عندما حوَّلنا الدين إلى أيديولوجية!
بقلم أحمد التلاوي
تسود عالمنا المعاصر -منذ الستينيات الميلادية الماضية، عصر الثورة الثقافية والانفتاح الفكري- العديد من التيارات الفكرية التي تمحورت حول الإعلاء من قيمتَيْن أساسيتَيْن: العقل والحرية.
وطالت رياح هذه التيارات المقدسات والمسلَّمات كافة، بما في ذلك العقائد الدينية، والأخلاق، فيما أطلق عليه “زيجمونت باومان” وغيره من مفكري عصر الحداثة “Modernism” وما بعد الحداثة “Postmodernism”، بالسيولة “fluidity”، السيولة الأخلاقية، والسيولة السياسية، والسيولة الاجتماعية، وغير ذلك من مفردات حياة الإنسان ومجالاتها.
وجوهر هذه التيارات “مبدأ التفكيك”، والذي انتقده بعض المفكرين العرب، مثل الدكتور “عبد العزيز حمودة”، الذي كتب كتابين مهمًّين في هذا الصدد بعنوان: “المرايا المحدّبة… من البنيوية إلى التفكيك”، ونشره عام (1998م)، و”المرايا المقعَّرة… نحو نظرية نقدية عربية”، ونشره عام (2001م)، واتهمه البعض من المفكرين العلمانيين العرب على إثرها بالعداء للحداثة!
ويرتبط التفكيك في جوهره بدوره بمذهب الشك “suspicion”، الذي لا يقبل أية مدخولات لا تمر على مرشحات العقل الإنساني، بما في ذلك العقائد والتعاليم الدينية، ويستند في تفسيره وحكمه على الأمور إلى التفسيرات المادية التي تتعلق فقط بما يمكن أن تدركه الحواس البشرية، سواء بشكل مباشر، أو من خلال وسائط تقنية.
ومن الملاحَظ أن التيارات الإلحادية والعلمانية -وخصوصًا في عالمنا العربي- تركز في تطبيق مبدأ التفكيكية “Decomposition” هذا على الديانات المنزَّلة، أو ما يُطلَق عليه مسمى “الديانات السماوية”، ونقصد بها الإسلام والمسيحية واليهودية.
وهنا ثمَّة توضيح مهم، وهو أنه من الواجب لمعرفة حجم هذه الظاهرة، أن يتم الاطلاع على واقعها على مستوى العالم الغربي، فسنجد نفس الحجم من الهجمة والتشكيك التي نعرفها على الإسلام في عالمنا العربي والإسلامي، تتم هناك تجاه المسيحية، وعلى وجه الخصوص، المذاهب التقليدية القديمة، الكاثوليكية والأرثوذكسية.
وحتى عندما حاول البعض المواءمة بين “ضغوط” عواصف هذه التيارات، وبين إيمانهم الداخلي، تولَّدت ظواهر عجيبة، مثل “كنائس” عبدة الشيطان في الولايات المتحدة، والتي تكشف –كنموذج– عن طبيعة الخلل الحاصل في طرائق تفكير الكثير من أتباع هذه النظريات والتيارات، نتيجة الخلل الحاصل في المنطق الذي تستند إليه هذه الأفكار نفسها.
في المقابل، فإنه -وكمثل أية ظاهرة- يكون لها ردُّ فعلٍ متناسب معها، فكان أبرز الظواهر التي جاءت كردِّ فعلٍ إزاءها، التطرف والتشدد في المواقف من جانب المؤمنين والمتدينين من أتباع كل ديانة.
وهذه ليست مقدمة مستفيضة تبتعد عن القضية أو المحور المهم الذي نحن بصدده في هذا الموضع من الحديث، حيث يرتبط ذلك، وخصوصًا نقطة الخلل والفوضى في هذه التيارات، سواء في المنطق أو في المحتوى والأثر، بمشكلات كبرى حاصلة في فضائنا الإسلامي.
وأول ما تجب الإشارة إليه في هذا الصدد، هو أنه كان من المفترض أن يكون المسلمون هم أقل الأمم تأثرًا بالكثير من الخرافات التي احتوتها هذه المدارس، التي لا تقف أفكارها حتى على أرضية منطقية عقلية سليمة، بخلاف ما يدعيه أصحابها عن تمجيدهم للعقل ومساراته ومتطلباته.
وهو أمر بديهي في ظل الكثير من الأمور التي اختص بها الله عز وجل دينه الإسلام، وعلى رأسها كتابه العزيز القرآن الكريم، الذي يتميز عن غيره من كل الكتب التي أنزلها الله تعالى، أو حتى وضعها أصحاب الديانات والفلسفات الوضعية، بالكثير من السمات التي تؤهله لأن يكون أكبر مصدر للاطمئنان للعقيدة لدى كل مسلم، بحيث لا يكون في الأصل بحاجة إلى الأخذ من أية كتب –فلسفات، ثقافات… إلخ- أخرى.
فالقرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى له، ومتسق مع ذاته، ولم يجد أي من العلماء الملحدين أو العلمانيين، وعبر التاريخ، أي تناقض، كما أن نصوصه كلها مع التنوُّع الكبير في محتواها الموضوعي، إلا أنها كلها تأتي في سياق واحد رئيس، وهو إثبات عقيدة التوحيد، وبأسلوب لا يمكن بحال معه أن يكون من وضع بشرٍ، برغم تطور محتواه الموضوعي، وتنوعه بين المرحلة المَكِّية والمرحلة المدنية من البعثة النبوية.
القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى له، ومتسق مع ذاته، ولم يجد أي من العلماء الملحدين أو العلمانيين، وعبر التاريخ، أي تناقض، كما أن نصوصه كلها مع التنوُّع الكبير في محتواها الموضوعي، إلا أنها كلها تأتي في سياق واحد رئيس، وهو إثبات عقيدة التوحيد
وذلك في حد ذاته يطمئن المسلم إلى أنه كتاب الله تعالى، ومعجزته الباقية، وبالتالي يطمئن إلى عقيدته.
كما أن القرآن الكريم من دون باقي الكتب الأخرى المنزَّلة، أو موضوعة لديانات وفلسفات أخرى بشرية، كتاب شامل، ويتضمن مناقشة لمئات القضايا والظواهر التي يمكن أن يقف أمامها الإنسان، ويجيب بوضوح تام على الأسئلة الكُلِّيَّة الكبرى التي تحكم حياة الإنسان ، وسعيه فيها، وتصوراته عنها، وعن حياته بعدها، وعن الكون، وعن ربِّه.
ومن بين أهم هذه الأسئلة: لماذا خلقنا اللهُ تعالى، وماذا على الإنسان فِعْله في الدنيا، ولماذا خلق اللهُ تعالى الشر والشيطان والمعاناة، وغير ذلك من الأمور التي شكَّل غيابها في الديانات والعقائد والفلسفات الأخرى، مشكلات ضخمة لدى أتباعها، قادتهم إلى الإلحاد.
لكننا، ولعوامل عديدة، وجدنا تأثيرات كبيرة لهذه التيارات على المسلمين، وخصوصًا جيل الشباب.
ومن بين أهم هذه العوامل، الخلل الحاصل في مناهج التعليم العام، وتراجع التعليم الديني لحساب التعليم المدني، بالإضافة إلى الكثير من المشكلات التي وقعت فيها الحركات الإسلامية، وأبرزها وأخطرها، الخلافات السياسية والفقهية، والتي وصلتْ إلى مستوى التكفير، والدخول في صراعات مسلحة واقتتال بين هذه الحركات.
ساهم ذلك مع خلل مفاهيمي لدى الكثير من الموجودين في الحركة الإسلامية المعاصرة، حتى على مستوى القمة، يخلط بين الدين وبين الحركة أو الجماعة، بينما الأخيرة هي أداة لخدمة الأول، ومناهجها ليست عقائد وفقهًا، بحيث يكون مخالفتها بمثابة خروج عن الدين، وإنما هي أداة تنشئة وتلقين بالأساس.
ولكي لا نُستَغرَق في هذه القضية التي نوقشت في مواضع شتَّى سابقة، فإننا نقف هنا عند مشكلة التنشئة والخلافات وما قادت إليه، وهي صُلب موضع هذا الحديث، حيث تم تحويل الدين إلى أيديولوجية “Ideology”، بينما الفارق بينهما كبير للغاية.
فقد يبدو أن ظاهرة الدين، هي أحد أوجه “الأيديولوجية”، حيث تعني هذه الأخيرة معنىً قريبًا بشكل ظاهري من تعريف الدين، فهي تشير في الاصطلاح إلى منظومة من الأفكار التي تستقر في وجدان المؤمنين بها والذين يتبنونها، وبالتالي فهي تحكم تصوراتهم وسلوكهم في الحياة.
ولكن هذا تفكير قاصر، فالدين أمر أشمل وأوسع من ذلك بكثير، فهو يتضمن منظومة كاملة من الإيمانيات التي لا تتعلق بالجوانب التطبيقية في حياة الإنسان والمجتمعات.
فالأيديولوجية تقف عند حدود وضع تصوراتٍ قيمية عن الحياة، وقواعد للتعامل وإدارة المجتمعات، وفق منظومة تراتبية من القيم، مثل “الليبرالية” التي تُعلي من قيمة الحرية، والاشتراكية التي تُعلي من قيمة المساواة، على ما عداها من قيم، بينما الدين بجانب هذه الأمور وتنظيمه لها، فهو يتضمن عقيدة تتعلق بالإله الذي يعبد، وبفكرة الخالق وطبيعته.
الأيديولوجية تقف عند حدود وضع تصوراتٍ قيمية عن الحياة، وقواعد للتعامل وإدارة المجتمعات، وفق منظومة تراتبية من القيم، بينما الدين بجانب هذه الأمور وتنظيمه لها، فهو يتضمن عقيدة تتعلق بالإله الذي يعبد، وبفكرة الخالق وطبيعته
وهو الجانب الأهم في الدين، ولذلك نجد أن القرآن الكريم قد ركَّز عليها، باعتبار أن الإسلام هو الدين الخاتم، وبالتالي فإنه كان من الضروري إزالة مختلف الشوائب التي طالت فكرة الإله والخالق ورب الكون في الديانات المُنزَّلة السابقة بسبب تحريفها، أو بسبب قصور الرؤية في الديانات الوضعية بطبيعة أن واضعيها هم بشر بكل ما فيهم من نقائص وعوارض.
إلا أن ما أشرنا إليه من مشكلات، وخصوصًا انحراف الحركة الإسلامية –كظاهرة ولا نقصد حركة بعينها أو ما شابه– عن دورها ورسالتها، وتحولها إلى انتماء سياسي، بل وعقدي لدى أتباعها في كثير من الأحوال، حوَّل القاعدة الأساسية التي تنهض عليها الحركة الإسلامية، وهي الدين، إلى أيديولوجية، في ظل تمسك كل حركة من هذه الحركات، بتصورات وتفاسير خاصة بها عن تعاليم الإسلام، صنعت قوالب مختلفة للدين بين هذه الحركة أو تلك.
وفاقم من هذه الحالة الصدامات التي وقعت بين الكثير من الحركات الإسلامية المعاصِرة، وتحوَّل الانتماء إلى الحركة، وبالتالي الإيمان بتصورها الخاص عن الدين وتعاليمه وأحكامه، إلى وسيلة نجاة، باعتبار أنها انتماء لمجموع أكبر يحمي الفرد المسلم، ويقيه من عواقب انفراد خصومه “الإسلاميين” به!
وفاقم من حالة الأيدولوجية الصدامات التي وقعت بين الكثير من الحركات الإسلامية المعاصِرة، وتحوَّل الانتماء إلى الحركة، وبالتالي الإيمان بتصورها الخاص عن الدين وتعاليمه وأحكامه، إلى وسيلة نجاة
ويتصل بذلك نقطة مهمة، وهي أنه -وتحت وطأة التغييب الذي حصل لفريضة الجهاد، وعدم كفاية التراث الإسلامي في المجال السياسي؛ لأسباب تتعلق بالملك الجبري الذي ساد الدولة الإسلامية عبر تاريخها الطويل بعد مرحلة الخلفاء الراشدين، وكرسته القوى الاستعمارية، ثم الأنظمة العلمانية التي حكمت ما بعد الاستعمار- نقول إنه تحت وطأة ذلك، كان اهتمام الحركة الإسلامية بهاتَيْن القضيتَيْن على حساب أمور أخرى.
وهو أمر يخالف جوهر الدين ذاته، الذي هو مجموعة شاملة ومتوازنة من المجالات التي شملتها التعاليم والأوامر والنواهي التي جاءت في المصدرَيْن الأساسيَّيْن للتشريع، القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة.
فعلى سبيل المثال، نجد في المناهج التربوية مرورًا غير كافٍ حول قضايا العقيدة والوحدة الموضوعية للقرآن الكريم التي ضمنت وحدة هذا الدين، والذي يضمن بدوره وحدة الأمة، والذي هو من أهم ما دعا إليه القرآن الكريم من أمور، وشدد على عظيم مخالفته. يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سُورة “الأنعام” – من الآية: 159]، ويحفظ للمسلمين وجودهم وبقائهم وكرامتهم بين الحضارات والأمم الأخرى. يقول عز وجل: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [سُورة “الأنفال” – من الآية: 46].
في مقابل ذلك، نجد تركيزًا عميقًا –مطلوبٌ في واقع الأمر، ولكن مع ضرورة موازنته بمناهج أخرى بالشكل الذي يحفظه من الانحراف وطمس غيره من الأمور المهمة كما تقدَّم– على السياسة والأدوار السياسية والاجتماعية التي تقوم بها الحركة الإسلامية، بما حوَّلها إلى نقطة تمركُز حول الحركة، وليس حول الدين والأمة ومصالح الدعوة.
القضية الأخرى، وهي تتصل بالخلل الحاصل في مناهج التعليم، ومن ضمن ذلك، قضية المحاضن التربوية والمناهج داخل الحركات الإسلامية، وبالذات الصحوية منها، أنه وباسم الانفتاح على الثقافات والأفكار الأخرى وجدنا أخذًا من هذه الأفكار بشأن تأصيلي، أي بشكل جعله جزءًا من المكوِّن الفكري، وبالتالي السلوكي للكثير من المسلمين، وعناصر الصف الحركي، وخصوصًا الشباب.
وتتركز هذه المشكلة في فئة بعينها من شباب الحركة الإسلامية، وهي الفئة التي رأت فشل الأفكار والسياسات التي تبنتها القيادات الحركية، وربطت الفشل بأصل الفكرة، وبالتالي بدأت في البحث عن بديل في المدارس والتيارات الفكرية والسياسية الأخرى.
بل هناك مفكرون مسلمون معاصرون، يرون أن جذر تأسيس جماعات العنف والإرهاب باسم الدين، إنما هو نتيجة النمط الفكري والثقافي الذي أفرزته الحداثة الغربية، والذي أشاع الفوضى بين ظهراني الإنسانية بالكامل ، وغيَّب أي ضابط فكري أو أخلاقي، أو غير ذلك، من خلال “تقديس” العقلية النقدية.
وختاما، فإن هذه القضية على أكبر قدر من الأهمية والتَّشعُّب في آنٍ، بحيث أن بحثها ورصدها فقط لتقييم حجمها، بحاجة إلى دراسات موسَّعة، سواء على المجموع المسلم، أو الصف الحركي، أو فيما يخص المناهج وآليات العمل والتنشئة داخل المحاضن التربوية الحركية.
وهذه القضية ليست من نافل القول أو الترف، فربما فيها مصير الدعوة والصحوة الإسلامية بالكامل.
(المصدر: موقع بصائر)