مقالاتمقالات مختارة

عندما تُملأ الأرضُ جورًا وظلمًا..

بقلم د. عبد العزيز كامل

قبيل حادثة الحَرَم المكي عام 1400 هـ الموافق للعام 1980م، كان مُعظم الناس في المملكة السعودية مشغولين بالأمر الذي ذاع وانتشر في ذلك الوقت؛ وهو اشتهار أمر شخص من طلبة العلم، أشاع المئات من أصحابه وأنصاره بأنه هو المهدي المنتظر المبَشَّر به في الأحاديث، وأنهم سوف ينصرونه حتى يُبايعوه بين الركن والمقام في بداية العام، وتحول الأمر إلى فتنة بهذا الشاب، انقسم الناس فيها بين مصدق ومُكذب، حيث كثرت في ذلك الشخص علامات زادت الاشتباه والارتباك في أمره، من حيث مطابقة اسمه ونسبه وملامحه ومخرجه ، للصفات الواردة في الأحاديث، وزادت الحيرة بعد أن حددت الفئة المجتمعة عليه موعد بيعته بالحرم، في الساعة الأولى بعد فجر اليوم الأول من الشهر الأول من العام الأول للقرن الهجري الحالي؛ الخامس عشر..

كنت وقتها قريبًا من مكة، وكنت أدرس منتسبًا في السنة الأولى بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود بمدينة أبها، بعد تركي للدراسة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وصار كثير من الناس في حيرة شديدة، وعندما كان الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- يُسأل عن صحة هذه الدعوى؛ كان يستدل في إنكاره لهذا الأمر بالواقع قبل أن يستدل بالنصوص، فيسأل الناسَ بالمسجد.. هل ترون أن الأرض حقًا قد مُلئت جورًا وظلمًا..؟ وهل أنتم في هذه البلاد تعانون الجور والظلم؟.. فكانوا يجيبون بالنفي؛ شاكرين الله على نعمة الأمن والأمان التي كان الجميع يعيشونها آن ذاك – مواطنين ومقيمين – فكان الشيخ يقول لهم بعد جوابهم: اعلموا إذن أن المهدي لن يجئ زمانه حتى تُملأ الأرض جورًا وظلمًا، فيخرج ليملأها بأمر الله قسطًا وعدلًا..

أما الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- فكان يستدل بالواقع أيضًا على نفي دعوى مهدوية محمد بن عبد الله القحطاني ولكن من وجه آخر، فقد كان يقول: إن المهدي لن يخرج إلا في زمانِ توجد فيه قوة وتمكن ورشد عند فئة من المسلمين، تستطيع برشدها وقوتها نصرته، فأين هي الآن؟.. ووقتها كان الغزو الروسي الشيوعي لأفغانستان في بدايته، ولم تكن الصحوة الإسلامية قد نضجت، ولا الظاهرة الجهادية قد وُجدت.. ومضت محنة الحرم السوداء بعد ذلك، وقُتل من قُتل في داخل المسجد، وعلى رأسهم الشخص المُدعى فيه المهدوية، وأُعدم من أُعدم بعده، وعلى رأسهم صِهره ؛ جهيمان العتيبي.

والآن، وبعد ما اقتربنا من الأربعين عامًا بعد فتنة الحَرم، يقفز إلى الأذهان في كل آن خاطر متبادر؛ وهو.. أليس المسلمون اليوم يعيشون زمان الجور والظلم وفقدان الأمان في كل مكان..؟ هنا يُستفاد من الدرس الذي رسَّخه الشيخان الجليلان -ابن عثيمين والألباني- في أن العلامة العظمى التي تُؤذن بقرب بدء الأشراط الكبرى للساعة؛ هي انتشار الظلم في جنَبَات الأرض الأربعة، حتى لا يكاد المسلم المستمسك بدينه يرى بلدًا يجد فيها أمانه وأمان أهله وكرامتهم وعزتهم، بسبب تراكم الظلم وتداعي الأمم، ويوازيه أو يقترن به أمر آخر، وهو أن ذاك الظلم والجور والقهر؛ يُخرج من مخاضه العسير وفتنه المتتابعة تمحيصًا وتمايزًا، ينشئ جيلًا قادرًا على انتزاع زمام القوة من أعداء الأمة شيئًا فشيئًا، حتى تتميز بملاحم الابتلاء ملامح الطائفة المنصورة، التي تستكمل مؤهلات طريق النصر، فتسَلِّم الراية للمهدي الحقيقي عندما يأذن الله بخروجه في زمانه المقدور..

الخلاصة أن خلاص المسلمين العاجل؛ ليس في أماني الانتظار الآجل بخروج مهدي لتمكين الدين وقهر الظالمين، ولكن في الأخذ بأسباب رفع التظالم الواقع بينهم، حتى يُعانوا على دفع ظلم من ظلمهم، مع تمتين علاقات القوة والأخوة فيما بينهم، ليتقووا بهما على عدو الله وعدوهم؛ حتى إذا ما خرج المهدي -وقتما يخرج- يجد أنصارًا مهديين، متآخين مجتمعين، ينصرونه باجتماعهم على نصرة الدين.. أما دعاوى المهدوية التي تتكرر كلما أظلمت الدنيا فتُنزَّل وتُرَكَّب عليها أحوال وأحكام؛ فإنها مَزَلة أقدام، طالما شطح فيها أقوام.. ونحن نتعبد الله بالعمل على انتصار الشرع ، لا بانتظار القدر..

(المصدر: موقع الأمة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى