عن توظيف الدّين في صناعة الإرهاب (3)؟
بقلم أ. ناصر حمدادوش
لا يُعتبر “الإرهاب” اكتشافًا معاصرًا في القرن الحادي والعشرين، لأنّ الممارسات العُنفية مُوغلِةٌ في القِدم، قِدم الحياة البشرية، مُذْ قالت الملائكة – قبل خلق آدم ونزول الإنسان الأوّل إلى الأرض -: “..قالوا أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدّماء..”(البقرة:30)، وهو ما يؤكد الحقيقة التاريخية بأنّ العنف لا هوية له، وهو سابقٌ عن الدّين، بل جاء الإسلام من أجل تقديس الحقّ في الحياة، واعتبر أنّ قتْلَ نفْسٍ واحدةٍ – مهما كان دينُها أو جنسُها أو لغتُها أو ثقافتُها أو انتماؤها – هو قتلٌ للنّاس جميعًا، كما قال تعالى: “من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه: مَن قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض؛ فكأنّما قتل النّاس جميعًا، ومَن أحياها فكأنّما أحيَا النّاس جميعًا.”(المائدة:32).
إلاَّ أنه استقرّ التوظيف السّياسي والإعلامي لمصطلح “الإرهاب” أخيرًا ضدّ الإسلام والمسلمين، مع الخلط المتعمّد بين “الإرهاب” و”الجهاد”، وبين “التطرّف” و”المقاومة”، وأصبحت بعض الممارسات العُنفية لبعض المنتسبين للإسلام حجّةً في محاربته تحت غطاء مكافحة الإرهاب، بعد التنصّل من الاستحقاق المعرفي في الاتفاق العلمي والعالمي على ضبط مفهوم الإرهاب، من أجل خلقِ حالةٍ من الرّعب والإرهاب الفكري لمحاربة الإسلام وشلّ حركته وتعطيل امتداده في المجتمع والدولة والحضارة المعاصرة.
وإذا كانت حاجةُ الإنسان إلى الدّين هي حاجةٌ فطريّة، وأنّه متديّنٌ بطبعه، كما قال تعالى: “فطرة الله التي فطر النّاس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدّينُ القيم..”(الروم:30)، فإنّ توظيف الدّين، وتبرير الأفعال والتصرّفات به، ولو بفهمٍ بشريٍّ قاصر يكون أسهلَ وأكثرَ فاعلية، وهو ما لجأت إليه الجماعاتُ المتطرّفة في تجنيد أتباعها، بالاختباء وراء الخطاب الدّيني، لأنّ ممارسة العنف باسم الدّين – وفق التحليل النفسي – تبدو أكثرَ إقناعٍ وتبرير، لأسبابٍ يعتقد أصحابُها أنّها نبيلةٌ وعادلة، بعد توظيف العاطفة الدّينية والإلهام الرّوحي في الاستقطاب والتجييش.
وهو ما انتبهت إليه أجهزةٌ استخباراتيةٌ عربيةٌ وغربية – أيضًا – في توظيف الدّين لصناعة الإرهاب، واستعماله أداةً غير رسمية، بعيدةً عن المحاسبة والمسؤولية في إدارة الصّراعات وتصفية الخصوم.
ومن المعلوم أنّ “السجون والمعتقلات” كانت مخابر صناعة الإرهاب في ظلّ الأنظمة الاستبدادية، وبواسطة أذرعها الاستخباراتية الرّهيبة، والتي أغلقت الأفق السّياسي والسّلمي أمام وصول التيار الإسلامي إلى الحكم عبر الديمقراطية والإرادة الشعبية، وهو ما أعطى المبرّر لتجنيد الشباب واستغلال عاطفتهم الدّينية للانتصار للإسلام المستهدف بالخطر الوُجُودي، معتبرين “الدّيمقراطية” صنمًا سياسيًّا، وكِذْبةً غربيةً كبرى لا يمكن النّوم في عسلها طويلاً، وهو ما أكّد عليه “أيمن الظواهري” زعيم تنظيم القاعدة بعد “الانقلاب العسكري” على أولِّ رئيسٍ شرعيٍّ مدنيٍّ منتخب في مصر شهر جويلية 2013م، بل وتكفّل الناطق باسم “داعش” بالهجوم اللاذعِ الأكثرِ قسوة، تحت عنوان “السّلمية دِينُ مَن؟”، معلنًا تكفير “جماعة الإخوان المسلمين”، لإيمانها بالدّيمقراطية الغربية، واحتكامها إليها؟؟.
وتعتمد الأنظمة الحاكمة على صناعةِ عدوٍّ خارجيٍّ – ولو كان وَهْميًّا – لتوحيد جبهتها الدّاخلية وتبرير سياساتها الخارجية، مثلما فعلت – وتفعل – أمريكا، فبعد زوال “الخطر الشيوعي الأحمر” بسقوط المعسكر الاشتراكي، اتجهت إلى التحذير من “الخطر الإسلامي الأخضر”، والانتقال من “الصّراع بين الحضارات” إلى “الصّراع داخل الحضارة الواحدة”، باستهداف “التيار الإسلامي” من داخله، عبر تشكيل الجماعات المتطرّفة، لعدّة أهدافٍ مكشوفةٍ، ومنها: تشويه الإسلام، وإيجاد مبرّر البقاء في الحكم عبر شرعية مكافحة الإرهاب، وتخيير الشعوب بين “الديمقراطية” و”الإستقرار”، وتبرير الإنفاق العسكري والأمني الحكومي الخيالي، بعيدًا عن أيّ رقابةٍ مؤسّسية رسمية.
ذلك أنّ المربّع الذي تتقنه وتنتصر فيه هذه الأنظمة على منافسيها هو مربّع العنف وعسكرة المواجهة، وليس مربّع الديمقراطية والمنافسة الحرّة، كما يقول الدكتور والعلاّمة يوسف القرضاوي: “والمتتبّع لتاريخ الأمّة الإسلامية والحركة الإسلامية في العصر الحديث، يتبيّن له بجلاء: أنّ الفكرة الإسلامية، والحركة الإسلامية، والصّحوة الإسلامية، لا تتفتّح أزهارُها، ولا تنبُت بذورُها، ولا تتعمّق جذورُها، ولا تمتدّ فروعُها إلاّ في جوِّ الحرّية، ومناخ الدّيمقراطية.”.
وبدلاً من مواجهة الإرهاب بمعالجة أسبابه الواقعية والموضوعية، والمتمثلة في: الإستبداد، والفشل في التنمية، والفساد المعمّم، وأزمة الشّرعية، والاعتداء على الإرادة الشعبية، وقمع الحرّيات، ومصادرة الحقوق، وغياب العدالة، وتكافؤ الفرص، تنتقل هذه الأنظمة الاستبدادية من توظيف الدّين في صناعة الإرهاب إلى توظيف الدّين في محاربة الإسلام، عبر دعاوى “تجديد الخطاب الدّيني”، وإعادة النظر في “النّص الدّيني”، ومراجعة الموروث التراثي الفقهي، بل وفي تأميم واحتكار “المؤسسة الدّينية الرّسمية”، وتمييع “المنظومة التربوية والتعليمية والإعلامية” وتفريغها من أيِّ بُعدٍ ثوابتيٍّ هوياتي، تحت غطاء “تجفيف منابع الإرهاب”، وحصر أسباب التطرّف في: الانغلاق، وحرفية النّص الدّيني، وتصدّر غير المؤهلين والمختصّين للجبهة الدّينية، ومتاجرة بعض الجماعات بالدّين لأهدافٍ سياسيةٍ وحزبية، وهو ما يثير جدلية: أيّهما الصانع للإرهاب: النّصُ أم الواقع؟ في تجاهلٍ تامٍّ للعلاقة بين “السّبب والنتيجة”، وبين “الفعل وردّ الفعل”.
ومع المحاولة المستميتة في الرّبط بين “الدّين” و”الإرهاب”، وأنّ للدّين قوةُ عنفٍ غير عقلانية، إلاّ أنّ التجربة العلمانية والدولة الوطنية أو القومية أو المدنية الحديثة لم تصدّق ذلك، ففي العلمانية الفرنسية في القرن الـ: 18، أحرقت الجماهير حوالي: 4000 كنيسة، وطُويت علاقةُ الدّين بالدولةِ وبالسّياسة، بل وبالمجتمع، وتمّ شنقُ آخرِ مَلِكٍ بأمعاءِ آخرِ قسّيس (كما أوصى فولتير)، ومع ذلك لم يتحقّق الأمن والسلام، بل تفجّرت براكين العنف أكثر، وخاضت فرنسا حروبًا استعمارية بخلفياتٍ عقائدية وصليبية، وتكبّدت الإنسانية ملايين من الضّحايا تحت راياتٍ ومبرّراتٍ بعيدةٍ عن الدّين والفتاوي الدّينية.
والأخطر في مسألة توظيف الدّين في صناعة الإرهاب هو شغْلُ العالَم “بالإرهاب الإسلامي”، وجعله علامةً حصريةً عليه، للتغطية على الجماعات الدّينية المتطرّفة الأخرى، والتستّر على ذلك الاقتران بين “التوحّش الدّيني” و”التديّن المسيحي أو اليهودي العنصري”، ودليلُه تلك الجرائم التي تُرتكب باسم “عودة المسيح” أو باسم “التلمود والدولة اليهودية” في فلسطين، أو باسم الرّبّ في أفغانستان والعراق، أو باسم وقف التمدّد الشّيعي في الحرب على اليمن، أو في هذا التحالف الهجين بين دولة التوحيد في السعودية؟ والدولة العنصرية اليهودية، تحت غطاء مواجهة إيران وهويتها الطائفية، حتى يعترف “ترامب” أخيرًا بقوله: “لولا السّعودية لأصبحت إسرائيل في ورطة.”.
ولم يكن خافيًّا أنّ أمريكا – وفي ظلّ الصّراع مع الاتحاد السّوفياتي – تتحمّل مسؤولية تشكيل ودعم الجماعات التكفيرية الجهادية، واستغلال العاطفة الدّينية للشّباب المسلم، لخوض حروبٍ بالوكالة عنها، ففي الفترة بين 1979م و 1990م، تمّ تسويق الاجتياح السوفياتي لأفغانستان على أنّه “اجتياحُ دولةٍ شيوعيةٍ ملحدةٍ” على بلدٍ مسلم، وهو ما يفرض “الجهاد” لتحريره، فتمّ تشكيل “المجاهدين الأفغان” من مختلف الدول العربية والإسلامية، بالتنسيق مع الاستخبارات السّعودية والباكستانية ودولٍ أخرى، ولكنّه لم يقع نفسُ التجييش في غزو أمريكا لنفسِ البلد، على خلفية هجمات: 11 من سبتمبر 2001م، وهو ما يؤكد هذه السّياسات الخبيثة لتوظيف الدّين في صناعة الإرهاب.
المصدر: حركة مجتمع السلم