مقالاتمقالات مختارة

عمر المختار … شيخ الأحرار والشهداء

عمر المختار … شيخ الأحرار والشهداء

بقلم د. علي الصلابي

تصادف هذه الأيام الذكرى التاسعة والثمانون لإعدام شيخ المجاهدين البطل الشهيد عمر المختار (16 سبتمبر 1931م)

ارتسمت صورة الشيخ المجاهد عمر المختار في الذاكرة الشعبية العربية والإسلامية منذ زمن طويل، وساهم في تكوين تلك الصورة الرمزية النضالية فيلم عمر المختار التاريخي الذي عُرض في ثمانينات القرن العشرين، والذي تناول تاريخ الكفاح الشعبي الليبي بقيادة المختار وأبطال السنوسية في ليبيا ضد المستَعمِر الإيطالي. فمن هو عمر المختار؟ وكيف تحولت سيرته إلى حديث الركبان وملأت سمعته الأركان؟
1. مولد المختار ونشأته: 
ولد الشيخ الجليل عمر المختار من أبوين صالحين عام (1862 م)، وقيل: (1858 م)، وكان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات، وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر، ونشأ وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة التي استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
توفي والده في رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققاً رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الإخوان والقبائل الأخرى.
ذاق عمر المختار ـ رحمه الله ـ مرارة اليتم في صغره، فكان هذا من الخير الذي أصاب قلبه المليء بالإيمان، وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث التجأ إلى الله القوي العزيز في أموره كلها، وظهر منه نبوغ منذ صباه مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء، والفقهاء والأدباء والمربين الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين، ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوها بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وإفريقيا؛ لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة، ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة.
وأصبح على إلمام واسع بشؤون البيئة التي تحيط به، وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه، وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فضَّ الخصومات البدوية، وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات، كما أنه أصبح خبيراً بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يختارها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج، وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو، وهي اختيارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها، فهذه المعلومات تدل على ذكاء عمر المختار وفطنته منذ شبابه.
2. المختار وصفاته الجسدية: 
كان عمر المختار متوسط القامة، يميل إلى الطول قليلاً، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ، أجش الصوت، بدوي اللهجة، رصين المنطق، صريح العبارة، لا يمل حديثه، متزناً في كلامه، تفتر ثناياه أثناء الحديث عن ابتسامة بريئة، أو ضحكة هادئة إذا ما اقتضاها الموقف، كثيف اللحية، وقد أرسلها منذ صغره، تبدو عليه صفات الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام، والثبات عند المبدأ، وقد أخذت هذه الصفات تتقدم معه بتقدم السن.
3. المختار.. شجاعته وكرمه:
إن هذه الصفة ظهرت في سيرة عمر المختار منذ شبابه المبكر، ففي عام 1894م تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد إلى السودان، يضم كلاًّ من السيد خالد بن موسى، والسيد محمد المسالوسي، وقرجيلة المجبري، وخليفة الدبار الزوي أحد أعضاء زاوية واو بفزان، وفي الكفرة وجد الوفد قافلة من التجار من قبيلتي الزوية والمجابرة، وتجار آخرين من طرابلس وبنغازي تتأهَّب للسفر إلى السودان، فانضم الوفد إلى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية، ولهم خبرة جيدة بدروبها.
وعندما وصل المسافرون إلى قلب الصحراء بالقرب من السودان؛ قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق: إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وعر لا مسلك لنا غيره، ومن العادة ـ إلا في القليل النادر ـ يوجد فيه أسد ينتظر فريسته من القوافل التي تمر من هناك، وتعودت القوافل أن تترك له بعيراً كما يترك الإنسان قطعة اللحم إلى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام، واقترح المتحدِّث أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل ويتركونه للأسد عند خروجه، فرفض عمر المختار بشدة قائلاً: (إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت؛ فكيف يصح لنا أن نعيد إعطاءها للحيوان؟! إنها علامة الهوان والمذلة، إننا سندفع الأسد بسلاحنا إذا ما اعترض طريقنا).
وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلاً: إنني أخجل عندما أعود وأقول: إنني تركت بعيراً إلى حيوان اعترض طريقي، وأنا على استعداد لحماية ما معي، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها، وما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الأسد من مكانه الذي اتخذه على إحدى شرفات الممر، فقال أحد التجار ـ وقد خاف من هول المنظر وارتعشت فرائصه من ذلك ـ: أنا مستعد أن أتنازل عن بعير من بعائري ولا تحاولوا مشاكسة الأسد، فانبرى عمر المختار ببندقيته ـ وكانت من النوع اليوناني ـ ورمى الأسد بالرصاصة الأولى فأصابته، ولكن في غير مقتل، واندفع الأسد يتهادى نحو القافلة، فرماه بأخرى فصرعته، وأصر عمر المختار على أن يسلخ جلده ليراه أصحاب القوافل، فكان له ما أراد.
إن عمر المختار كان صاحب قلب موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاوة الغلبة بعدما تخلَّص من الأسد الأسطورة، وأزاح الظلم، وقهر التعدي، بل نسب الفضل إلى خالقه ولذلك أجاب سائله بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفَال: 17].
4. المختار وعلاقته مع القرآن الكريم
كان عمر المختار شديد الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها، وكان يقرأ القرآن يومياً، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام منذ أن قال له الإمام محمد المهدي السنوسي: يا عمر وردك القرآن.
إن المحافظة على تلاوة القرآن والتعبد به تدل على قوة الإيمان، وتعمقه في النفس، وبسبب الإيمان العظيم الذي تحلى به عمر المختار انبثق عنه صفات جميلة، كالأمانة والشجاعة، والصدق، ومحاربة الظلم، والقهر، والخنوع، وقد تجلَّى هذا الإيمان في حرصه على أداء الصلوات في أوقاتها؛ قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النِّسَاء: 103]، وكان يتعبد المولى عز وجل بتنفيذ أوامره، ويسارع في تنفيذها، وكان كثير التنفل في أوقات الفراغ، وكان قد ألزم نفسه بسنة الضحى، وكان محافظاً على الوضوء حتى في غير أوقات الصلاة، ومما يروى عنه أنه قال: لا أعرف أنني قابلت أحداً من السادة السنوسية وأنا على غير وضوء منذ شرفني الله بالانتساب إليهم.
وهذا المجاهد محمود الجهمي الذي حارب تحت قيادة عمر المختار وصاحبه كثيراً، يذكر في مذكراته: أنه كان يأكل معه، وينام معه في مكان واحد، ويقول: (لم أشهد قط أنه نام لغاية الصباح، فكان ينام ساعتين أو ثلاثاً على أكثر تقدير، ويبقى صاحياً يتلو القرآن الكريم، وغالباً ما يتناول الإبريق ويسبغ الوضوء بعد منتصف الليل، ويعود إلى تلاوة القرآن، لقد كان على خلق عظيم، يتميَّز بميزات التقوى والورع، ويتحلَّى بصفات المجاهدين الأبرار…).
إن من أسباب الثبات التي تميز بها عمر المختار حتى اللحظات الأخيرة من حياته إدمانه على تلاوة القرآن الكريم والتعبد به وتنفيذ أحكامه، لأن القرآن الكريم مصدر تثبيت وهداية، وذلك لما فيه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولما فيه من ذكر مآل الصالحين، ومصير الكافرين والجاحدين وأوليائه بأساليب متعددة.
لقد كان عمر المختار يتلو القرآن الكريم بتدبر وإيمان عظيم، فرزقه الله الثبات وهداه طريق الرشاد، ولقد صاحبَهُ حالُه في التلاوة حتى النفس الأخير، وهو يساق إلى حبل المشنقة، وهو يتلو قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً *} [الفَجر: 27-28] ـ

