربي القُدس، وقد هاجمتها قوَّات عصابات الهاغانا بقيادة مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل لاحقًا (1977-1983م)، دون موافقة الوكالة اليهوديَّة أو علم لها، كما ادُّعي. قُتل في تلك المذبحة، الَّتي استهدفت تهجير سُكَّان القرية الواقعة في المنطقة المخصَّصة للدَّولة اليهوديَّة، 245 من الرّجال والنّساء والأطفال، كما أُجلي المئات عن مساكنهم، وسط عجز المقاومة الفلسطينيَّة عن توفير الحماية الكاملة للفلسطينيين أو مواجهة آلة القمع اليهوديَّة. أعلن عبد الله بن الحسين استعداده للدخول إلى فلسطين لإنقاذ المنكوبين، مرحّبًا بمشاركة قوَّات عربيَّة في مهمَّته، وبرغم اتّفاقه مع جولدا مائير في لقاء نهاريم في 17 نوفمبر 1947م على عدم التَّدخُّل العسكري في مواجهة القوَّات اليهوديَّة أو الانضمام إلى المقاومة العربيَّة. كأنَّما أراد عبد الله الأوَّل احتواء المقاومة العربيَّة للاحتلال اليهودي، لمساعدته في تأسيس دولته، في مقابل تنفيذ الوعد الزَّائف بالنَّظر في إمكانيَّة ضمّ القسم العربي إلى دولته الصَّغيرة، وبخاصَّة بعد أن أجَّج البريطانيون الأمل لديه في ذلك. غير أنَّ قرار جامعة الدُّول العربيَّة، بعد موافقتها على التَّدخُّل العسكري العربي في ظلّ تفجُّر الأوضاع في فلسطين، كان بإرسال القوَّات إلى هناك مباشرةً، دون إخضاعها لإمرة الفيلق العربي، علمًا بحقيقة نوايا بن الحسين.
تشبَّثت الدَّوائر السّياسيَّة العربيَّة بخيار التَّفاوض إلى آخر وقت قبيل انتهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو 1948م، حيث عقدت جامعة الدُّول العربيَّة اجتماعًا في دمشق من 11 إلى 14 مايو، نوقش خلال اقتراحٌ بريطاني بإعلان هدنة في كامل أراضي فلسطين، وسط مخاوف المشاركين في الاجتماع من احتلال اليهود لمدينة القُدس. غير أنَّ اليهود ما كانوا ليقبلوا الوساطة البريطانيَّة، سواءً بسبب ما أشيع عن تآمر بريطانيا عليهم مع العرب، أو لرغبتهم في استغلال انهيار المقاومة الفلسطينيَّة في إحراز مزيد من التَّقدُّم على الأرض. واجه عبد الله بن الحسين في تلك الفترة معضلة كبيرة، تتمثَّل في ضرورة الامتثال للمطالبات العربيَّة بالتَّدخُّل لمقاومة الاحتلال اليهودي، دون سعي لتحقيق منافع شخصيَّة، ممَّا يتعارض مع وعده للوكالة اليهوديَّة بعدم مواجهة القوَّات اليهوديَّة بأيّ صورة كانت. يعلّق آفي شليم بقوله إنَّ العلاقات الصُّهيونيَّة-الهاشميَّة، الَّتي تعود لثلاثة عقود مضت، باتت على المحكّ في تلك اللحظة، وكان على بن الحسين أن يختار ما بين تحقيق مصالحه الشَّخصيَّة أو الحفاظ على سمعته ومكانته في الشَّارع العربي، خاصَّة بعد أن طلبت الوكالة اليهوديَّة من الرَّئيس الأمريكي أن يحذّر مؤسّس المملكة الأردنيَّة من مغبَّة اجتياح فلسطين وعرقلة مساعي تأسيس الدَّولة اليهوديَّة.
(المصدر: رسالة بوست)