بقلم د. محمد الأمين مقراوي الوغليسي
عالم اليوم عالم متوحش، لا يعترف بغير المادة ومشتقاتها، من شهوات وملذات ونزوات سبيلا لحياة الإنسان.. وقد كان سالكوه في آخر العقود بعد صحوة المسلمين قلة في سائر الاقطار والبلدان، قد عُرفوا بمعاداة خير الأديان؛ ممن لم يوفقوا للطاعة ورضوا بطريق العصيان، بعد أن مسخت فطرتهم وصاروا من العميان، وقد كانوا كما قررنا قلة لا يكاد يذكرهم بيان، لكن مع ظهور مارد الإعلام الجارف كالطوفان، الذي صوّر الحياة الحقيقية منزلا فخما تحيط به الجنان، وتزينه الحيطان، ورصيد بنكي يتحرك بإشارة من البنان، وسيارة تدهش العينان، وشُهرة تصم بطنينها الآذان، ونفوذ وسيطرة على أكبر عدد من الناس كقطيع من الحيوان، تلوثت قلوب الملايين من البشر وأصبح أغلب الناس في الهوى سيان، وصار اللحن الأقوى لحن طريق الخسران، وانتصر حزب الشيطان على الكثير من أهل الإيمان، بعد أن زيّنت لهم أنفسهم لبس ثوب العصيان، والتمرد على شريعة الرحمن.
في هذا الوقت صار ما سبق الحديث عنه والتبيان، من ماديات علّمت الإنسان الطّغيان، الميزان المفضّل للحكم على العيان.. إلا أنّ توفيق الرحمن، أصاب طائفة من أهل القرآن، فضحوا بالغالي والنفيس لأجل إعلاء كلمة التوحيد في كل مكان وزمان، والسير بالأمة في مضمار الحضارة والعمران، والرّقي بالإنسان في كل شان، حتّى باعوا في سبيل ذلك الرخيص الذي يتنافس عليه الغلمان، واشتروا قصورا نادى عليها الملك المنان في آي القرآن، طمعا في الفوز برحمة منه سبحانه ورضوان.
يصفهم الناس بمجانين الزمان؛ فهم منصرفون عن الملذات والقيان، ولا يهمهم في سبيل نصرة الحق مال ولا ولدان، وهم من لم تغرهم فتن النّسوان، ولم تجذبهم إعلانات هابطة تصر على السياحة في الشواطئ والخلجان، وهم من لم تضيّع أوقاتهم مباريات الإسبان والألمان، ولم تسرق عقولهم شهادات ومناصب ولا تيجان، ولم تلههم مهرجانات لغو يحضرها سفهاء من كل البلدان.
همُّ الواحد فيهم سجدة في السَّحر يطلب من الرب التوفيق والغفران.. همُّ الواحد فيهم أن يجود بالدرهم والدينار والذهبان .. همُّ الواحد فيهم أن ينصر قضايا الأمّة بالقلم أو حد السّنان، يرمي بنفسه لا يبالي في الهيجا مقارعة أشد الفرسان، مُناهُ نصرٌ أو حياة عزٍ في جنان …همُّ الواحد فيهم أن يزيح همَ الأرملة والثكلى واليتيم الغلبان .. همُّ الواحد فيهم أن يقضي دَيْناً حالا أو آجلا عن إنسانٍ قهره أتعبه أهل هذا الزمان.. همُّ الواحد فيهم أن يطعم الجائع ويفك العاني ويغيث اللهفان .. همُّ الواحد فيهم أن يبيت جائعا والفقير والمسكين شبعان.. همُّ الواحد فيهم أن ينال رضى رب السموات الحسان.
همُّ الواحد فيهم أن ينتشل الآلاف من ظلمة الشرك والكفر والخسران.. همُّ الواحد فيهم أن يكون سببا ونذيراً ينجو بدعوته الكثير من هول عذاب النيران.. همُّ الواحد فيهم أن تُبسط على الدنيا الشريعة السمحاء ويسعد بها من شقي دهرا بقوانين الرومان.. همُّ الواحد منهم أن يختلي بين أربع جدران في غسق ليل بهيم يتلو كتاب الحميد المنّان، خاشعا قلبه منيبا يكفكف دمع العينان، من وجل الورود يوم العرض على الملك الديان.. همُّ الواحد فيهم أن ينال حُسنَ خاتمةٍ قبل أن يحشر بعد ثاني الموتتان في آخر الحياة من بعد تعب في سبيل الله الحنان المنان الرحمن .
هؤلاء هم الذين يصفهم الناس بالمجانين؛ لأنهم يعيشون حياة الإسلام، حياة القيم حياة ترضي الرحمن، حياة لا قيمة فيها للدنيا أمام الآخرة، حياة لا تكسرها شهوة، ولا تربكها نزوة.. نعم إنها حياة الأتقياء الشجعان؛ الذين بقلب سليم يلقون الديان يوم تميد السموات وتشيب الولدان.
إنّ شدة الصراع بيننا وبينا أهل العدوان، قد تجعل المسلم يغرق في الأحزان؛ لكثرة الضربات وقلة الإخوان، فيكون الحل في إحياء العاطفة الإسلامية الراشدة رشاد أهل الإيمان، ولطالما كانت العاطفة الصادقة خير ما تُشحن به قلوب الشيب والشبّان؛ فلا يحتقر مسلم كلمة قد تقع موقعا حسنا من الجنان، فتورث حياة وعملا صالحا مباركان.
اللهمّ إن كان هؤلاء مجانينَ في نظر الكثير من النّاس، فاجعلنا منهم وارضى عنا يا رب العالمين، وكثِّرهم في أمّة نبيك العدنان عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام ما طلع القمران.
المصدر: الاسلام اليوم.