ظل المختار في الجبل الأخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله، وكانت من عادة عمر المختار الانتقال في كل سنة من مركز إقامته إلى المراكز الأخرى التي يقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقد أحوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرض يستعد للطوارئ، ويأخذ معه قوة كافية تحرسه من العدو الذي يتربص به الدوائر في كل زمان ومكان، ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب في هذه السنة كعادته في نفر قليل يقدر بمئة فارس، ولكنه عاد فردَّ من هذا العدد ستين فارساً وذهب في أربعين فقط.
ويوجد في الجبل الأخضر واد عظيم معترض بين المجاهدين اسمه وادي الجريب (بالتصغير)، وهو صعب المسالك كثير الغابات، كان لا بد من اجتيازه، فمر به عمر المختار ومن معه، وباتوا فيه ليلتين، وعلمت بهذا إيطاليا بوساطة جواسيسها في كل مكان، فأمرت بتطويق الوادي على عجل من جميع الجهات، فما شعر عمر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو، والتحمت المعركة داخل الوادي، وحصد رصاص المجاهدين عدداً كبيراً من الأعداء، وسقط الشهداء، وأصيب عمر المختار بجراح في يده، وأصيب فرسه بضربة قاتلة، وحُصرت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكن من سحبها، ولم تسعفه يده الجريحة.
والتفت المجاهد ابن قويرش فرأى الموقف المحزن، وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: ((الحاجة التي تنفع عقبت ـ أي: تخلفت))، فعادوا لتخليص قائدهم، ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم، وكان ابن قويرش أول من قتل وهو يحاول إنقاذ الشيخ الجليل، وهجم جنود الطليان على الأسد الجريح دون أن يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه، وتعرَّف عليه أحد الخونة، وجاء الكمندتور داود باتشي متصرف درنة ليتعرف على الأسير، وبمثل سرعة البرق نقل عمر المختار إلى ميناء سوسة محاطاً بعدد كبير من الضباط والجنود الإيطاليين، وأخذت كافة الاحتياطات لحراسة جميع الطرق والمواقع القريبة لتأمين وصول المجاهد العظيم إلى سوسة، ومن ثم نقل فوراً إلى بنغازي عن طريق البحر.
يقول غراسياني في مذكراته:
هذا الرجل أسطورة الزمان الذي نجا آلاف المرات من الموت ومن الأسر، واشتهر عند الجنود بالقداسة والاحترام؛ لأنه الرأس المفكر والقلب النابض للثورة العربية (الإسلامية) في برقة، وكذلك كان المنظم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين طويلة، والآن وقع أسيراً في أيدينا.
ويقول الجنرال غراسياني عن عمر المختار أيضا: «كان عمر المختار كرئيس عربي مؤمن بقضية وطنه، وله تأثير كبير على أتباعه مثل الرؤساء الطرابلسيين يحاربون بكل صدق وإخلاص، وأقول ذلك عن تجارب مرت بي أثناء الحروب الليبية، وكان عمر المختار من المجاهدين الكبار لما له من مكانة مقدسة بين أتباعه ومحبيه، إن عمر المختار يختلف عن الآخرين؛ فهو شيخ متديِّن بدون شك، قاسٍ وشديد التعصب للدين، ورحيم عند المقدرة، ذنبه الوحيد أنه يكرهنا كثيراً، وفي بعض الأوقات يسلط علينا لسانه ويعاملنا بغلظة مثل الجبليين، كان دائماً مضادّاً لنا ولسياستنا في كل الأحوال، لا يلين أبداً ولا يهادن إلا إذا كان الموضوع في صالح الوطن العربي الليبي، ولم يخن أبداً مبادئه؛ فهو دائماً موضع الاحترام رغم التصرفات التي تحدث منه في غير صالحنا.
دخول المختار في سجن بنغازي:
وعندما وصل الأسير إلى بنغازي لم يسمح لأي مراسل جريدة أو مجلة بنشر أخبار أو مقابلات، وكان على الرصيف مئات من المشاهدين عند نزوله في الميناء، ولم يتمكن أي شخص مهما كان مركزه أن يقترب من الموكب المحاط بالجنود المدججين بالسلاح، ونقل فوق سيارة السجن تصحبه قوة مسلحة بالمدافع الرشاشة؛ حيث أودع في زنزانة صغيرة خاصة منعزلة عن كافة السجناء السياسيين، وتحت حراسة شديدة.
محاكمة عمر المختار رحمه الله:
في الساعة الخامسة مساءً في (15 سبتمبر1931 م) جرت تلك المحاكمة التي أعد لها الطليان مكان بناء (برلمان برقة) القديم، وكانت محاكمة صورية شكلاً وموضوعاً.
ودليل ذلك أن الطليان ـ قبحهم الله ـ كانوا قبل بدء المحاكمة بيوم واحد قد أعدوا (المشنقة) وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحكم قبل صدوره، وإنك لتلمس ذلك في نهاية الحديث الذي دار بين البطل وبين غراسياني؛ حيث قال له: ((إني لأرجو أن تظل شجاعاً مهما حدث لك أو نزل بك)).
ويصف الدكتور العنيزي ذلك فيقول: ((جاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبلاً بالحديد، وحوله الحرس من كل جانب.. وكان مكاني في القاعة بجوار السيد عمر، وأحضر الطليان أحد التراجمة الرسميين واسمه نصرت هرمس، فلما افتتحت الجلسة وبدأ استجواب السيد، بلغ التأثر بالترجمان، حدّاً جعله لا يستطيع إخفاء تأثره، وظهر عليه الارتباك، فأمر رئيس المحكمة باستبعاده وإحضار ترجمان آخر، فوقع الاختيار على أحد اليهود، وهو لمبروزو، من بين الحاضرين في الجلسة، وقام لمبروزو بدور المترجم، وكان السيد عمر رحمه الله جريئاً صريحاً، يصحح للمحكمة بعض الوقائع، خصوصاً حادث الطيارين الإيطاليين أوبر وبياتي)).
وبعد استجواب السيد ومناقشته وقف المدعي العام بدندو، فطلب الحكم على السيد بالإعدام. وبعد مضي فترة قصيرة من الانتظار تلى القاضي الحكم  بإعدام عمر المختار شنقاً حتى الموت، وعندما ترجم الحكم إلى عمر المختار قهقه بكل شجاعة قائلاً: الحكم حكم الله لا حكمكم المزيف، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وأراد رئيس المحكمة أن يعرف ما قاله السيد عمر.. فسأل الترجمان أن ينقل إليه عبارته، ففعل، وعندئذ بدا التأثير العميق على وجوه الإيطاليين أنفسهم الذين حضروا هذه المحكمة.

إعدام شيخ الجهاد في بلادنا الحبيبة:
وفي يوم 16 سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة (1931 م) عند الساعة التاسعة صباحاً؛ نفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الإعدام شنقاً في شيخ الجهاد وأسد الجبل الأخضر بعد جهاد طويل ومرير.
ودفعت الخسة بالإيطاليين أن يفعلوا عجباً في تاريخ الشعوب، وذلك أنهم حرصوا على أن يجمعوا حشداً عظيماً لمشاهدة التنفيذ، فأرغموا أعيان بنغازي، وعدداً كبيراً من الأهالي من مختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ، فحضر ما لا يقل عن عشرين ألف نسمة، على حد قول غراسياني في كتاب (برقة الهادئة).
ويقول الدكتور العنيزي: ((لقد أرغم الطليان الأهالي والأعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ، وكنت أحد أولئك الذين أرغمهم الطليان على المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن شأني في ذلك شأن سائر أبناء بلدتي، لم أكن أستطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة، فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشؤوم، إلا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور.
ويا لها من ساعة رهيبة التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين إلى حبل المشنقـة، وقد ظل المختار يردد الشهادتين: أشهد أن لا إلـه إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
لقد كان الشيخ الجليل يتهلل وجهه استبشاراً بالشهادة، وارتياحاً لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، و صوت مدوٍّ لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار؛ إذ ربما يتحدث إليهم أو يقول كلاماً يسمعونه، وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء.
وهناك أعمل فيه الجلاد حبل الظالم، فصعدت روحه الطاهرة إلى ربها راضية مرضية، هذا وكان الجميع من أولئك الذين جاؤوا يساقون إلى هذا المشهد الرهيب ينظرون إلى السيد عمر وهو يسير إلى المشنقة بخطا ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد، وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمثابة التحية الأخيرة لأبناء وطنه.
لقد استجاب الله دعاء الشيخ الجليل، وجعل موته في سبيل عقيدته ودينه ووطنه، لقد كان يقول: ((اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة)).
ونختم استشهاد عمر المختار رحمه الله بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * } [آل عِمرَان: 145].
ومن سيرة عمر المختار العطرة نستخلص دروساً وعبراً تفيدنا كثيراً في حياتنا المعاصرة؛ ليس عمر المختار رحمه الله أول من جاهد ولا أول من استشهد، ولكن كان حاله كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *} [آل عِمرَان: 173] ومفتاح شخصيته الفذة: أنه آمن بالله، واستقرت معانيه في قلبه، فأصبح لا يخشى إلا الله، وهذا الصنف من المسلمين هو أقوى ما عرفته البشرية؛ وهو الإنسان الحر في أعلى معاني الحرية.
جرد قلبه من الأوهام ومن الشركيات والضلال ومن الشبهات والشهوات، وخلص قلبه من كل ظلمة تحول بينه وبين دخول التوحيد الصحيح إليه.
فالفريد في سيرته: أنه أحيا شيئاً كاد يندثر، أحيا معاني الإيمان التي كان الناس قد بدؤوا ينصرفون عنها، إنه بنيان أُسِّس على التقوى، فعاش مباركاً في حياته وفي مماته.
والعبرة الثانية: أنه كان داعياً إلى الله بإذنه، تربى على أيدي دعاة السنوسية، فلما اكتمل وترعرع، أدى الرسالة وبلغ الأمانة وأنذر وبشر، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه.
والعبرة الأخرى: أنه كان على فهم صحيح لدينه، يأخذه كلاًّ لا يتجزأ، فلا هو بالتدين المنحرف، ولا هو بالتدين البعيد عن جوهر الدين، وإنما هو رجل مؤمن، يعلم أن الإسلام لا يصح أن يؤخذ بعضه ويترك بعضه، وإنما عليه أن يعمل به كله.
والعبرة الأخرى: أنه لم يسعَ للشهرة، لأن المخلصين لا يبحثون عن الشهرة، وإنما يبحثون عن رضا الله سبحانه وتعالى. ولذلك جعل الله له ذكراً في الدنيا ونسأل الله أن يتغمده برحمته في الآخرة.

المراجع:

1- علي محمد الصلابي، الثمار الزكية للحركة السنوسية، ج3، ص (513).
2- إدريس الحريري، عمر المختار نشأته وجهاده، ص (65).
3- الأشهب، عمر المختار، ص (26).
5- محمد الطيب وأحمد إدريس الأشهب، برقة العربية الأمس واليوم، مطبعة الهواري، القاهرة، ص (439).

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى