عن كتاب “المحدثون والسياسة”
قراءة أ. محمد إلهامي
قبل أشهر وقع أمامي سِفْر عظيم بعنوان: “المحدثون والسياسة: قراءة في أثر الواقع السياسي على منهج المحدثين”، تأليف د. إبراهيم بن صالح العجلان. وأصل هذا الكتاب أطروحة دكتوراه، ثم طبعت في تسعمئة صفحة، وصدرت عن مركز البيان للبحوث والدراسات عام 2017.
شغلتني أمورٌ أخرى عن الكتاب، حتى بدأت كتابة بحث يتعلق بالأثر السياسي في تدوين بعض الأحاديث، ضمن دعوة جاءتني لمؤتمر علمي. وضعت خطة الورقة البحثية، وشرعت فيها، وأنهيت ثلثيْها، ثم تذكرت فجأة هذا الكتاب الذي وضعته جانباً منذ أشهر! فهرعت إليه من جديد.
تروي القصة المشهورة التي تنسب للأصمعي مع المنصور أن المنصور كان يحفظ الشعر إذا سمعه أول مرة، وعنده خادم يحفظه إذا سمعه مرتين، وجارية تحفظه إذا سمعته ثلاث مرات، فإذا جاء الشاعر يمتدح المنصور اتهمه بأنه يقول قصيدة قديمة مكرورة محفوظة، حتى إنه يحفظها، ويحفظها خادمه وجاريته، فيفاجأ الشاعر الذي قضى أياماً أو شهوراً يدبج القصيدة أن ثلاثة يحفظونها قبله!! فيخيب أمله ويخسر ما كان يرجوه من الجائزة.
هي قصة طريفة، وإن كان المؤرخون يرفضونها والأدباء يبرئون الأصمعي منها، لكن الذي يهمنا الآن أني كنت أسير في الكتاب أحمل نفس هذا الشاعر، فالخطة التي وضعتها، وكثير مما كتبته وسطرته وظننت أني لم أسبق إليه، وجدته في هذا الكتاب.. لا، بل الحق أني وجدته بأوفى وأعظم وأوسع وأكمل وأجود مما فعلت، وإذا بي أسابق الصفحات متأملاً أن يكونَ بعضُ ما كتبتُه لم يخطر للمؤلف على بال، والحمد لله وجدتُ من ذلك قليلاً، وإلا كنت مزَّقتُ بحثي كله!
لكني أعدت صياغة البحث، فصرت أحيل إلى الكتاب وأستفيد منه في سدِّ بعض النقص عندي، وأجتهد في الزيادة على ما قرأت.. ولا أخفيكم يا معشر القراء أنها لحظة من لحظات التنازع بين الإخلاص والتجرد وبين التحسر على الفوت، وأن النفس يداخلها التمني أن لم يكن سبقها إلى ما طمحت إليه أحد.. حظ النفس الذي نسأل الله أن يحفظنا منه.
على أن المهم الذي هو موضوع المقال هو التعريف بهذا البحث العظيم للدكتور إبراهيم العجلان: المحدثون والسياسة.
ولهذا الكتاب قصة فيها موعظة بليغة كشف عنها مؤلفه في البداية، وذلك أنه كتب رسالة الماجستير تحقيقاً لكتاب “الفوائد المنتخبة” للآجري، وبعد أن أهلك المؤلف وقته وجهده فيه لم يتزحزح الكتاب عن موقعه في رفوف المكتبة كمرجع مهم للباحث المتخصص. ولما رأى المؤلف ذلك عزم أن يكون موضوع رسالته للدكتوراه موضوعاً معاصراً.
نعم، كلٌّ ميسرٌ لما خُلِق له، والتحقيق عمل عظيم، وقد قيل فيه: من حقق مخطوطة كمن أحيا موءودة، والمحققون يفتحون أعيننا كل يوم على تراثنا العظيم الذي لا يزال كثير منه مجهولاً مغموراً، ومع ذلك كله فإني أحسب أن الذي آتاه الله قدرة على معالجة الموضوعات المعاصرة فهي بالنسبة له أولى بل أوجب، وذلك أن الهجمات المعاصرة على الإسلام وثوابته عاتية، وتحتاج كل مجهود في صدها.
وبينما المؤلف في تفكيره إذ وقع له مسودة رسالة كتبها أحدهم فيها طعن في أهل الحديث، واتهام عام بأن الحديث النبوي تأثر في روايته وتدوينه بضغوط السياسة، وأن السلطتين الأموية والعباسية كان لهما من القوة والهيمنة على المحدثين– بالإغراء والتهديد- ما جعل عملية رواية الحديث وتدوينه تنتج ما تريد السلطتان إنتاجه، ومن ثَمَّ فإن الحديث الذي بين أيدينا ليس هو النقل الصادق عن النبي بل هو نقل محرف مشوه، ولئن كان صادقاً فهو صادق في التعبير عن رغبة السلطتين الأموية والعباسية.
كانت تلك هي الشرارة التي أخرجت هذا التأليف الممتاز، الذي هو أوسع وأعمق وأجود ما رأيت في مناقشة الموضوع، بل لست أتذكر تأليفاً آخر ناقش هذه المسألة على هذا النحو من الاتساع والشمول أو على نحو قريب منه.
وأصل هذا الطعن وأوله كان من الشيعة، الذين رأوا أن أحقية علي بالإمامة بعد رسول الله ثابتة، وأن اغتصاب أبي بكر وعمر وعثمان للخلافة قد جرى التغطية عليها بالكثير من التزوير والتدليس والاختلاق، وهو العمل الذي جعلهم يتناولون بالطعن جملة الصحابة، وخصوصاً رواة الحديث المكثرين، كأبي هريرة وعائشة وابن عمر، وتعد المؤلفات الشيعية هي المعين الأول الذي خرجت منه هذه التهمة. ثم اتكأ على هذا المعين المستشرقون في حقبة الاستعمار، فاستفادوا من هذا كله ثم أضافوا إلى ذلك مناهجهم التشكيكية في قراءة النص وتحليله وتفسيره في ضوء نظريات إنتاج الخطاب ودور السلطة في ذلك، وهو أمرٌ بارز في المسيرة الفكرية الغربية التي كانت الكنيسة والسلطة السياسية تحتكران فيها عملية إنتاج المعرفة تقريباً حتى عصر النهضة والإصلاح والتنوير. ثم اتكأ على تراث المستشرقين العلمانيون العرب المعاصرون؛ فأعادوا إنتاج هذه الطعون باللغة العربية وفي أثواب مختلفة.
ذهب المؤلف لتتبع هذه الطعون، فبدأ بتمهيد تناول فيه موقف المحدثين من الكذب وأثره في الجرح والتعديل، ومنهجهم في نقد الروايات سنداً ومتناً؛ يلقي بذلك الضوء على موضوع الكذب عموماً وكيف نظر إليه المحدثون في منهج نقدهم للروايات.
ثم يبدأ الباب الأول بالعلاقة بين المحدثين والسلطة السياسية، فيثبت بالتفصيل أن المحدثين كانوا جماعة من البشر ولم يكونوا كتلة سياسية أو مذهباً سياسياً، فمنهم من تعاون مع السلطة في المصالح العامة للأمة، ومنهم من اعتزلها، ومنهم من نصح وأنكر، ومنهم من رفض الأعطيات والمناصب، ومنهم من ثار على السلطة وحمل السيف. ومن جهة أخرى فإن السلطة أحياناً حاولت مسالمتهم والاستعانة بهم، وأحياناً أخرى صادمتهم واضطهدتهم، ومن ثَمَّ فلم تكن العلاقة بين كتلتين أو تنظيمين أو مؤسستين تملك إحداهما التحكم في الأخرى والتأثير في عملها، كما لم تكن ثمة علاقة منتظمة مستقرة مطردة بين السلطة والسياسة يمكن من خلالها الوصول إلى تعاون في إنتاج الحديث.
وناقش المؤلف في الباب الثاني: الأثر السياسي في الرواية، فتناول مسألة الكذب لمصلحة السلطة والكذب لمناهضة السلطة، وكيف قد يختلط الدافع في الكذب لدى البعض أن يكون سياسياً أو غير ذلك، واستعرض في هذا الباب طعون الشيعة والمستشرقين والعلمانيين المعاصرين للمحدثين من جهة السياسة.
وناقش في الباب الثالث: المتون والمسائل الحديثية المتصلة بالسياسة، واقتصر على الصحيحين كنموذج لهذه المتون، فاستعرض الأحاديث التي تتصل بالسياسة: ما قيل منها إنها مؤيدة للسلطة وما قيل إنها معارضة لها، ثم ناقش مناهج المحدثين في الرواة والرجال الذين كانت لهم علاقة بالسلطة السياسية أو شاركوا في المعارك السياسية أو ثاروا على السلطة.
ثم جاء الباب الرابع، الذي هو أوسع أبواب الكتاب، وهو صلب البحث وقلبه، وهو وحده بلغ ثلثي الكتاب، وفيه المناقشة التفصيلية للطعون في السنة والمحدثين من جهة السياسة، فناقش في الفصل الأول الطعون والدعاوى العامة، ثم ناقش في الفصل الثاني مناقشة تفصيلية الطعون الموجهة إلى مرويات الصحيحين، ثم ناقش في الفصل الثالث: الرواة الثقات الذين طُعِن فيهم بالتهمة السياسية.
تسعمئة صفحة تمثل علامة على المجهود المضني الكبير الذي بذله المؤلف حفظه الله، وعلم الحديث- كما هو معروف- من أصعب العلوم الشرعية وأدقها؛ لما يحتاج إليه من سعة الحفظ والدقة، فضلاً عن أن المؤلف طوَّف بين الكتب القديمة والمعاصرة، وتتبع الطعون في كتب الشيعة والمستشرقين والعلمانيين المعاصرين، وهذا مجهود ضخم يعرفه من يمارس البحث.
وقد أوتي المؤلف نفَساً طويلاً في الرد على الشبهة وتصنيفها، وقد تناول بعض الشبهات التي ردَّ عليها سابقوه، فاستوعب ردودهم ثم زاد عليها ردوداً، ثم صاغ ذلك كله في نفس هادئ وروية رصينة.
ولو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذا الكتاب مادة دراسية في معاهد وكليات العلوم الشرعية قسم الحديث، يتدرب به الطلاب على معالجة هذه الشبهات، ويعيشون أجواء الشبهات المعاصرة ويعرفون مداخلها، ويتهيؤون بممارسة البحوث المتينة لترتقي مهارتهم وملكتهم.
(المصدر: الخليج أونلاين)