عندما تنادي الشعوب بعودة المحتل!
بقلم حسن الرشيدي
“تعا وجيب معك الانتداب، ما بقي بدنا ها الاستقلال”
هذه كانت تغريدة لمواطنة لبنانية مسيحية كتبتها بالعامية اللبنانية، عندما علمت بزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان، تطالبه فيها بأن يأتي ومعه الانتداب الفرنسي، ومصطلح الانتداب هو مصطلح يحاول به واضعوه التغطية على المعنى الحقيقي له وهو الاحتلال الفرنسي للبنان، ولكن اللبنانيين على حد تعبير كاتبة التغريدة أصبحوا لا يريدون الاستقلال.
وقد وقع أكثر من أربعين ألف لبناني عريضة، تطالب بعودة الانتداب الفرنسي للبنان، حيث أطلق نشطاء عريضة إلكترونية عبر الموقع الشهير آفاز، طالبوا فيها بعودة الانتداب الفرنسي إلى لبنان لمدة عشر سنوات مقبلة، بعد يومين من حادثة انفجار المرفأ في بيروت، لأن هذا التفجير الدامي أصبح دليلا على فشل الدولة اللبنانية بعد الاستقلال بحسب رأي هذه الفئة.
وبالرغم من أن كثير من المغردين اللبنانيين قد استنكروا الدعوات لعودة الانتداب ورفضوها بشكل قاطع، معتبرين أنها تفريطٌ في دماء الشهداء الذين قاوموا الاحتلال، كما طالبوا الجهات المسؤولة بالوقوف عند هذه المطالب ومحاسبة القائمين عليها، واعتبروا أن من يتخلى عن استقلال وطنه كمن يتخلى عن عرضه وشرفه، وكتب أحدهم مغردا باللهجة اللبنانية قائلا: اللي بدو الانتداب الفرنسي يرجع، يروح يقدم طلب لجوء على فرنسا.. يا عيب الشوم.
إلا أن الدعوة نفسها لإعادة الاحتلال تحمل دلالات خطيرة أهمها: انهيار النظام السياسي اللبناني والذي قام بعد زوال الاحتلال الفرنسي، فهذه الدولة قُسمت السلطات والمناصب العليا فيها تقسيما طائفيا بين الطوائف الكبرى، وإن كانت أعطت للمسيحيين اليد العليا في الناصب والصلاحيات، ونتيجة هذا الوضع للمسيحيين فإن التسلط الفرنسي ظل موجودا باعتباره أنه ضمانة لاستمرار ذلك النفوذ، وكرد فعل لهذا حاولت كل طائفة الاستعانة بدول أخرى لتوازن الدور الفرنسي، وهذا أدى إلى أن تندلع الحرب الأهلية في لبنان بين الطوائف عام 1975، كما أدى هذا أيضا لجعل لبنان موطئا للنزاعات الدولية والإقليمية ومكانا لتصفية الحسابات بين هذه القوى.
ولا يقتصر النفوذ اللبناني على الوجود العسكري، والذي رحل في أعقاب تسليم الجزء الأكبر من النظام للهيمنة المسيحية، فقبل أن يكون الانتداب واقعاً عسكرياً في لبنان، كانت الثقافة الفرنسية عاملاً مؤثراً، فمنذ القرن التاسع عشر لعبت المدارس الإرسالية الفرنسية دورا مهما ولا يزال، في صياغة نخبة من المتعلّمين والمثقفين الذين يرتبطون بفرنسا ويدورون في فلكها حبا وهياما.
وحتى اليوم يعد المعهد الفرنسي مركزا ثقافيا أساسيا في العاصمة اللبنانية، يتولى تسهيل معاملات الطلاب اللبنانيين الراغبين بمتابعة تعليمهم في فرنسا وهم كثر، كما يحتضن المعهد أحداثا ثقافية عدة، ويمول أعمالا فنية ومسرحيات، ويعد من أبرز الداعمين للنشاط الفني على الساحة المحلية اللبنانية.
وهناك أيضا المركز الثقافي الفرنسي وفروعه المختلفة في بعض المدن اللبنانية، والذي يعترف مديره الفرنسي بدوره في “نشر القيم الفرنسية التي تشد روابط التواصل والحوار”.
وفي لبنان أيضا تنتشر العديد من المدارس الفرنكوفونية، والتي تدار من قبل راهبات تابعات للكنائس الكاثوليكية، ويتعلم التلاميذ اللبنانيون فيها اللغة الفرنسية كأنها لغتهم الأم الثانية، ويقدم جزء كبير منهم الامتحانات الرسمية في مختلف المواد باللغة الفرنسية.
وتعد باريس محجاً لآلاف الطلاب اللبنانيين سنويا، كما تعيش فيها جالية لبنانية كبيرة، وكذلك يعيش آلاف الفرنسيين في لبنان. وتدعم فرنسا قوات “اليونيفل” التابعة للأمم المتحدة بأكثر من 600 عنصر، كما تعد من أبرز الدول المستوردة من لبنان، ومن الملفت للنظر أن لفرنسا في لبنان اسم مستعار هو “الأم الحنون”، يقال من باب السخرية حيناً، ومن باب الإشادة حيناً آخر، تبعاً لخلفيات القائل، فالعلاقة مع فرنسا إشكالية ومتشعبة، ولم تحظ يوما بإجماع اللبنانيين.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن دعم فرنسا للبنان بدأ منذ القرن الثالث عشر، وقد أخذت فرنسا على عاتقها حماية الكاثوليك في لبنان (الموارنة) في معاهدة وقّعت عام 1535، وتمتد المراسلات بين الملوك الفرنسيين والبطاركة (رؤساء الكنيسة) منذ ذلك العهد، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، وُضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي عام 1920، عندما أعلن الجنرال الفرنسي غورو تأسيس دولة لبنان الكبير، وذلك في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، فتم وضع المناطق المتفككة وبينها متصرفية جبل لبنان تحت الوصاية الفرنسية بموجب اتفاقية سايكس بيكو، واستمر الانتداب الفرنسي على لبنان مدة خمسة وعشرين عاما، وبعد صراع سياسي أعلن اللبنانيون استقلال بلادهم تحت اسم الجمهورية اللبنانية عام 1943، ومن ثم تم توقيع الميثاق الوطني اللبناني.
وتاريخيا أيضا ومنذ الخمسينات كان لمسيحيي لبنان وهم طائفة الموارنة، دور في فتح بلادهم للدعاة الشيعة القادمون من إيران، وتسهيل التأشيرات المقدمة لهم ليساعدوا في نشر التشيع في ربوع لبنان، ثم العمل على تمكينهم من قدر من الوظائف العليا للحد من النفوذ السني المتأصل في الأراضي اللبنانية.
وبالرغم من ذلك فإن كثير من موارنة لبنان ينكرون أو يتغافلون على أن واقع لبنان اليوم، لم يعد كما هو لبنان في منتصف القرن الماضي (القرن العشرين)، بل أضحى في داخله ثلاث دول: دولة الجذور وهي تمثل في غالبيتها أهل السنة بجذورهم التي تمتد قرون طويلة في هذه الأرض، ودولة الاحتلال التي عملت فرنسا على صناعتها عندما هجرت مسيحيي الشام إلى لبنان، وهي دولة ذات طابع متأثر بالغرب وبالتحديد فرنسا ويمثلها في غالبيتها مسيحيو لبنان وفي قمتهم الطائفة المارونية فضلا عن الأرمن والأرثوذكس وغيرهم من الطوائف المسيحية، ثم الدولة المسيطرة على الأرض وهي دولة حزب الله المدعومة من إيران، والتي اختطفت لبنان وحولته إلى جزء من الهلال الشيعي ومشروع إيران في المنطقة.
فلبنان تتنازعه أزمة هوية حقيقية بين ثلاثة تيارات: الفرنكفوني المسيحي، والعربي السني، ثم الفارسي الشيعي، فهذا النزاع أوجد ساحات واسعة من الصراع السياسي والثقافي الممتد، وغير قابل للحسم.
هنا تكمن مشكلة النظام السياسي اللبناني الكبرى والذي وصل الآن إلى مرحلة شبه انهيار مما دفع بعض اللبنانيين إلى المطالبة برجوع الاحتلال الفرنسي بينما نزل آخرون إلى الشارع مطالبين بإسقاط النظام.
ويترتب ويتفرع من هذه الإشكالية الكبرى مشكلة أخرى وهي مشكلة عرفية قانونية دستورية:
يقوم النظام السياسي اللبناني على التقسيم الطائفي للسلطات الدستورية والمناصب الإدارية، بحيث يضمن تمثيل فئات معينة ولكن هذا التقسيم الصارم أدى أيضا إلى شلل عملية صنع القرار السياسي ودوران السلطة في طبقة سياسية معينة من الطوائف الثلاثة الكبرى يتوارث زعامتها الأبناء بعد الآباء.
هذا التقسيم الطائفي أدى إلى قيام حرب أهلية شرسة عام 1975، وكان من نتيجتها اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب ولكن لم يوقف مسبباتها، ولكن أخطر ما جاء به اتفاق الطائف أنه أعطى للنظام السوري بزعامة آل الأسد حق الوصاية على لبنان، ومن ثم تصاعد نفوذ الشيعة وإيران في النظام السياسي، ولكن ظل نظام آل أسد يتحكم بدرجة أكبر في القرار السياسي اللبناني حينئذ، فكان على سبيل المثال يأمر الحريري بالتمديد لإميل لحود كرئيس للبنان، بالرغم من أن اتفاق الطائف قد أعطى لمنصب رئيس الوزراء الذي يسيطر عليه السنة صلاحيات أكبر تم انتزاعها من صلاحيات رئيس الجمهوري المسيحي، كما أعطى مناصب أمنية أكثر للشيعة سواء في الشرطة أو الجيش، ونجح نظام الأسد في سوريا في إدارة هذه الانقسامات وفي تفاقمها أحيانا حتى ينفرد بالهيمنة على لبنان.
ولكن أدى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، الذي لم يستسلم استسلاما كاملا للوصاية السورية، إلى انسحاب سوري تدريجي من لبنان في العام 2005، ثم انسحاب كامل مع اندلاع الثورة السورية في العام 2011، تاركة لبنان لينفرد بقراره السياسي إيران وذراعها حزب الله، مما أدى إلى حالة احتقان وغليان في لبنان واحتكاكات بين أهل السنة والشيعة، فقد شعر السنة بالغبن نتيجة سيطرة الشيعة بالسلاح على القرار السياسي وتحالف بعض المسيحيين معهم.
والآن يحاول حزب الله الاحتفاظ بالنفوذ الإيراني على لبنان، بينما يتجه مسيحو لبنان أو الغالبية منهم إلى فرنسا لتكون لهم حضنا مرة أخرى…بينما يقف أهل السنة في حيرة بعد أن تخاذل محيطهم العربي عن دعمهم، أو بالأحرى غياب مشروع عربي سني ليقف في وجه المشروعات التي تحاول السيطرة على المنطقة.
(المصدر: مجلة البيان)