عن الحرية الفردية وأكذوبة العدالة تحت لواء النيوليبرالية
بقلم آية العنزوق
إن الحرية مفهوم شائك ومعقد بالرغم من كونه شائعًا بين الناس، واستعماله كثير في الأوساط الاجتماعية والأكاديمية على حد سواء، لكل منا تصوره الخاص للحرية حسب معتقداته الشخصية وفهمه لما تعنيه هاته الكلمة، ولكن الكثيرين لا يترددون في الزعم بامتلاكهم الحقيقة المطلقة التي لا ريب فيها ويرددون شعارات فارغة تدعو لتحرير دول الجنوب من قادة متجبرين في حين يتجاهلون كل التجاهل صنيع القوى الإمبريالية بالشعوب المكسورة إرادتها بفعل حكام فاشيين، أحيانًا ما يكون هوس بعض الأفراد بالحرية الشخصية ناتجًا عن ثقافة الانفرادية والأنانية، فالحرية عند هؤلاء تقتصر على على حرية مادية واقتصادية في ظل النظام الرأسمالي دون اعتبار لما ينبغي أن يرافق هذه الحرية من محاسبة، إن مصير الجنس البشري مرتبط بما يعتبره البعض حرية شخصية، فإذا كان كوكبنا على شفا حفرة من أن يصبح غير قابل للعيش بسبب التغيير المناخي، فإن لأنماط حياة الأفراد – خاصة الميسورين منهم – تأثير مباشر على هذه الظاهرة التي تكاد تتسبب في هلاكنا.
أرى إذًا أن الحرية بمعناها الأسمى والأقرب للكمال هي انتزاع الإنسان لتوازن عقله المغيب من قبضة وحش الاستهلاكية. كما أن استعمال الأنانيين من مجتمعاتنا لمفهوم الحرية من أجل تبرير اختياراتهم المتهورة التي لا تعتمد على أدنى قدر من التفكير النقدي هو ما أدى إلى تمييع هذا المصطلح. فنرى انقلابات عسكرية تودي بأرواح الملايين من الأبرياء تحت ذريعة إرساء «الحرية»، وهي انقلابات عادة ما تكون ممولة من جهات خارجية ليصبح زعماء هاته الانقلابات أكثر قمعًا للشعوب من الحكومات المخلوعة ويظهروا طبيعتهم الفاشية لكل من وثق بهم بمجرد وصولهم إلى مراكز القوة وتشبت كل منهم بكرسي وضع خصيصًا له.
تحولت الحرية عبر التاريخ من مفهوم ثوري سامٍ إلى مفهوم يخدم مصالح وأجندات الدول الإمبريالية، بل وقيمة من قيم النيوليبرالية الاجتماعية، فبعد أن كان الطموح إلى الحرية الراعي الأساسي لثورات الشعوب المكلومة من المغرب الكبير إلى بلاد الشام وما بعدها، أضحت الحرية السلاح الأكثر فتكا والمكتنز من طرف بلدان الشمال دون غيرها. لقد حدث غزو العراق على مرأى ومسمع من العالم بأسره الذي أماط اللثام فجأة عن قلة اكثراته لانتهاكات حقوق الإنسان عندما لا يكون الضحايا مواطنين غربيين صالحين، وأفصح المجتمع الدولي عما فيه من نفاق وتعدد أقنعة، لكن الإعلام الغربي – بفائض إنسانيته وأخلاقه – نجح في إقناع مستهلكي الرداءة والكذب الباثولوجي أن ذلك الغزو الشرس يحمل في طياته حرية غير مسبوقة للشعب العراقي، ذلك لأن مفهوم الحرية ليس بالمفهوم المتفق عليه كونيا. من يدري؟ فلعل الحرية لا تأتي مع الأمن والسلم وإنما تأتي على شاكلة قنابل وصواريخ كروز أو طوافة بلاك هوك.
أصبح الخط الفاصل بين الحرية والعبودية شبه منعدم في ظل الرأسمالية والنيوليبرالية، حتى أن استغلال الطبعة العاملة – خاصة النساء – بات يروج للمجتمع على أنه مظهر من مظاهر الحرية والاستقلالية. لقد أضحى العمل ضرورة إقتصادية منذ نشأة النظام الرأسمالي وبداية التصدير المكثف لهذا الداء إلى بلدان الجنوب عبر الاستعمار، إلا أن مناصري الرأسمالية الحديثة قد نجحوا في إضفاء صبغة نسوية وشبه أخلاقية على هذا النظام، مستغلين تعطش نساء العالم إلى «حرية» تشبه تلك التي يمتلكها الرجل، حرية ليست تشبه الحريه في شيء.
إن التصور السائد في كل من الغرب والشرق الكامن في كون الديمقراطية أساسًا لتحقيق العدالة لهو تصور أقل ما يقال عنه أنه بعيد كل البعد عن الصواب، فقد شهدنا على مر التاريخ مفارقات عجيبة بين ما تدعيه دول الغرب من نجاعة للديمقراطية والواقع المعاش في هذه الدول حيث لا عدالة إلا للأغلبيات. إن العدالة لا تحقق من خلال ترديد شعارات فارغة وتصديق الرواية الإعلامية التي تزعم أن العدالة قد جرى إرساؤها بنجاح، ولا عن طريق تجاهل حقيقة أن القانون ليس عادلًا، وبالتالي ليس قادرًا على إعطاء كل ذي حق حقه. لا تتحقق العدالة فعلًا إلا بخوض النقاشات الصعبة التي تهز استقرار الطبقة الحاكمة، بدل النقاشات العقيمة التي لا تفضي لشيء ما عدا تكرار مصطلحات أكاديمية وتكريس استعمال لغة الخشب في الميدان السياسي، وكذا بهدم الأنظمة التي لا تقبل أي نوع من الإصلاح.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن التمسك بنظام اقتصادي وقيمي حتى في آخر مراحل احتضاره، الدوجمائي من جهة عامة الناس، والبراجماتي من جهة أصحاب الشركات والمؤسسات الربحية، هو نتاج ثقافة الانفرادية والتنصل من المجتمع، كما أن التطرق للحديث عن العدالة الاجتماعية يفرض علينا الحديث عن العدالة المناخية والعدالة لصالح الشعوب المحتلة وأوطانها المسلوبة خيراتها. سنجد دائمًا في صراعنا للأجل عدالة شاملة أنصارًا للرأسمالية وحداثيين عاجزين عن اتخاذ مواقف صريحة في علاقتهم مع النظام وغير مهتمين بتحقيق العدالة في بلدان الجنوب، لكن واجبنا كصناع تغيير أن نرفض رفضًا قاطعًا الحلول الوسطى، تلك الحلول الترقيعية التي لا تفضي إلى عدالة حقة وتلهينا عن هدفنا الأوحد والأهم، فنصبح تائهين دون بوصلة ترشدنا.
إن الصراع لأجل بقاء النوع البشري وكوكبنا بنباته وحيواناته يستوجب إرساء السلم العالمي، لكن السلام لا يحقق إلا بتحقيق العدالة ونصرة المظلومين أينما كانوا، لكن النظام الرأسمالي الإمبريالي يروج لمظهر من «السلام» تشوبه عيوب كثيرة من بينها أن هاته الرواية الغربية الصنع تفتقد عنصر جبر خواطر الشعوب التي كسرت إرادتها بفعل الاحتلال وأخرى لم تزل تحاول الخروج من تحت وطأة مستعمر خرج من الباب ودخل من النافذة.
المصدر: ساسة بوست