عملية القدس.. دلالات الزمان والمكان والمنفذ والسلاح
بقلم د. عدنان أبو عامر
شكلت عملية القدس الفدائية التي نفذها الشيخ المعلم فادي أبو شخيدم استمراراً لهجمات بطولية سابقة، استهدفت قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين المحتلين، صحيح أنها تتوقف أحياناً، لكنها تعود أقوى عوداً وأصلب قوة في أحيان أخرى، ومع ذلك؛ فإن هذه العملية تحمل جملة دلالات سياسية وعسكرية وأمنية عديدة، تستحق التوقف عندها، واحدة تلو الأخرى.
لعل الدلالة الأولى والأهم لهجوم القدس الذي أوقع قتيلاً «إسرائيلياً» وأصاب آخرين، بالإضافة إلى استشهاد منفذها، تتعلق بالتوقيت الخاص بها؛ فقد فوجئ «الإسرائيليون» من وقوعها، في ظل الانتشار المكثف لقواتهم الأمنية، وعدم وجود إنذارات أو تحذيرات استخبارية عن نوايا فصائل فلسطينية تنفيذ هجمات مسلحة أو عمليات عسكرية؛ الأمر الذي يعني بصورة أو بأخرى أن هناك ثغرة أمنية قاسية لدى هذه الأجهزة التي تتشدق ليل نهار بأنها تحكم سيطرتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحصي على الفلسطينيين أنفاسهم، لكن شخيدم أتاهم من حيث لم يحتسبوا، ونفذ عمليته في وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، حتى إن كاميرات التلفزة استطاعت أن تلتقط له الصور الأخيرة وهو يطلق الرصاص على الجنود والمستوطنين.
توقيت العملية جاء في ظل تزايد اقتحام المستوطنين لـ “الأقصى” دون اكتراث ببيانات الإدانة الدولية
أكثر من ذلك، فإن توقيت العملية جاء في ظل تزايد عمليات اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى المبارك، دون اكتراث ببيانات الشجب والإدانة والاستنكار، التي تصدرها الدول العربية والإسلامية، والمنظمات الدولية، لكن شخيدم قرر أن يرد على هذه الاقتحامات بطريقته الخاصة، من خلال استهدافه لقوات الاحتلال التي توفر للمستوطنين الحماية الكاملة، ولعل من الأمور اللافتة أن يكون القتيل «الإسرائيلي» يعمل مرشداً سياحياً لمؤسسة يهودية معنية باقتحامات الأقصى، ويسوق لهم الرواية اليهودية الباطلة حول المزاعم التاريخية في القدس والأقصى.
الدلالة الثانية مرتبطة بالمكان الذي وقعت فيه العملية، وهي القدس، وأي مكان سوى القدس يصلح لأن تقع فيه هذه العمليات، ويرتقي فيه الشهداء، ويخر المحتلون صرعى وقتلى؟! فكيف لو كان الحال «باب السلسلة» في قلب المسجد الأقصى، الذي يشهد في الآونة الأخيرة ذروة الاقتحامات الاستيطانية اليهودية؛ في محاولة مستميتة لتغييب الحق التاريخي للفلسطينيين والعرب والمسلمين في أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي لا تشدُّ الرحال إلا إليها، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك جعل من عملية القدس رداً طبيعياً ومتوقعاً على هذه السياسة «الإسرائيلية» الرسمية، على أمل أن تكبح جماحها، وتردعها عن المضي قدماً فيها، قبل أن يفوت الأوان، وحينها لا ينفع الندم، بعد أن تهود القدس، ويصبح «أقصانا هيكلهم»، و»براقنا مبكاهم».
العملية حملت رسالة أن تنفيذ الهجمات لا يقتصر على فئة عمرية بعينها ولا مستوى تعليمي محدد
نموذج فريد
حملت عملية القدس دلالة ثالثة متعلقة بمنفذها، فنحن اليوم أمام نموذج فريد من منفذي الهجمات المسلحة، الذين تبلور لدى الفلسطينيين و»الإسرائيليين» على حد سواء تصور يجعلهم يختزلون المنفذين في شبان، وفتيان صغار، وأحياناً أخرى فتيات، لكننا هذه المرة أمام مواصفات لم تتكرر كثيراً في منفذي العمليات المسلحة.
إن الشيخ فادي أبو شخيدم، ابن الـ42 عاماً، الحاصل على درجة الماجستير في الدراسات الشرعية، وأحد خطباء القدس ووجهائها، ومربي الأجيال، حيث يعمل معلماً في مدرسة الرشيدية، والأب لعدة أبناء، هذا نموذج عز نظيره بين منفذي الهجمات المسلحة، ويحمل إشارات بليغة لا تخطئها العين، من أهمها أنها ترسل رسالة أن تنفيذ الهجمات لا يقتصر على فئة عمرية بعينها، ولا ينحصر في مستوى تعليمي محدد، وقائمة منفذي عمليات المقاومة يجب أن تشمل جميع الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، من مختلف الأعمار والمراحل؛ لأن الاحتلال يستهدفهم جميعاً، ولا يستثني أحداً منهم، ولذلك فمن الطبيعي أن يكون الجزاء من جنس العمل.
أكثر من ذلك، فإن هوية أبو شخيدم، كعالم دين، وخطيب، ومعلم، يجعل منه أنموذجاً يحتذى لدى كثيرين آخرين، فقد كان بإمكانه أن يكتفي بدور التحريض والتعبئة، ولعله كان بإمكانه أن يقنع نفسه بأهمية دوره التنظيري والتوجيهي، لكنه لم يقنع بذلك أبداً، وكأنه امتثل لقول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام
لم يخطر ببال قوات الاحتلال أن ينتقل شخيدم فجأة من دور المعلم إلى المقاوم
وفي الوقت ذاته، يبعث برسائل قاسية إلى أولئك العلماء المنتسبين إلى الدين ممن ارتضوا أن يكونوا جسراً يعبر عليه الحكام للتطبيع مع الاحتلال، فيسوغوا لهم الأمر، ويصدروا الفتاوى الجاهزة، والأحكام المعلبة، حتى جاء شخيدم فأقام عليهم الحجة.
مع العلم أن المنفذ كان معروفاً لقوات الاحتلال بأنه من نشطاء «حماس»، لكنه لم يخطر ببالها أن ينتقل فجأة من دور المعلم والشيخ إلى المهاجم والمقاوم، وهذه لعمري كانت مفاجأة من العيار الثقيل، لم تستفق منها المخابرات «الإسرائيلية» بعد، رغم أن وزير الأمن الداخلي «عومر بارليف» وصف فادي شخيدم بأنه «دأب على الحضور كل يوم للصلاة في المسجد الأقصى، لكنه يوم العملية قرر القدوم مع السلاح، حتى إن الهجوم برمته استمر فقط 30 ثانية».
السلاح المستخدم
الدلالة الرابعة المرتبطة بعملية القدس تمثل بالسلاح المستخدم لتنفيذها، ولا سيما في ضوء الحملات الأمنية المسعورة التي تشنها قوات الاحتلال على الفلسطينيين، لمصادرة أي قطعة سلاح قد تصل إلى أيديهم، خشية استخدامها في تنفيذ هجوم فدائي، ورغم ذلك؛ فإن الفلسطينيين، خاصة أولئك الذين تتوفر لديهم إرادة المقاومة، وقهر المحتل، وإيلامه، لن تعوزه الطريقة والوسيلة للحصول على ذلك السلاح، رغم صعوبة الظروف وتعقيدها، فالحديث لا يدور عن الضفة الغربية أو قطاع غزة، بل عن القدس المحتلة، التي تشهد انتشاراً مكثفاً لقوات الاحتلال وأجهزته الأمنية على مدار الساعة، وتنشر جواسيسها في كل زقاق، لتزويدها عن أي قطعة سلاح وصلت إلى أيدي المقدسيين.
الأكثر خطورة من حيازة شخيدم للسلاح ارتداؤه درعاً واقية من الرصاص وتنكره بزي مستوطن يهودي
لعل الأكثر خطورة من حيازة شخيدم لسلاح ناري قتل به وأصاب من «الإسرائيليين»، ما ارتداه من درع واقية من الرصاص، وتنكره بزي مستوطن يهودي، كي يقترب أكثر من أهدافه، وتكون رصاصاته قاتلة، وليست جارحة فقط، وهو ما حصل فعلاً، ولعل الأساليب التنكرية تشير إلى حالة من الشجاعة والأريحية في آن واحد معاً لدى منفذ العملية، لأنه استفاد كثيراً من عمليات سابقة حين كان يباغت جنود الاحتلال المهاجمين الفلسطينيين، قبل أن يستلوا سلاحهم، بسبب الانتشار الكبير لهم في الساحات المرشحة لوقوع العمليات فيها.
الخلاصة من عملية القدس أنها شكلت هجوماً حاسماً وفاصلاً في تاريخ المواجهة مع الاحتلال، وعنوانها القدس والأقصى هذه المرة، وتذكير للعالم بأسره أن هذه المدينة والمسجد هما أساس الصراع، وأي حل سياسي يتجاوزهما لن يكتب له الدوام والبقاء، وفي الوقت ذاته؛ فإن سياسة فرض الأمر الواقع التي ينتهجها الاحتلال تجاه المقدسيين، ومحاولات تهويد المدينة المقدسة لن تبقى بدون رد فلسطيني، ولو جاء على صيغة مثل هذه العمليات الفردية التي تؤكد أن للقدس والأقصى رجالاً يحمونها، ويدافعون عنها، ولو عز النصير من العرب والمسلمين وأحرار العالم.
المصدر: مجلة المجتمع