مقالات مختارة

عن الحرية الشخصية والجهر بالمعصية!

بقلم علي حسن فراج

من الأمور التي ما تنفك تثير جدلًا متجددًا: قضية حرية الشخص في الاستعلان بممارسة تصرفات يراها حقًّا ذاتيًّا له، وتكون محرمة أو ممنوعة في الشرع،فلا تزال هذه القضية موضع صراع واشتباك دائمين بين التيار الليبرالي والتيار الديني.

وبجانب ما يراه الليبراليون من كون كل تصرف ليس فيه إضرار واعتداء على حرية الآخرين، فلا بد أن يكون حقًّا مكفولًا للإنسان – بجانب هذا فهم يرون أن في الاستعلان ببعض المحرمات نوعًا من الاتساق والصدق مع الذات والمجتمع، وأن الذي يأتي بعضَ القبائح والمحرمات في العلن قد نأى بنفسه عن ظاهرة النفاق التي يعيشها فئام كثيرة من الناس؛ حيث يقعون في الزنا، أو في تعاطي المُسْكِرات، ونحو ذلك من المنهيَّات، ثم يظهرون أمام الآخرين بمظهر الأطهار الشرفاء، أو المتدينين الفضلاء، بل قد يذهب ببعضهم الشطط – بزعم الغَيرة على الفضيلة والأخلاق – إلى الوقوع في عِرض مَن يشتهر بتعاطي المُسْكِرات، أو الوقوع في الزنا، وهم أنفسهم يفعلون ذلك وأكثر منه في السر!

ويرى الليبراليون أن المجتمع الذي تنتشر فيه تلك الأمور سرًّا مع استقباحها واستقباح فاعليها علنًا – مجتمع منافق، مليءٌ بأمراض التناقض والازدواجية.

والحق أن مَن يدعي الفضيلة والطهر علنًا مع كونه آتيًا للرذائل في السر واقعٌ في التناقض والازدواجية والنفاق، مجتمعًا كان أو فردًا، لكن قضية الاستعلان أو الجهر بالمعاصي أبعادُها أكبر من تلك الزاوية التي يتكلم منها الليبراليون.

ذلك أن جهرَ الناس بمعاصيهم أو (حريتهم في تصرفاتهم الشخصية في التصور الليبرالي) – هو مَدْعاة عظيمة لانتقال المعصية والذنب من دائرة الرذيلة والشر إلى دائرة المباح والمسموح، أو الحق الشخصي الخالص كما تطرحه الفكرة الليبرالية،فإذا سُمح للناس بأن يستعلنوا بالمنكرات والمنهيات لم تعُدْ تلك المنهيات والمحرَّمات – مع مرور الأيام – أشياءَ قبيحة، ورذائلَ منكرة، يتحاشاها الناس ويستخفُون منها خشيةَ سقوطهم من أعين الآخرين.

والإسلام حريصٌ كل الحرص على أن يبلُغَ الناس في تمسكهم بتعاليمه الغايةَ، وأن تكون سرائرهم نقيةً طاهرة كعلانيتهم، وألا يكونوا متناقضين ولا منافقين؛ فنصوص القرآن والسنة دائمةُ الذم لمن يخالف ظاهرُهم باطنَهم، ولمن يقولون ما لا يفعلون، ولمن يأمرون الناس بالبِرِّ وينسون أنفسهم،لكن إذا لم يصل الناس إلى تلكم المنزلة من الإيمان وتحقيق الطهر في الباطن قبل الظاهر – فهل يكون الحلُّ في السماح لهم بأن يجاهروا بمعاصيهم ليكونوا أشرارًا في الظاهر كما هم في الباطن؟!

إن الضعفَ البشري يستولي على الإنسان، وكل شخص عُرضة لأن يضعف إيمانه ويسقط في حبائل الشهوة، فيأتي من الذنوب اليوم ما كان ينهى عنه بالأمس، لكن الحل لهذا الضعف هو السعيُ في التغلُّب عليه، والخروج من براثن المعصية والإثم والعودة إلى طريق الاستقامة والفضيلة،بيد أن هذه المحاولة للتغلب على النفس ومقاومة الضعف البشري أمام الشهوات المختلفة – لا يمكن أن تتم في حال انتشار المعاصي علنًا، والمجاهرة بها على الملأ، بل الجهرُ والمعالنة عامل رئيس في استمرار الشخص في الإقامة على المعصية وعدم النزوع عنها؛ لأن جهرَ الآخرين بفعل المعصية يحرِّض العاصيَ على الاستمرار عليها، ويغريه بها، بل يحرض من لم يتلبس بالمعصية على الوقوع فيها وتجرِبة تعاطيها،وهذه حكمة أخرى من حكم الشارع في النهي عن المجاهرة بالمعاصي، بجانب ما سبق ذكره من كون الجهر يفتح الباب أمام سواغية الفعل، وانتقاله من دائرة التحريم والنفور والرذيلةِ إلى دائرة المباح والقَبول.

ولنأخذ مثالًا واقعيًّا على ما سبق ذكره، وليكن مسألة “الرِّشوة”؛ فالرِّشوة مستقبحة في العرف كما هي محرمة في الشرع، ولنتصور أن موظفًا أو عدة موظفين في دائرة حكومية ما يتعاطون الرشوة أثناء تأدية عملهم، لكن كل واحد منهم يفعل ذلك على وجه الخفاء، ليس فقط خوفًا من الوقوع تحت طائلة القانون، بل أيضًا خوفًا من السقوط مِن أعين المجتمع؛ لئلا يقال عنه: إنه شخص فاسد مرتشٍ،أيهما أفضل للمجتمع أن يظل الواحد من هؤلاء مستخفيًا بتعاطيه الرشوة وإن كان مقيمًا عليها مع الذم لها في الظاهر أم أن يستعلن هو وزملاؤه بما يتقاضونه من رشى، بحيث يتحدثون أمام الناس بلا أدنى حرج أنهم يأخذون الرشى ويأكلون الحرام؟!

لا ريب أن الحالة الأولى وإن كانت قبيحة وسيئة وتعبر عن وجود خلل في المجتمع، فإنها أهونُ من الحالة الثانية؛ لأن فيها ستصل الرشوة إلى مرحلة ستعتبر فيها غير قبيحة، وليست سقوطًا وسفولًا من فاعلها، بل تصير نوعًا من التكسب، وبابًا سائغًا من الرزق، مثله تمامًا مثل أي عمل شريف يقوم به صاحبه ليكسب المال ويحصله، وتكون النتيجة أن ينتشرَ هذا الفعلُ في المجتمع لتسقط مؤسساته في وحل الفساد المالي والإداري، وتضيع الحقوق، وتعطى الفرص لغير مستحقيها، ويكون انهيار الدولة هو المصيرَ.

إن الآثارَ الكارثية لانتقال الرشوة من دائرة الرذيلة التي يفعلها بعض الموظفين ضعفًا منهم أمام إغراء المال إلى دائرة الكسب المباح الذي يجاهر به جميع الموظفين بلا أدنى أحرج – شبيهةٌ بالآثار الكارثية لانتقال الزنا وشرب المُسْكِرات وسائر المعاصي من دائرة الذنوب التي يستخفي بها الناس إلى دائرة الحرية الشخصية والحق الذاتي، التي يأتيها أفراد المجتمع بلا خوف من وقوع اللائمة النفسية أو المجتمعية عليهم.

وهذا الخطر – خطر انتقال الفعل من دائرة الحرام إلى دائرة السواغية – يكشف لنا جانبًا من حكمة الشارع في النهي عن الجهر بالمعصية؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ أمتي معافًى إلا المجاهرين))، كما يكشف لنا جانبًا من حكمة الشارع كذلك في الاعتناء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وركنيَّة هذه الشعيرة في الدِّين، وإن كان ظاهرها هو التدخل في شؤون الآخرين، فإن مِن مقاصدها استمرارَ صورة المعروف معروفةً في أذهان الناس، واستمرار صورة المنكرات منكرةً في أذهانهم؛ لئلا يأتي يوم على أجيال جديدة ترى المعروف في صورة المنكَر، والمنكَر في صورة المعروف!

وأخيرًا، إذا قلنا: إن المجتمع الذي يأتي أفراده الرذائل سرًّا وهم يدَّعون الفضيلة في العلانية مجتمع مريض، فكذلك نقول: إن المجتمع الذي يأتي أفراده الرذائل علانية ومجاهرة مجتمع ميِّت، ولا ريب أن الميت أسوأُ حالًا من المريض!

(الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى