عندما يسخر الدين للدفاع عن الوثن والوثنية
بقلم محمد خير موسى
في قضيّة اغتيال الخاشقجي التي أثارت زوبعةً أقضّت مضجع إحدى هذه الأوثان سارع الكهنة من أجل تنقية الأجواء حول وثنهم الأكبر الذي اهتزّت أركانه على وقع الدّم المسفوك ظلمًا
“إذا غابت الفكرةُ بزغ الصّنم” بهذا القول علَّل مالك بن نبيّ ظهور الصّنميّة والوثنيّة رغم امتلاك النّاس الفكرة الصّادقة والمنهج الحقّ من جديدٍ في المجتمعات التي تضربها الأمراض الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة ، ولكنَّ الكارثة لا تكمن فقط في بزوغ الأصنام وعلوّ شأنها، بل في مسارعة الكهنة الذين أوحَوا إلى النّاس بأنّهم منارات الهداية عند اشتداد الظّلمة، وحمَلَة الفكرة الصّادقة وورثة الأنبياء، ليكونوا هم لا سواهم سدنةَ هذه الأصنام، وخادميها الذين ما يفتؤون يشعلون البخور حول الصّنم ويطهّرونه من كلّ نجاسةٍ يتلطّخ بها.
على أنَّ أخطر ما يمارسُه هؤلاء هو استخدام الدّين الذين جاء ليهدم الأصنام، ويمحو الوثنيّة بأشكالها كافّةً، ويحرّر الإنسان من نير العبوديّة للإنسان، ومن ذلّ الرّق للوثن؛ ليكون هو الوسيلة لخدمة هذه الأصنام وإحاطتها بالقداسة وما يتّصل بذلك من تشريعات؛ وهل من كارثةٍ أعظمَ من تسخير الدّين الذي أنزله الله تعالى لتحقيق الحريّة والعدل ليكون خادمًا للظلم والاستعباد والطّغيان؟!
الكهنة؛ وإغاثة الوثن الملهوف
كلّما ثار الغبارُ حول وثنٍ من الأوثان التي تفتكُ بالكيان الأقدس؛ الإنسان، وتجعله أرخصَ موجودٍ وأهون مفقودٍ على ظهر البسيطة؛ يسارُع الكهنة بالتّدخّل لإغاثة الوثن الذي لا يطيق الغبار ولو كان غبارًا تثيرُه حوافرُ الكلمات، أو تُطيّرُه شاشات الفضائيّات.
والكهنة هنا هم مجموعةٌ من العلماء تجدهم في كلّ زمانٍ وكلّ مكان، وعلى مائدة كلّ طاغية، ليس لهم توجّه واحدٌ فقط، وليسوا أبناء مدرسةٍ فكريّةٍ بعينها، بل تجدهم في كلّ المدارس الفكريّة، فليس المهمّ عندهم هو الفكرة ولا المدرسة التي ينتمون إليها؛ بل المقدّس الأوحد هو الوثن الذي يجود عليهم بالدَّرِّ أو بالدُّرّ.
وهؤلاء ليسوا هم العلماء كما يحلو للكثيرين من هواة التّعميم بل هم النسبة الأقلّ منهم، ولكنّهم الأشدّ بروزًا وظهورًا، لأنَّ الوثنَ هو من يملكُ مساحات الظّهور وقرارات الإظهار من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ لأنّ غيرهم من العلماء بين صامتٍ خائفٍ أو سلبيٍّ متخاذلٍ أو صادعٍ بالحقّ مطاردٍ أو محبوسٍ أو مضيّقٍ عليه.
تسخير الدّين لتقديس الوثن
لا يتوانى الكهنة عن خلع كلّ صفات القداسة على الوثن، وهذا موجودُ في كل المجتمعات الوثنيّة، ولكنّ الخطورة عند كهنةِ اللحية والغترة والعمامة أنّهم يقدّسون الوثن باسم الله، وبآيات الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويحشدون كلّ قدراتهم العلميّة واللّغويّة والبلاغيّة لإثبات أنَّ الله تعالى هو الذي قدّس وثنهم، وهنا يتبارى كهنةُ كلّ قطرٍ في التّأكيد على أنّ أوثان البلاد الأخرى ملعونةٌ من الله تعالى ذاته الذي قدّس وثنهم دون سواه من الأوثان.
في قضيّة اغتيال الخاشقجي التي أثارت زوبعةً أقضّت مضجع إحدى هذه الأوثان سارع الكهنة من أجل تنقية الأجواء حول وثنهم الأكبر الذي اهتزّت أركانه على وقع الدّم المسفوك ظلمًا؛ ولم يتورّعوا عن استخدام منبر المسجد الحرام؛ ليقف الخطيب السّديس جوار الكعبة معيدًا إليها الأوثان التي أزهقتها عصا النبوّة عند الفتح؛ فيصف ابن سلمان بانّه “المُحَدّث المُلهَم” وهذا الوصفُ هو وصفٌ نبويّ ذكره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: ” لقد كانَ فيما قبلكم من الأمم ناسٌ مُحدَّثون، فإن يكن في أمّتي أحدٌ فإنّه عمر”
ومعنى محدَّثون في الحديث مُلهَمون؛ والحديث النبويّ واضح الدّلالة عند أبسطِ عارفٍ بلغةِ العربِ أنَّه صلّى الله عليه وسلّم جعل هذه الخاصيّة لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه فيما لو حدثت أصلًا؛ فيأتي السّديس ليخلع هذا الوصفَ بصيغة الجزمِ التي تجنّبها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ابن سلمان، ويجعله في مصاف عمر بن الخطّاب الذي دانت الدّنيا كلّها بعدلِه، وأقرّ جميع النّاس عربًا وغير عربٍ ومسلمين وغير مسلمين بعظيم حكمه وإدارته وترسيخه لمبادئ العدل في أعظم دولةٍ عرفها النّاس، فلكم أن تتخيّلوا إيصال ابن سلمان إلى مرتبة عمر بن الخطّاب!!
وكلّ هذا تستخدم به الأوصاف النبويّةُ والمسجد الحرام ومنبر الجمعة؛ فهل هناك استخدامٌ للدين من أجل تقديس الوثن أجلى وأقسى من هذا الاستخدام؟!!
تسخير الدّين لتشريع الوثنيّة
على أنَّ هناك ما هو أخطر من استخدام الكهنة الدّين في تقديس الأوثان وهو تسخيرُهم الدّين في تشريع الوثنيّة؛ وذلكَ أنَّ الوثنَ مآلُه إلى زوالٍ من واقع النّاس السّياسي أو الاجتماعيّ، فيمكن تحطيمُه أو اقتلاعه أو استبدال صانعيه وثنًا آخر به، لكنّ الوثنيّة فكرةٌ تتغلغلُ في أعماق الوجدان المجتمعي، والعقل الإنسانيّ لا سيما عندما تجد ظروفَها الملائمة، وهي تكون أعظم رسوخًا وأكثر تجذُّرًا حين تلبس ثوب الدّين والمُعتَقَد؛ فيتمّ زرعُها في الأذهان والعقول على أنّها هي مراد الله تعالى، وأنَّها هي التّشريع الذي جاء به المرسلون.
ففي قضيّة اغتيال جمال خاشقجي نفسها يبرز على الفور عقب اعتراف النّظام السّعوديّ باغتياله من يؤصّلون لجواز الجريمة مستحضرين أدلّةً من الشّرع وحوادث من التّاريخ الإسلاميّ
ومن ذلك ما فعله الشّيخ صالح المغامسي عندما استحضر حادثةَ مقتل مالك بن نويرة على يد خالد بن الوليد في عصر الخليفة أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنهما، وأصّلَ لقتلَ المجرمين للمغدور الخاشقجي بأنّه تجاوزٌ للصلاحيّات الممنوحة لهم من وليّ الأمر تمامًا كتجاوز خالد بن الوليد صلاحياته التي أدت به لقتل ابن نويرة، وما زاد أبو بكرٍ الصّديق على توجيه اللّوم لخالد على فعله ذاك!!
وفضلًا عن التّحريف والتّشويه لحقيقة الحادثة وتفاصيلِها؛ فإنَّ ما رمى إليه المغامسي في النّهاية هو التّشريع للوثنيّة من عدّة أوجه وهي:
حقّ ولي الأمر في إيفاد الزّبانية لاختطاف النّاس، وعدم القصاص من القاتل مبعوث وليّ الأمر، وحقّ وليّ الأمر في توجيه اللوم والعتب إلى مبعوثيه إذا ارتكبوا جرائم قتل، وعدم جواز مساءلة ولي الأمر في تجاوزات مبعوثيه إن ارتكبوا الجرائم.
كلّ هذه الأحكام يؤصّل لها المغامسي باسم الدّين؛ ويجعلها قواعد شرعيّة يحتكم إليها كلّ وثنٍ يريد التّخلّص من مخالفيه ومعارضيه؛ فهل هناك أشنع تشريع هكذا وثنيّة؟! وهل هناك ما هو أقبح من تسخير الدّين نفسه لتشريعها وترسيخها؟!
إنّ تسخير الكهنة الدّين لخدمة الوثن والوثنيّة هو من أقبح صور السّفه التي يمكن أن يتلبّس بها منحرفٌ على الإطلاق؛ فمن يبيع دينه بدنياه أقلّ سفاهةً ممّن يبيع دينه بدنيا غيره؛ غيره ـ وليّ الأمر ـ الذي لا ينظر إليه أصلًا إلَّا بصَغَارٍ واحتقارٍ بالغين.
ولئن ظنّ هؤلاء الكهنة أنَّ هذه الأوثان مغنيةٌ عنهم شيئًا فقد جانبوا أدنى قواعد المنطق في تعامل الأوثان مع أحذيتها المُعدّة للسيرِ والخلع عند انتهاء المسير، والتّبديل على حسب طبيعة الدّرب ووعورة الطّريق.
ولئن ظنّت الأوثان أنَّ الكهنة التي تشعل لها البخور هي من ستجلب لهم الأمن والحماية وصمت الجماهير التي يفوق وعيها ما يتصوّره وليّ الأمر؛ فقد ضلّوا عن قانون الله في الأمم؛ فلا أمن للبلاد ولا الخلائق مع أوثان مضلّة، ولا مع كهنةٍ مُضلِّلون ومُضَلَّلون؛ ولذا كانت دعوة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام ” رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ”.
(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج)